تعتبر الثقافة الشفاهية/السمعية هي المرحلة الأولى في التطور البشري، وعندما اكتشف الإنسان أن الذاكرة لها قدرات استيعابية واستذكاريه محدودة، وفي كثير من الأحيان تغير الحقائق وتلونها،أدرك الحاجة للتدوين لتفادي هذه العيوب او النواقص، والحضارات الكبرى كلها تأسست على التدوين والثقافة المكتوبة.

ربما كان للثقافة الشفاهية/السمعية وظيفة في عصور الأمية، بيد أنها تنطوي على مخاطر كبيرة ومعيبة في ظل انتشار التعليم. ومن مخاطرها في الوقت الحاضر، وخصوصا في العالمين العربي والإسلامي، ان هناك العديد من الجماعات المتطرفة التي تستخدم الموروث الديني الشفوي في تأجيج الصراعات البينية المدمرة، وفي التجييش والتعبئة لحروب أهلية غير مبررة. وقد مرت على الأمتين العربية والإسلامية قرون من الزمن توقفت خلالها عمليات التدقيق والتحميص في الكم الهائل من الموروث الشفاهي الديني والاجتماعي المناقض لقوانين العصرنة والمخالف للشريعة الإسلامية.

ومن الأسباب التي تجعل الانسان (العربي والمسلم) خاضعا لثقافة المشافهة وبالتالي مكونا أساسيا لها وداعما لوجودها، هي غياب او ضعف النزعة الاستقلالية الفكرية في ذاته، وقبوله التام للذوبان في الكيان الثقافي الجمعي الذي تأسس على تداول وتكريس الثقافة الشفاهية/السمعية. وقد ساعد التراث الثقافي منذ عصر الانحطاط على قتل النزعة الفردية الاستقلالية في مجالات الفكر والتفكير، وعندما تختفي عند الإنسان نزعة التفرد في التفكير ونزعة الاستقلالية الثقافية يصبح إنسانا اسيرا للأفكار والاتجاهات الثقافية السائدة في محيطه الاجتماعي، ويجد صعوبة بالغة في الخروج عليها.

وفي هذا الاتجاه تحديدا، نجد أن الفلاسفة في عصر التنوير الأوروبي وعصر الحداثة والنهضة الفكرية قد اتجهوا إلى إحياء النزعة الثقافية الفردية في الذات الإنسانية ورفعوا من شأن حرية الفرد الفكرية والثقافية وكان نتيجة ذلك الازدهار الباهر على صعيد التنوع الثقافي والثراء الفكري، ومن الطبيعي أن يتحقق كل ذلك كنتيجة مضطردة لاهتمام الفكر الفلسفي التنويري بالثقافة الطباعية وبقيمة الفرد الفكرية ومساهماته الاستقلالية المؤثرة في التنوع والتجدد الثقافي، وتقديس حقه الإنساني في خلق الأفكار وممارسة النقد ومساءلة الاتجاهات المعرفية، واستثمار طاقاته الإبداعية الخلاقة.

في كتابهما الرائع "التاريخ الاجتماعي للوسائط"، يقول المؤلفان "آسا بريغز و بيتر بروك": في العالم الإسلامي – الذي من ضمنه العالم العربي - ظلت مقاومة الطباعة قوية على امتداد أوائل العصر الحديث، حتى أن الدول الإسلامية كانت بالفعل هي العائق أمام انتقال الطباعة من الصين إلى الغرب، وحتى منتصف القرن السادس عشر كان حكام الدولة العثمانية يرون أن طباعة "القرآن الكريم" شيء محرم، وقد كان الخوف من الهرطقة هو الأساس في معارضة الطباعة والتعليم الغربي. وفي العام 1515م أصدر السلطان "سليم الأول" مرسوما يقضي بتنفيذ عقوبة الإعدام فيمن يمارس الطباعة، وفي نهاية القرن السادس عشر سمح السلطان "مراد الثالث" بتداول الكتب المطبوعة غير الدينية المكتوبة بأحرف عربية، وهذه الكتب كانت في الغالب مستوردة من الخارج.

من الطبيعي ان يكون لنظام الحكم الاستبدادي تدخلا مباشرا في عدم السماح للكتاب المطبوع أن يتم التداول فيه كوسيلة اتصال ثقافية وفكرية، لأن النظام الاستبدادي لا يسمح بتداول سبل الاتصال المعرفي الحر والتنويري، الأمر الذي من شأنه أن يرفع من مستوى وعي وثقافة الأفراد. ويفضل حكم الاستبداد أن يبقى الشعب جاهلا لأن ذلك يصب في نهاية المطاف لمصلحته، ولذلك كان الحكم في العهد العثماني لا يسمح بوجود الطباعة وكان يحارب الكتاب المطبوع غير الديني كأحد وسائل الاتصال المعرفي، ولم تزل إلى أيامنا هذه تفرض الأنظمة المستبدة حظرا كاملا على الكتب الفكرية والثقافية وتحارب انتشارها بشتى الطرق والوسائل.

الثقافة الشفاهية/السمعية قتلت روح الابتكار والخلق والابداع في داخل الفرد العربي، وجعلت منه كيانا يتوجس خيفة من الانطلاق والتحرر لتبقيه دائما في حالة من الخوف والتردد والتعثر، وكذلك استطاعت ثقافة المشافهة/السمعية (وبالخصوص الدينية والسياسية) أن تصنع فردا قابلا لكل ما هو سائد ومتداول،ومستسلما بالتالي لتلك الثقافة بدلا من أن تصنع منه فردا يتحسس عن طريق النزعة الفردية التساؤلية والنقدية أعماق الوجود المكون لثقافات الإنسان واتجاهاته المعرفية وتنوعاته الفكرية، فأصبح الفردالعربي في هذه الحالة مستسلما وخاضعا بدلا من أن يكون إنسانا حرا مطلعا على الثقافات الإنسانية المتنوعة ويتمتع بالمنطق التساؤلي النقدي.

آخر الكلام: الأمية وتدني نسبة القراءة في الوطن العربي عاملان مساعدان على تفشي الثقافة الشفاهية/السمعية لأنها أسهل ولا تحتاج لجهد القراءة والبحث والتوثيق. كما انها ثقافة تناسب التفكير الجمعي على القبول بأي شيء دون التأكد من صحته ومن مصدرهطالما انها تصدر من اشخاص ثقات (رجال دين او سياسة) بالنسبة لم يسمعها.