في السادسة عشرة من عمره تمّ طرد كاتب ياسين من الدراسة بسبب مشاركته في مظاهرة سطيف الشهيرة عام 1945 والتي ذهب ضحيّتها آلاف القتلى والجرحىوكان في السابعة عشرة من عمره لما ألقى في "جمعيّة العلماء"بباريس محاضرة عن الأمير عبد القادر الجزائريوقد استهلّ محاضرته التي حملت عنوان:”الأمير عبد القادر والاستقلال الجزائريبمقولة لبطل المقاومة في بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، ورد فيها ما يلي: ”من خلال الحقيقة نحن نتعلم كيف نتعرف على الرجال، وليس من خلال الرجال نحن نتعرف على الحقيقة". ثم يعلّق صاحب رائعة "نجمةعلى المقولة المذكورة قائلا بإنها-أي المقولة -كافية وحدها لإضاءة أعماق حياة وأعمال عبد القادر الجزائريبعدها يشير الى أن الشيخ محي الدين، والد عبد القادر، والذي كان قائدا محترما في قبيلته، لمسَ منذ البداية الخصال الحميدة لإبنه الذي جاء الى الدنيا وهو في السابعة والأربعين من عمرهلذلك سارع بالسهر على تربيته، وتعليمه الكتابة والقراءة فحفظ القرآن، وتعلم أصول الفقه الشيء الذي مكّنه وهو في سنّ المراهقة من أن يفرض آراءه على أشدّ الناس معرفة بأصول الدين.إلى جانب ذلك، دَرَسَ الفتى عبد القادر الرياضيات والجغرافيا وعلم التنجيم، وأتقن استعمال السيف حتى قبل أن يكمل سنّ الخامسة عشرةوفي فترة المراهقة، أرسل عبد القادر الى مدينة وهران لمواصلة تعليمه في نفس المدارس التي كان يدرس فيها أبناء العائلات العربية والتركيّة العريقة والمترفةوهناك اصطدم لأول مرّة بالواقع السياسي إذ أنه لم يتحمّل عجرفة الأتراك، كما أنه استاء كثيرا لما كان عليه العرب من مهانة وضعفوعندما عاد الى مسقط رأسه "معسكر"، شرع الناس في إبداء اعجابهم به متوفعّين أن يكون له مستقبل استثنائيّوعند حديثه عن زواج عبد القادر من خيرة الجميلة، وهي إبنة أحد الشيوخ المرموقين، يوجّه كاتب ياسين نقدا لاذعا للفرنسيين الذين يشوّهون صورة العرب، ويسخرون من عاداتهم، ويكتب في ذلك قائلا: ”بالنسية للبعض من المهذارين، أريد أن اوضّح أنه بالرغم من تلك الأسطورة البشعة التي تقول بإن كلّ زواج عربيّ يحدّد بحسب المصالح، فإن عبد القادر أحبّ خطيبتهكما أن هذه الأخيرة بادلته الحبوالمؤكد أن الارتباط العاطفي هو الذي حدّد الزواج وليس شيئا آخر". ويواصل كاتب ياسين كلامه الموجه للفرنسيين قائلا: ”للأسف الشديد لا يزال البعض، ونحن في القرن العشرين، يعتقدون أن هناك شعوبا غير قادرة على الحبغير أن المفرح هو ان عشرين قرنا من الشعر البديع تجعل العرب على رأس الشعوب العاشقة".

ويشير كاتب ساسين أيضا الى أن الأمير عبد القادر تمكّن في وقت وجيز للغاية من التعرف على الوضع السياسي لبلاده ليتوقف على المظالم التي يسلّطها الأتراك على أبناء شعبهولمّا قرر الشيخ محي الدين أداء فريضة الحج بصحبة إبنه، عرَضَ عليه البعض من أهالي قبيلته مرافقته لحمايتهما من مخاطر الطريقوخشية أن تتحول قافلة الحجيج الى جيش يهدّد سلطته، أمر والي وهران بإيقاف الشيخ وابنهوعندما مَثَلا أمامه، قال له عبد القادر: ”نحن لا نريد أن نتمرد على سلطتكموقافلتنا هي فقط لحمايتنا من مخاطر المسافة التي تفصلنا عن مكة المكرمةأعطونا بواخر وسوف نبحر أمام أعينكموإذا ما أنتم احتفظتم بنا في السجن، فإننا لن نكون مسؤولين عن الأحداث التي ستنجم عن ذلك!”. أمام هذه الموقف الحكيم والحازم، سارع والي وهران بإطلاق سراح الشيخ محي الدين وانهوقد علق كاتب ياسين عى ذلك قائلا: ”كما نحن نرى، كان عبد القادر يعرف جيّدا كيف يردّ على المستبدين!”.

وخلال فترة الحج التي استمرّت عامين كاملين، تعلم عبد القادر العديد من الأشياء في مجال العلوم كما في مجال السياسة والتاريخ والجغرافياوآلاداب.ويقول كاتب ياسين إن عبد القادر فتن بالشرق خصوصا بعد أن التقى في مصر بعلماء ومصلحين كبار ساعدوه عل توسيع معارفه في مختلف المجالاتكما أنه بات يبدي إعجابا بالشعوب المسلمة التي انطلقت منها الحضارة التي أشعّت على بلاده.في الآن نفسه، انتبه الى التشوّهات الخطيرة التي أصابت العبقريّة الاسلاميّة بسبب الأتراك الذين لا يفكرون الاّ في اشعال الحروب المدمرة، واعداد الجيوش، والتخطيط للغزوات.لذك عاد الى بلاده وهو يحلم ب"مستقبل جديد لها"، راغبا في اقامة "دولة مسلمة قوية في شمال افريقيا قادرة على إحياء أمجاد العرب القدماء".

عند احتلال فرسنا للجزائر عام 1830، قام الشيخ محي الدين بتجميع القبائل حوله معلنا عن "حرب مقدسةضدّ الغزاةثم لم يلبث أن سلّم القيادة لابنه عبد القادر الذي كان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمرهوعن ذلك كتب كتب كاتب ياسين يقول:”إنّ المهمة التي أنيطت بعهدة عبد القادر كانت جسيمة وعسيرة غير أنها لم ترعبه إذ أنه كان يحلم منذ فترة طويلة بخوض معارك حاسمة وكبيرة "..ويصف كاتب ياسين الأمير عبد القادر في هذه الفترة من حياته قائلا: "كان ممشوق القوام، قويّ البنية، وتحت قفطانه كان يتقلّد سيفا، ويضع في جيبه سبحة من الأبنوس، ومجلّدا يحتوي على أحاديث النبي.وكان يقضي أوقاته في التأمّل، والصيد، مبديا اهتماما فائقا بالخيول التي سيكتب عنها في ما بعد دراسة بديعة وعميقةوهو يميل الى النقاش، ويتحمّس الى الفلسفةأمّا سلوكه الصّعب، والوحدة التي يلجأ اليها غالب الأحيان فقد جعلا أصدقاءة قليلي العدد، وحرماه من المؤتمنين على أسراره".

ويواصل كاتب ياسين وصفه للأمير عبد القادرقائلا: ”غير أن هذا المفكر المتوحّد بنفسه كان رجل عمل وفعلوكانت قراراته سريعة وحاسمةوأبدا لم يبد أي ندم على أيّ فعل من أفعالهفالقدرية التي استخلصها من الفلسفة الاسلامية باتت تحميه من المخاطر والأحداثوهو يربط الحدث بالفعل منجزا من خلال ذلك البطل الهيغلي(نسبة الى هيغل). وكان يشارك الجنود أعمالهم اليوميّة، ويطير الى المقدمة مشيرا الى مدافع العدو، دافعا بحصانه الى الأمام دائما، ساخرا من القنابل، مرتّلا آيات من الذكر الحكيم على الدم المسفوح من اجل قضيّة عادلة".

ومتحدثا عن استراتيجية الأمير عبد القادر يقول كاتب ياسين: ”كان الأمر الأول الذي يشغله هو بسط سلطتهوكان يشعر أن الفرنسيين، إضافة الى تفوقهم العسكري، ،يمتلكون القدرة على التنظيم والنظاملذا شرع في استقطاب أصحاب الكفاءات لينشرهم في مناطق مختلفة من البلاد بهدف تنظيم شؤون إدارة الأراضي والسكان، والاشراف على سير المعارك الحربية". لذلك لم يلبث الأمير عبد القادر أن وطّد أسس دولة توفر لأهلها التعليم، والعدالة، وتضمن لهم حرية الإقتراعوأمام صموده، وجدت فرنسا نفسها مجبرة على أن تخوض ضده حربا شاملةوفي النهاية، انتصرت القوة العسكرية على الشجاعة، فهزم الأمير عبد القادر، وتمّ نفيه الى دمشقوهناك آوى هذا الرجل الذي نعته البعض من الغربيين ب"المتزمتفي بيته، المسيحيين خلال الإنتفاضات التي عرفتها سورية في النصف الثاني من القرن التاسع عشرومع نابليون الثالث، احتفظ بعلاقات وديّة، غير أنه ظل صلبا في مواقفه فلم بنحرف عنها أبداوفي نهاية محاضرته أشاد كاتب ياسين ب "القوّة الروحيّة "للأمير عبد القادر، والتي بفضلها تمكن الجزائريون، رغم محاولات المسخ، من المحافظة على هويتهم، وعلى شخصيتهم الوطنية.