ربما بسبب محاصرة فوديّ من قِبل كلاليب الوقت الذي بقي يُشعرني بضيقه مع سرعةٍ ملحوظة لدولابه لما يقارب العقدين، اعتدت على التأفف من الروايات التي كان كاتبها يملك الوقت كله، والذي حسبتُ بأنه من وسع نطاق الزمن لديه كان يحشر الكلمات في بطن كيسٍ كبير من الكلمات، ثم من وسع فستان الزمن الفضفاض لديه يرفع المُنتَج إلى حجم شلٍ من الكلمات؛ وبقيت متصوراً بأنه كان من الممكن جداً أن يستغني الروائي عن أرطالٍ من الجملِ لو كان مثلي يعاني من ضيق الوقت، كما لم أتلهف لغرف الروايات الفاقعة في رومنسيتها، التي كنتُ أراها تساهم في إحداث الفجوة المدمرة لدى بعض الناس بين واقعهم المعاش وبين المسرودات المتخيلة على الورق، أو تلك التي يكون جل هم صاحبها تمرير المواضيع الجنسية لجعل أرتال المراهقين مصطفة خلفه، فيُشعل خيالات النهمين جنسياً بجعلهم يتأرجحون سكارى وهم يغرفون السطور الشبقية، ليخطف الرواي بذلك عبر فخاخ الإيروتيك ألباب كل من كان وقع الأثرِ الجنسي عليهم،كوقع الصاعقة من أعلى البرج على أبدان السائرات، إنما أكثر الروايات التي قرأتها وأنا غير نادم على الوقت الذي قضيته برفقتها، هي تلك التي كانت تمدني إما بزادٍ فكري، أو بغذاءٍ معرفي، أو تُشغل ماكينة التساؤلات لدي، أو تسقط علىّ أنا المواطن المُعاني القحطَ والجفاف من فيض المكتوب بقطراتٍمن غيث الحكمة، أو يمدني المقروء ببعض الفلاشات النورانية التي تكون الكفيل بخروج المرء من أصعب الأماكن ظلمة، أو التي يمكن إسقاط أحداثها أو الوقائع التي تحدث مع شخصياتها في أي بقعة جغرافية من العالم، ومنها على سبيل الذكر وليس الحصر رواية صمت البحر للكاتب الفرنسي جان مارسيل برولر (ڤركور).

إذ بالرغم من السنوات الطوال التي تفصل ما بين زمن كتابة ونشر الرواية بما يجري في سوريا في الوقت الراهن، نتصور بأنه من الممكن جداً أن يضاف إلى رواية صمت البحر لـ: (ڤركور) فصول جديدة تروي معاناة أناسٍ يعيشون الآن ظروفاً مماثلة لوقائعها في أقصى شمال سوريا، علماً أن تلك الرواية نُشرت في باريس إبان الاحتلال النازي عام 1942، والتي سرعان ما أصبحت رمزاً للمقاومة العقلية ضد الاحتلال الألماني؛ والتي عدّها النقاد والقرّاء في أوروبا وأميركا بأنها من أهمّ وأفضل نصوص الأدب المقاوم؛ مقاومة سلبية غير مسلحة، كما تعتبر الرواية تلك من أشهر كتابات المقاومة في تاريخ الأدب الحديث، وحيث تقومبنية "صمت البحر" على ثلاث شخصيات رئيسية وهم:رجلٌ كهل وابنة أخيه، وضابط في الجيش الألماني النازي يدعى فرنر فون إيبرناك، حيث يعتبر الكهلُ وابنة أخيه الضابط الألماني مُحتلا للبيت أو الوطن بالمفهوم الأوسع، لذلك قررا مقاومته بالصمت وكأنه غير موجود،حيث بينت الصفحات بأن الضابط هو الوحيد الذي يتحدث والشخصان الآخران يغرقون في الصمت وكأنهم بقايا سُفنٍ غارقة في عمق البحر.

أما محاكاة أحداث رواية صمت البحر واقعياً وليس تخيلياً فهي تجري في منطقةٍ تسمى عفرين(كرداغ)*، حيث تشهد عفرين التابعة لمحافظة حلب السورية على المستوى الاجتماعي محاكاة حقيقية للرواية الفرنسية، والمحاكاة ههنا لا تتم من خلال الكتابة، وتقليد النص الأصلي فنياً عبر ولادة نصوصٍ أخرى، إنما هي تحدث واقعياً، حيث يُعاد استحضار المناخ الذي جسّده الكاتب الفرنسي في رواية صمت البحر عملياً، ومن كل بد أن قراء الأدب عامة والروايات الأجنبية بوجهٍ خاص ربما يعلمون بأنه ورغم توقيع فرنسا كدولة معاهدة الاستسلام مع ألمانيا في زمن الرواية، إلاّ أن المناخ الشعبي لم يستسغ وجود الألماني بينهم، وظل المواطن الفرنسي يعبّر عن سخطه ونفوره من الذين دخلوا منازلهم رغماً عنهم؛ والمماثلة بين ما ورد في سياق رواية فيركور الفرنسي، وبين منطقة عفرين التي دخلتها فصائل من الجيش السوري الحر بمعية الجيش التركي، كامنة في أن سكان الكثير من القرى في منطقة عفرين أعلنوا مقاطعة عوائل أسكنتها بعض الفصائل العسكرية رغماً عن أنف أهالي القرى في بيوت أبناء الضيع الذين نزحوا عن قراهم إبان الحملة العسكرية على المنطقة.

وبما أن من تبقوا في قراهم مدنيون ولا قدرة لهم على المنع أو فعل أي شيء مع المسلحين، ولا بمقدورهم حتى تقديم شكوى ضدهم، أو الإعلان عن رفضهم لوجود تلك العوائل الغريبة بينهم، لجؤوا إلى لغة المقاطعة الصامتة، كما هي حالة السكون المطبق في رواية فيركور التي جاءت تحت عنوان صمت البحر، حيث أن أهل القرى التي تم إسكان عوائل العناصر المسلحة في بيوت أبنائها المهجرين وللتعبير عن رفضهم للظرف القاهر وللحالة التي فرضتها بعض الجهات العسكرية على أبناء المنطقة، لم يكن بمقدورهم التعبير عن رفض ذلك الواقع القائم إلاَّ من خلال المقاطعة الاجتماعية لأولئك الغرباء الذين جاؤوا بمعية الفصائل من مناطق نائية ومكثوا في منازل أبناء المنطقة، بينما أصحاب البيوت على مرمى حجرٍ من المنطقة ولا تُفتح المعابر أمامهم للعودة إلى مرابعهم؛ وإلى تاريخ كتابة المقالة يُمنعون من العودة إلى قراهم وبيوتهم لأسبابٍ لم تفصح عنها إلى الآن، لا حزب الاتحاد الديمقراطي الذي أخذ المدنيين معه كدروع بشرية، ولا الدولة التركية، ولا حتى مسؤولي الفصائل التي دخلت المنطقة بمعية واذن الجيش التركي.

إلاّ أن البون الشاسع بين طقس رواية فيركور وما يجري في منطقة عفرين، كامنٌ في اختلاف التعامل الأخلاقي قبل أي شيء آخر، إذ بالرغم من أن الوقائع التي تتحدث عنها الرواية مضى عليها ما يقارب القرن، إلاّ أن التصرف الميداني الراهن في المنطقة للكثير من العناصر هي أكثر قساوةً وجلافة مما جاء عن صفات الضابط الألماني في الرواية وذلك بالرغم من الفارق الزمني الكبير بينهم، كما أن الضابط الألماني جان برولر الذي جسد شخصية المحتل في الرواية لم يذكرفيركور شيئاً قبيحاً جاء به الضابط كما هي عادةالنازيين عبر ممارساتهم القميئة وكما هي بشاعات المحاربين، بينما في عفرين فالانتهاكات لا يمكن حصرها أو تجاوزها بما أننا نعيش فصول أحداثها المزعجة يوماً بعد يوم، كما أن في عفرين هناك مئات العناصر يتبعون عشرات الفصائل، بينما اكتفى فيركور بشخصية واحدة تجسد فكرة احتلال بيوت الغير، وتمت مقاومته عبر شخصيتين بطريقة سلمية عبر السكون لا غير، حيث تتم مقاطعة الضابط الألماني الذي احتل المنزل كلامياً، كما أن الضابط الألماني حسب الرواية كان شخصاً مهذباً يحترم الكهل الفرنسي وكذلك يكن التقدير الجم لابنة أخيه على الرغم من مقاطعتهما التامة له كشخص سكن بين ظهرانيهم رغماً عنهم، كما أن الضابط الألماني وفق ما صوّره فيركور فهو ليس عدوانياً ولا متعجرفاً بتصرفاته،وهو شخص مثقف وواسع الاطلاع على الثقافة الأوروبية وشخص مؤدب في كلامه مع الصبية ومع الكهل، إلا أنه مع كل ذلك حاولوا إفهامه بأنه شخص محتل لبيوت الغير وغير مرغوب به، واكتفوا بالصمت حين حضوره، وحين تكلمه معهم، ولكن مقابل ذلك وحسب المعلومات التي تردنا يومياً من منطقة عفرين عن ممارسات الكثير من الفصائل فيؤكدون بأن سلوكيات أغلبهم لم ترتقي ولن ترتقي البتة وفق الثقافة التي غرفوها من ترعة البعث إلى مستوى ممارسات ذلك الضابط الألماني لدى فيركور، وأن قليلاً منهم من يمتلكون الصفات الحميدة التي كان يمتلكها الضابط في الرواية، ولا عاملوا أهالي المنطقة بالطريقة المحترمة التي تعامَلَ بها الضابط الألماني مع أهل البيت الذي سكن فيه معهم! وبالعكس تماماً فما يحصل في الواقع بمنطقة عفرين هو أن الذين قدموا من ريف دمشق ومناطق أخرى واستولوا بالتالي على بيوت ومحلات أهالي المنطقة، فبدلاً من مطالبة الصفح والسماح على تطاولهم على ممتلكات الغير، لا يعاملون أهل المنطقة بأي احترامٍ يُذكر، بل ومن خلال الاحتكاك مع سكان عفرين لا يرون أهل المنطقة التي غزوها بالتوافق مع كل من النظام وروسيا وتركيا إلاّ على أنهم مجرد كَفَرة، وعليهم بالتالي إرشادهم الى طريق الصواب وفق المنظور الديني الذي تلقفوه من البيئة التي خرجوا منها؛ وطبعاً بمعية السلاح الذي يحملونه؛ السلاح الذي خذلوه، حيث لم يفلحوا في استخدامه بمواجهة قوات النظام، ولكنهم جلبوه معهم وبكل صفاقة استخدموه لغاياتٍ وضيعة جداً وهي إرهاب مدنيي منطقة عفرين؛ والمفارقة المضمخة بالمرارة هي أن الضابط الألماني رغم أدبه ووقاره ورزانته كان يرى نفسه محتلاً، بينما من استوطنواالبيوت رغماً عن أنوف أصحابها في عفرين وعاملوا أهل المنطقة بكل صفاقةٍ وجلافة يعتبرون أنفسهم من المحررين!!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كرداغ: جبل الكرد حسب التسمية العثمانية لمنطقة عفرين التابعة لمحافظة حلب السورية.