تعرّفت على العجوز أوجان في بداية صيف عام 1986 في قرية "فالدكيرخن"الواقعة على الحدود الفاصلة بين تشيكيا وألمانيا.أصدقاء لي من ميونيخ مغرمون بلعبة الغولف أخذوني معهم الى هناك.وكانوا هم يقضون ساعات طويلة من النّهار مُنصرفين الى لعبتهم المفضّلة.أما أنا فقد كنت أهيم على وجهي في البراري ،وأصعد الجبال،وأجلس قرب الأنهار الصغيرة، وأتمشى في الغابات الدهماء الكثيفة .ومن حين الى آخر أغني بصوت هامس واحدة من تلك الأغاني البدوية التي كنت أطرب لها في طفولتي.وعادة ما تذكرني تلك الأغاني بالأهل والأحباب،وبتلك الأحراش القاسية التي همت فيها وأنا طفل بحثا عن أعشاش الطيور.وقد تدمع عيناي بسبب وَجَع الحنين الى الأزمنة، والأمكنة،والأهل.في الليل ،كان الفندق الذي نقيم فيه يمتلئ بالزبائن.والكثيرون منهم ينخرطون في الرقص .آخرون يتحلقون للشراب والحديث وتبادل الطرائف....

ذات مساء ،كنّا جالسين في الشرفة نشرب البيرة الألمانية اللذيذة.فجأة طلع علينا عجوز أنيق (كسوة رمادية،وربطة عنق حمراء،وقميص أبيض ،وحذاء صيفي أسودمتأبّطا ذراع زوجته التي كانت أنيقة هي أيضا (فستان أسود ووشاح أبيض).حالما رآه اصدقائي قفزوا من أماكنهم ،وراحوا يعانقونه بحرارة.كلّ كلمة ينطق بها ينفجرون لها ضاحكين.وكان واضحا أنه يحتلّ مكانة مرموقة في قلوبهم جميعا.بقيت في مكاني أشرب البيرة وأستمع اليهم.حين عادوا الى أماكنهم رآني.تمعّن فيّ للحظات ،ثم سأل الآخرين:

-من هذا الغريب الصّامت الذي بينكم؟

-بدوي من تونسأجابته صديقة

-ولكني أعلم أن البدو ثرثارون !

-هذا استثناء ردّت عليه الصديقة

انفجر ضاحكا:

-فليكن ...سنجرّب الى أيّ حدّ يمكن أن يصبر على الثرثرة !قال

راق لي ما قال فضحكت عاليا :

-ها قد وقع في الفخّ بسرعة علّق هو

رحنا نتبادل الطرائف ،وضحكاتنا تجلجل في الليل الصيفي الدافىء ،والبيرة تلمع ذهبيّة ،والوجوه متألقة بالسعادة،والهناء ،والنساء يزددن ظمأ للحب في كلّ لحظة فترنّ القبلات مع رنأت الكؤوس،وتلتهب الأجساد تحت تأثير المداعبات المؤجّجة للشهوات،والرغبات.بين وقت وآخر يختفي عاشقان،أو زوجان.وفي النهاية لم يتبق سوى أنا وأوجان وزوجته.اقترح أوجان أن ننتقل الى المطعم فوافقت.طلبنا سلاطات متنوّعة،وتروتّات مشويّة،وزجاجة نبيذ أحمر(بوردو)،وانغمسنا في الأكل،والشراب ،والحديث.بعد التحلية ،احتضن أوجان زوجته التي كانت نادرا ما تتكلّم .قبّل يدها،ثمّ خدّها ،وسألني وفي عينيه الرماديّتين شيء من بريق الشباب البعيد:

-ما رأيك في مارتا؟(هذا هو اسم زوجته)

-رائعة!

-نعم ..هي رائعة فعلا ...آه لو رأيتها عندما كانت في سنّ العشرين!..لقد كانت أجمل البنات في بافرايا ..مع ذلك هي لا تزال جميلة!أليس كذلك؟

-نعم هي لا تزال جميلة!

غطّت سحابة حزن وجه أوجان فبدت التجاعيد والغضون أكثر وضوحا من ذي قبل.طبع قبلة طويلة على شفتي زوجته التي تلقّت ذلك بشيء من الحرج،ثم قال بصوت أثقله الشراب:

-أعلم ما فعله الزمن بي وبها ..ولكني لا زلت احبّها رغم كلّ شيء...وبعد أن تجاوزت سنّ الستين ،اعترفت لها بأني خنتها أكثر من مرة...غير أنها غفرت لي أخطائي كلها ...والآن هي تعاملني وكأني طفل صغير!

ابتسمت مارتا:

-هو فعلا طفل صغير!

-وأنت حبّي الأول والأخير ردّ اوجان ،ثم نظر الى ساعته:

-آآآ الساعة الحادية عشر !..الأطفال ينامون مبكّرا يا عزيزتي !

-أنت على حققالت مارتا 

تمنيا لي ليلة سعيدة ومضيا الى غرفتهما بهدوء وبطء، محتضنا كلّ واحد منهما الآخر...

 

صبيحة اليوم التالي ،رافقت أوجان في جولة قطعنا خلالها ما يقارب السبعة كيلومترات.وفي لحظة ما توقّف عن السير وراح يدقّق النظر في قدميّ،ثمّ قال:

-أنت تمشي بطريقة غريبة...خطواتك قصيرة جدّا ...أليس كذلك؟

-هذه صحيح ..وهذا ما لاحظه كثيرون!

-أتعرف لماذا؟

-...

لأنك سرت كثيرا في الرّمل وأنت صغير!

حدّثته عن قريتي في أحراش القيروان،وعن أهلها الذي يقطعون مسافات مديدة راجلين أو على ظهور الأحمرة لجلب ما يحتاجونه في حياتهم اليوميّة.كما حدّثته عن سنوات طفولتي القاسية ،وعن السير في الطرق الرمليّة في برد الشتاء ولهب الصيف.توقّف عن السير مرّة أخرى.تمعّن فيّ طويلا،ثم قال:

-كلّ هذا واضح على ملامحك ،ومرسوم على وجهك!

في طريق عودتنا الى الفندق،شرع أوجان وقد بدا مطمئنا لي أكثر من ذي قبل،يسرد عليّ أطوارا مهمة من حياته.وقد أعلمني أنه جنّد في الحرب العالمية الثانية وهو في سنّ الثامنة عشرة.وكان مع الجيش الألماني في تونس التي قطعها راجلا من جنوبها الى شمالها...نعم يا صديقي ...لا تزال صور بلادك مرسومة في ذاكرتي بصحرائها،وواحاتها،وجبالها الجرداء،وأوديتها الجافّة،وبساتين زيتونها ولوزها،وطرقاتها الرملية المديدة،وإبلها السّارحة في الفيافي المقفرة،وأحمرتها الهزيلة،وبدوها الرحل ،وقوافلهم الكئيبة،وقطعان الماعز السوداء الباحثة عن العشب ...ولعلّ فرقتي مرّت بقريتك أو بالقرب منها...كان الحلفاء يلاحقوننا .وكانت المعارك بيننا وبينهم شرسة ...في كلّ يوم نخسر المزيد من العتاد والرجال.ورغم أن أغلبنا كانوا ا على يقين بأن الهزيمة باتت حقيقة لا مجال للتشكيك فيها ،فإن الأوامر كنت تتهاطل علينا طالبة منها مواصلة القتال لأن"النصر وشيك"...وما سأرويه لك لا يزال محفورا في ذاكرتي بكلّ تفاصيله...ذات مساء.وكان الوقت شتاء،وصلنا الى قرية كانت صورة للبؤس في أبشع مظاهرهوهي تقع على سفح هضبة صلعاء،لا شيء على سفحها غير نباتات شوكيّة.وكانت مقفرة تماما.وكانت معظم بيوتها أكواخا من قشّ أو طين.أصدر قائد الفرقة أمرا بإمضاء الليلة هناك.وعندما تقدّم الليل،كلّفت بحراسة المخيّم من الجانب الجنوبي للقرية.كان البرد ينفذ الى العظام.ومن حولي كان الصمت مهيبا باسطا سلطته على السماء ،وعلى الأرض.وأنا كنت متعبا،وفي رأسي صخب المعارك الضارية ...بصعوبة كنت أقاوم الرغية في النوم.فجأة خدشت الصمت حركات غريبة،وخيّل اليّ اني أسمع همسات ووشوشات قادمة من الكوخ الذي على يميني،والذي يبعد عني قرابة المائة متر.تقدّمت منه والرشاش مصوّب الى الأمام،وقلبي يضرب بعنف.وعندما لم تعد تفصلني عنه غير بضع خطوات،توقفت عن السير،وأصخت السّمع.لا نأمة ولا حركة.هل أخطأت السمع؟هل أهلوس بسبب التعب وقلّة النوم؟للتأكد واصلت التقدم من الكوخ بحذر من لا يرغب في أن يتفاجأ بحدوث ضرريصعب جبره.دفعت الباب بقدمي.ورغم الظلام،رأيت كتلة دهماء تتحرك.أضأت المصباح الكهربائي .على ضوئه الشاحب ،رأيت رجلا في حوالي الأربعين من عمره،وامرأة هزيلة،قاتمة الملامح تغطّي رأسها بمنديل أسود،وولدين .واحد في حوالي الثامنة،وآلاخر في حوال الثالثة عشرة.خلف الولدين بنت مراهقة تبكي في صمت،وهي ترجف من الساق حتى الرأس،وفي عينيها يخفق الحزن مثل طائر مذعور...جميعهم يرتدون ثيابا بالية،وعلى ملامحهم الجوع،والفزع،وتعب أيّام وسنوات مريرة.أخذ الرجل يتكلم بصوت متقطع .ومن خلال حركاته ،فهمت أنه يستعطفني ،متوسلا لي بألاّ ألحق به بعائلته أيّ ضرر.كانت المفاجأة قد جمّدتني حتى أني ظللت لدقائق عدّة ساكنا لا أتحرك ولا أتكلّم.ولعلّ الرجل أدرك خطأ اني لا أعير اهتماما لتوسلاته،لذا أخذ يبكي بحرقة ،وكذلك زوجته وطفلاه.أما البنت فقد كانت تنظر اليّ بعينيها السوداوين الواسعتين وكأنها تنظر الى عزرائيل وهو يتأهب للفتك بها وبعائلتها.عنئذ فقط أنتبهت إلى أنه عليّ أن أفعل شيئا ما لكي أطمئنهم.اتسمتُ.وبحركات يدي ،رحت أسعى جاهدا لكي أفهمهم أني لا أريد بهم شرّا، ولن أؤذيهم أبدا.فلّما تحققّوا من ذلك،هدأوا،وكفّوا عن البكاء.ابتسمت لهم من جديد.ظلّ الوالد وزوجته والولدان واجمين.أما البنت فقد ابتسمت لي والدموع على وجهها الأسمر الجميل،فانجلى الليل،وبات الكون من حولي نورا على نور!.وعليّ أن أعترف لك بأنني لم أر الى حدّ هذه الساعة ابتسامة أجمل من ابتسامة تلك البنت التونسيّة في تلك القرية البائسة على سفح هضبة صلعاء!