"الشعبوية هي منطق سياسي مصاب بالبارانويا". ريتشارد هوفشتيدر- مؤرخ أميركي. 

من أجل تكوين مقاربة عن مدى تفشي الشعبوية على الساحة السياسية العراقية. لابد لنا أن نحاول فهم الشعبوية من خلال إطارها العام، ومن ثم عكسه على تلك الساحة، من حيث الصفة، والتفاصيب، ومدى الانتشار عمقاً واتساعاً. حيث سيمكننا هذا الفهم من إزالة اللغط عن مفهوم الشعبوية، وبالتالي دراسة الأحزاب السياسية التي تتفاعل في الساحة السياسية العراقية، بشكل أكثر موضوعية. وسيمكننا ذلك من تفسير بعض الجوانب المثيرة للاهتمام في الخطاب السياسي للأحزاب السياسية العراقية، وإمكانية تشكيل تصور مستقبلي حول تأثيرات هذه الأحزاب على مستقبل الكيان السياسي في العراق. 

توصف الشعبوية على المستوى الأكاديمي على أنها إيديولوجيا هشة، أي أنها لا تمتلك أسساَ ايديولوجية متينة أو ثقلاً عقائدياً أو عقلانياً قوياً يمكنها من أن تصيغ لنفسها مساراً سياسياً واضحاً في سعيها كأية أيديولوجيا أخرى لوضع حلول أو مبادرات في عالم السياسة والمجتمع والاقتصاد وجوانب النشاطات البشرية الأخرى. حيث تمتلك الايديولجيات المتينة رؤية شاملة عن الواقع الذي تعمل فيه ومن أجله، بينما تفتقد الإيديولوجيات الهشة ومنها الشعبوية هذا الشمول، وتقتصر رؤيتها على نطاق محدود جداً من القضايا التي تتبناها على الأصعدة المختلفة. 

والشعبوية هي مجموعة من الأفكار غير المترابطة، عندما يتم وضعها على محك الواقع، فإنها تظهر كمجموعة من مفاهيم مختلفة، متناثرة، غير متسقة، وأحياناً متناقضة. وتتحرك الشعبوية بشكل عام باتجاه خلق حالة أو حالات فصام أو تناشز في المجتمع تفصل بين قطبين على الأغلب، إحدهما متناغم معها وآخر معادٍ لها. إذ تعتمد على حراك العداء بين ما يطلق عليه مركزية الشعب كأغلبية مقابل النخبة كأقلية، حيث يتم تعريف النخبة وتصنيفها من قبل الشعبويين بشكل متعسف لصالح صراع مفترض ضدها. وقد تأخذ النخبة أي شكل من الأشكال، أحزاب سلطة، طائفة، أثنية، عقيدة الخ. ولكن لأن تسمية "الشعب" أو "الوطن" أو "المواطن" تأخذ وضعاً نسبياً لدى الشعبويين، فإن كل حراك شعبوي يستطيع أن يطلقها كما يشاء. وهكذا يختزل الشعب" أو "الوطن" أو "المواطن" وفق النظرة الشعبوية كما هي النخبة إلى قضية ضيقةأيضاً، يتم تبنيها. وينزع الشعوبيون في خطابهم السياسي إلى تبني قضايا تتحرك في أفق الحكم على الأمور من خلال منظار الأبيض والأسود، والعداء مع الآخر الذي يختلفون معه، ويتميزون بضعف أو انعدام الجانب التصالحي في تعاملهم السياسي مع الذين يختلفون معهم. ويغلب على الاستخدام اللغوي في الممارسة السياسية للشعبويين الجوانب العاطفية المثيرة للمشاعر، والكثير من المبالغة والدراما وإثارة المخاوف لدى الجمهور المستهدف من قبلهم. ويتوسعون باستخدام اللغة الدارجة والعامية التي يتقبلها ويفهمها ويتأثر بها رجل الشارع البسيط وبالشكل الذي يثير مشاعر الخوف والكره والغضب ضد الآخرالمختلف الذي تراه الشعبوية مصطفاً بالضد منها. فالخطاب الشعبوي هو خطاب صراع غير مبنٍ على أسس تغيير أو إصلاح ذات أطر محكمة، ويتحرك في إطار التغيير من أجل التغيير، ولا ينظر إلى العواقب المحتملة لهذا التغيير. 

غالباً ما تقاد الأحزاب التي تحمل طابعاً شعبوياً من قبل شخصيات لديها سيطرة طاغية على أتباعها، تتعامل بشكل أبوي صارم وموجّه لهم. وتحاول هذه الشخصيات أن تطرح نفسها على أنها الحامية والراعية لمصالح الفئة التي تقودها، أو التي تدّعي تمثيلها. وفي نفس الوقت تخلق صورة لنفسها على أنها شخصية من عامة الشعب، قولاً وفعلاً. وهكذا يظهر القيادي الشعبوي بصور متنوعة تبرز الطبيعة العادية له. فهو يمارس الرياضة، ويزور السكان في بيوتهم، ويأكل من أكل الشوارع، وتعكس حياته الشخصية والرسمية حياةتشبه حياة عامة الناس. كما تسعى هذه الشخصيات إلى صناعة صورة لها تتميز بالاستقلالية والابتعاد عن أية انتماءات إيديولوجية ما أمكنها ذلك. 

تنشط الشعبوية في أغلب الأحيان في بلدان تسيطر عليها الاستقطابات السياسية والاجتماعية، ولا تتوفر على مؤسسات حكومية ورسمية قوية وناضجة، وتعاني خللاً في أدائها الحكومي والمجتمعي. بالشكل الذي لا تتمكن من خلاله من العمل على وضع مقاربات وحلول تمنع شطر المجتمع إلى فريقين متعاديين حول قضية ما. ويعتبر التذمر الشعبي حول قضايا معلقة وغير مطروحة للحل كضعف الخدمات، أو الصراعات المسلحة، أو التمييز، أو ضعف سلطة القانون أو الفساد حاضنة لتفشي الشعبوية. وما يميز طبيعة الذهنية الشعبوية أنها إذا ما استلمت إدارة أي وضع رسمي في البلد، في ظل ضعف مؤسساتي فيه، فإنها تميل إلى أن تتصرف بشكل مزدوج، تتناشز من خلاله بين الخطاب الشعبوي الذي يتحرك على خطوط الاستقطاب المثير للصراع، وعلى خط المؤسسات الحكومية تارة أخرى. 

تقف الشعبوية والتعددية على طرفي نقيض. فالشعبوية لديها نهج أحادي في نظرتها إلى السياسة والمجتمع، وهي لا تنسجم مع أطروحة التعددية ضمن الأنظمة الديمقراطية، التي تؤمن بأن التنوع في المجتمعات والحياة السياسية يعتبر مصدر قوة فيها، وأن التوصل إلى تفاهمات وتسويات بين أقطاب القوة والتأثير المختلفة في الوضع الاجتماعي والسياسي في البلد يعد أمراً أساسياً وحيوياً وطبيعياً. خصوصاً أن الساحة السياسية الصحية ينبغي أن تشجع وجود مثل هذا التنوع، حيث تمنع التعددية من تركز السلطة بيد أشخاص أو مجموعات بعينها، طائفية كانت أو حزبية أو عرقية أو غيرها، و بالشكل الذي يمنع تلك المجموعات من فرض إرادتها على الغير. 

لا ينظر الشعبويون بارتياح إلى المؤسسات الرسمية. وينظرون إليها على أنها مؤسسات تمثل النخبة التي تتعامل بفوقية مع الجمهور، أو أنها تعمل على تحقيق مصالح النخبة التي يتصارعون معها. ويبدو أن النفرة من الأوضاع الرسمية لدى الشعبويين تترك بأثرها على طبيعة الهياكل التنظيمية لأحزابهم. وبالتالي فإن أغلب الأحزاب والتنظيمات والحراكات الشعبوية تميل إلى اتخاذاشكال بسيطة في هياكلها التنظيمية، وتقاد بشكل مركزي من شخص أومن الحلقة القريبة المحيطة به. ويتم اتخاذ القرارات فيها بشكل يميل إلى الفردية.

ولأن الشعبوية تخاطب رجل الشارع البسيط بتطلعاته، ومخاوفه، وماضيه ومستقبله، وأفكاره وعقائده. فإنها تأخذ هذه التطلعات والمخاوف وتصيغها على شكل شعارات، يتم تضخيمها بشكل كبير، فيما يتم تبسيط الحلول التي تنادي بها بالشكل الذي لا يأخذ بالاعتبار مستويات التعقيد الذي يواجهه اتخاذ أي قرار حكومي في الأنظمة الديمقراطية من حيث أسلوب المعالجة وتوفر الموارد والوقت. وكثيراً ما تقع الأحزاب الشعبوية بالحرج عندما تستلم مواقع مسؤولية اتخاذ قرارات لا تستطيع أن تحقق من خلالها تلك المطالب، لتتحول إلى توجيه أسباب الفشل إلى جهات جديدة تتصارع معها.

من هذا المنطلق فإنه يمكن دراسة مدى تفشي الشعبوية في الساحة السياسية العراقية من خلال دراسة الخطاب والسلوك السياسي للأحزاب والشخصيات التي تنشط سياسياً في تلك الساحة خلال الأعوام التي تلت عام 2003، وفي ظل الانتخابات التشريعية المزمع اقامتها في شهر أيار/ مايو المقبل.