تمتاز الخارطة الانتخابية المقررة في 12 آيار المقبل، بجملة من الظواهر التي تعبّر في مجملها عن تغيرات مهمة على صعيد العمل السياسي في العراق بدفعٍ من "بلاغة الجمهور" من جهة، ومقاومة حثيثة من قبل القوى السياسية من جهة أخرى.
تسعى هذه الورقة الى اجمال هذه التحولات السوسيوسياسية بنقاط:
أولا: عند النظر الى طبيعة القانون الانتخابي وتحولاته منذ 2005 حيث أولى الانتخابات للجمعية الوطنية، الى الانتخابات المنتظرة في 2018، يلاحظ تحولات إيجابية من قانونٍ كان يعد العراق دائرة انتخابية واحدة والاختيار للقوائم المغلقة، ثم تحول الى العراق دوائر متعددة وقوائم مغلقة، ثم دوائر متعددة وقوائم مفتوحة، ثم دوائر متعددة وقوائم مفتوحة على وفق قانون سانت ليغو المعدل، وهي بمجملها تحولات حققت جملة من الأهداف منها:
تكسير التحالفات الطائفية المعلنة.
زيادة الرقابة الشعبية على ممثليهم البرلمانيين من خلال آليات التصويت.
زيادة شرعية النواب بوصفهم افرادا، في اتخاذ القرارات، في مقابل شرعية الأحزاب والكتل والقوائم.
صعود القوى السياسية الصغيرة والمتوسطة لصالح تعددية الأصوات الممثلة للجمهور الانتخابي.
زيادة منسوب الشعارات والمطالب الخدمية والاقتصادية قياسا بالمطالب ذات الطبيعة السياسية بأنواعها القومية والدينية والطائفية.
ثانيا: للرأي العام العراقي طريقته الخاصة في التعبير عن الرفض او القبول بالقوى السياسية والعملية الديمقراطية. ويعبّر الجمهور بطريقته المميزة من خلال الشعارات الاحتجاجية في المظاهرات، والأهازيج العشائرية، والتعليقات الغاضبة او العبارات الساخرة وحتى الصور والأفلام المتلاعب بها، والسخرية والتهكم وحتى من خلال الانضمام المبهر لصفوف المتطوعين للقتال ضد داعش، او على شكل الاستقبال المفاجئ للفريق السعودي مؤخرا. 
ان مثل هذه الاشكال من التعبير يعد بمقاييس اللغة "بلاغة الجمهور" وهي غير منضبطة بالطبع بالمقاييس اللغوية او السياسية او الإعلامية العلمية.
إن مثل هذه البلاغة زادت حدتها وتدفقها كلما زاد انسداد الأفق السياسي امام الإصلاح والتغيير، كما انها –أي هذه البلاغة- ازدادت مؤخرا بزيادة إمكانية التفاعل في الفضاء العام المتمثل بشبكات التواصل مثل (الفيسبوك وتويتر والمجموعات المغلقة في الواتساب والفايبر، وكذا الحوارات اليومية التي تؤلفها الحياة اليومية للناس).
ثالثا: تعدّ المأسسة السياسية من ضرورات ادامة الحياة السياسية وتراكم الخبرة فيها لصالح انسجامها المؤدي الى استقرار حياة المواطنين ضمن الأمة العراقية. والمأسسة أيضا من ضروريات الحياة الديمقراطية الصحية والسليمة. 
وتشير الرضوض التي أصيبت بها أحزاب مثل (حالة حزب الدعوة الإسلامية، والاتحاد الوطني الكردستان، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والتيار الصدري) ، بل تشظي بعض الأحزاب أحيانا أخرى (كما في انشطار المجلس الأعلى الإسلامي العراقي)، يشير الى خلل في الفهم السياسي او على الأقل قصور آليات الفعل السياسي الداخلي لدى هذه الأحزاب، وبالنتيجة ضياع بوصلة الجمهور باتجاهها في أوقات الانتخابات، او عند الاحداث الحاسمة.
ويتوقع من كل ما سبق أن ينتج نفورا عن المشاركة في العملية الانتخابية فضلا عن صعوبة التنبؤ بالمستقبل السياسي للبلاد. 
ان العملية الديمقراطية هي ثورة صامتة يغير فيها الشعب الحاكمين من دون ان يتم بالضرورة فقدان إمكانية التنبؤ بالمستقبل السياسي، اذ ان ذلك من ضروريات استقرار النظام. الا ان تشظي الأحزاب واصابتها بالرضوض قد يؤدي الى عدم الاطمئنان بما هو آت، او شكل النظام المتوقع في الأمدين القصير والمتوسط، فضلا عن الأمد البعيد. 
رابعا: أثّرت صعوبات العمل السياسي الحزبي بدورها على طبيعة التحالفات الانتخابية ضمن القوائم، فهي إضافة الى كونها ليست قوائم حزبية خالصة (لضعف الأحزاب نفسها)، أضحت تأخذ اشكالا غير متوقعة أحيانا، بدفع من المصلحة في الحصول على الأصوات وليس المصلحة في تحقيق البرامج لصالح الجمهور. فتحالف الصدر-الشيوعيين، او الحالف المفاجئ بين الحشد والعبادي، هو من هذا القبيل من التحالفات، التي يمكن ان تكون مخيبة للآمال في نظر الجمهور، لعدم مبدئيتها، وبراغماتيتها المفرطة.
أضف الى ذلك ان كل القوائم الانتخابية الكبيرة تقريبا هي تحالفات افراد، او حتى أحزاب متألفة من افراد يمكن ان يكونوا متباعدين فكريا وايديولوجيا لا يجمعهم جامع حقيقي، وهذا بالطبع ضريبة عدم وجود برامج حقيقية تهم الجمهور، يتم على أساسها اختيار الافراد المنضوين في القوائم. ولا أدلّ على ذلك من ان اياً من القوائم لم تطرح برامج أو لم يعرف عنها برامج واضحة سوى ما يمكن تسميته بـ(شرعية الوجود) أي تلك الشرعية التي يريد أصحابها التواجد في العملية السياسية لأنهم الأحق بذلك ليس الا!! وهذه الأحقية في الغالب تتمثل بمعاداة البعث أو التضحية ضد داعش، او التمثيل الرمزي الديني او الطائفي او القومي او العشائري.
خامساً: لقد انتجت المدة التي أعقبت 2003 والموازنات الانفجارية وحجم الإعمار المخيب للآمال والأرقام المفزعة للفساد وبيئته الحاضنة، طبقة سياسية مرتبطة بمصالح اقتصادية هي بالضرورة غير معبّرة عن الناخب وهمومه.
إن الانتخابات المقبلة تشهد تواجدا لافتاً لتلك الوجوه المتهمة بالفساد، التي شكلت او شاركت أحيانا في قوائم ستنافس في مختلف المحافظات للحصول على مكاسب سياسية بدفع من المال المشبوه. وما هو أكثر خيبة للآمال تواجد وجوه ضمن قوائم مختلفة "لَفَظَها" الجمهور في الانتخابات السابقة، رغم تواجدها في أعلى سلم القوائم في وقتها. 
سادساً: بما ان اغلب القوى السياسية لم تظهر على الساحة الا بدفع من إسقاط النظام بفعلٍ خارجي، فإنها في معظم الحالات لم تجد جذورا شعبية حقيقية لها. فلا توجد طبقات سياسية ممثلة لطبقات اجتماعية اقتصادية، فهناك من الأحزاب من ترى نفسها ممثلة للطبقة الوسطى، لكنها لا تتوانى عن دعم قرارات وقوانين وسياسات اشتراكية. في حين هناك أحزاب محسوبة على ارستقراطية المدن، لم تجد حرجا في أن تدعو الى سياسات تهم الطبقة الوسطى. وبذلك يبدو ان النضج السياسي والاجتماعي، لم يصل الى اللحظة التاريخية الحاسمة، للتمثيل السياسي وفقا لمعادلة الطبقة الاجتماعية/الاقتصادية، الذي يبدو أنه شرط أساس للتغيير والإصلاح المنشودين من قبل الجمهور. 
سابعاً: بناءً على ما تقدم يمكن التوقع بجملة من الأمور خلال وبعد الانتخابات القادمة:
التحالفات "السيالة"، والقوائم المتحركة بأفرادها، وبرامجها، ستنتج بالتزامن مع ضعف القوائم المختلفة في الحصول على أصوات حاسمة، تحالفات متأثرة بشدة بالمفاجآت الطائفية المحتملة. ولا يمكن اغفال دور العامل الخارجي في تشجيع مثل هذه تحالفات المتركزة على المصالح الطائفية (وإن بصوت خافت).
طبيعة البرامج والتحالفات والقوائم بشكلها الفعلي، وبالتزامن مع ضعف احتمالات التغيير والإصلاح الجذري في العملية السياسية يزيد من احتمالات انسحاب الجمهور من المشاركة في الانتخابات. فيصبح حينئذ الوصول الى حاجز 55-60% من المشاركة إنجازاً صعب الحصول.
إنكار "بلاغة الجمهور" او سوء تفسيره، او عدم الإصغاء له بالملاحقة والفهم، بالإضافة الى العزوف الشعبي المحتمل عن الانتخابات سيشكل خطرا جماً على النظام، وديمقراطيته، ونجاح الحكومة المقبلة في أي عملية إصلاحية ومنها ادامة التنمية وقيادة حملة الإعمار والبناء، فضلا عن الدفاع عن سيادة العراق واستقلاله.
يُسمعُ صوت تكسر عظام الاحزاب والكيانات الكبرى منذ بدء الازمة الاقتصادية في البلاد عام 2014 والتي تزامنت مع ثلاث احداث كبرى هي سقوط الموصل واختيار السيد العبادي رئيسا للوزراء في ظرف اقل ما يقال عنه انه مثير للجدل، بالإضافة الى الاحتجاجات الشعبية وحماية المرجعية لها. وما كان يُغطّى من خلال توزيع الامتيازات الاقتصادية، والمناصب، ما عادت مجدية في ظل ضغط الشارع والمرجعية وفشل معادلة الحكم المتزامن مع شحة الموارد. 
إن معادلة الحكم التي بدأت منذ 2003 من خلال سيطرة أحزاب قليلة العدد صلبة العزيمة، قوية القرار، ومعروفة التأريخ، تحلُ محلّها بضغط من "بلاغة الجمهور" و"شحة الموارد" و"فشل معادلة الحكم"، قوى أكثر عددا، ضعيفة في الغالب، غير مضمونة البرامج، وغير قابلة للتنبؤ. وسيكون سيكون لهذا الامر تداعيات خطيرة منها:
إن سيالية السياسة تعني اللاسياسة بالضبط! فحينئذ تهبط البرامج والمبادئ الى امتيازات وحصص في العمل السياسي.
تعلمنا التجارب السياسية في العالم ووجود قوى سياسية صغيرة لكن كثيرة العدد، ان الساحة في هذه الحالة ستكون حبلى بالمفاجآت يُحدثها زعماء ذوي شخصيات كارزمية مؤثرة، يعتمدون خطابات ديماغوجية شعبوية، يغطون بها الفشل في التنظيم والعمل الحزبي الممأسس، بشعارات تؤمّن لهم المكسب الانتخابي. ان صعود اليمين المتطرف في اوروبا وانقسام الوضع السياسي في امريكا الذي أنتج صعود ترامب، هي نماذج من فشل الاحزاب الكبرى في رصد تطلعات الناس، والتركيز على برامج تمثل الطبقات التي تنتمي اليها القواعد الحزبية اجتماعيا واقتصاديا.