لم يحقق بابلو إيغليسياس ، زعيم حزب بوديموس، القوة الثالثة في البرلمان الإسباني،الإجماع التام حول شخصه وأسلوب القيادة الذي يتبعه،على إثر الإعلان يوم الأحد الماضي عن نتائج استفتاء قواعد الحزب بخصوص استمراره أو عدمه ،أمينا عاما للتنظيم إلى جانب رفيقته ، إيرين مونتيرو،المتحدثة الرسمية في البرلمان.

وكان إيغليسياس قرر في خطوة انفرادية، دون التشاور مع قيادة الحزب، جس نبض المنخرطين في التنظيم على خلفية الضجة التي أثيرت إعلاميا، جراء شراء الزوجين الحديثين اللذين ينتظران مولودين ؛ إقامة فاخرة بضواحي العاصمة الإسبانية، مساحتها 250 مترا مربعا، من مجموع 2000 مترا تشكل المساحة الإجمالية للبقعة الأرضية.

وتشتمل الإقامة ، عدا موقعها المبهج ، مسبحاوسكنا خاصا بالضيوف ، ما اعتبره منتقدو الزعيم "سلوكا بورجوازيا "يتناقض مع مبادئ وقيم الحركة اليسارية التي بشرت منذ ظهورها، بإشاعة العدل الاجتماعي والمساواة بين الناس ، ورفع المعاناة عن المعذبين في الأرض .

وصدم الزعيم الواثق من نفسه، بحقيقة ومدى التفاف القواعد حوله ،كما فاجأته موجة النقد العارم الذي قوبل به سلوكه ، كونه اشترى سكنى بعيدة عن أحياء الفقراء والدهماء الذين يدعي الدفاع عنهم، وتفضيله العيش الرغيد جارا محاذيا للطبقات الراقية والميسورة التي تؤثر الابتعاد عن ضجيج العاصمة ومخاطرها الأمنية .

ولم يجد أغليسياس من يقف في صفه لتبرير تصرفه إلا قليلين ، وعلاقته سيئة بوسائل الإعلام التي انخرط أكثر من مرة في التهجم عليها بعنف مستغرب من قائد حزب ، طالما بشر بأنه النقيض التام للطبقة الحاكمة المتحكمة.

وتلقي نتيجة الاستفتاء الالكتروني الأخير ، ظلال شك وارفة على المستقبل السياسي لزعيم"بوديموس" الذي تملكه في وقت من الأوقات، حلم الدنو من قصر "لا مونكلوا" ( مقر رئاسة الحكومة) . وهكذا سارع بمجرد اطلاعه على نتائج الاستفتاء إلى التصريح بأنه سيأخذ العبرة من رسالة المصوتين مثلما التزم بعدم البت بمفرده مستقبلا في قضايا الحزب ، معلنا بالمناسبة إعادة النظر في موقفه المؤيد لملتمس الرقابة المقدم من طرف الحزب الاشتراكي المعارض، لإسقاط حكومة الحزب الشعبي، الغارق في فضيحة فساد مالي كبرى( قضية غورتيل) التي أصدر القضاء أخيرا بخصوصها أحكاما ثقيلة ، طاولت مسؤولين ومنتخبين بل امتد تأثيرها السيئ إلى رئيس الحكومة، ماريانو راخوي، الذي شككت العدالة في صحة شهادة أدلى بها أثناء عرض النازلة أمام القضاء.

فضيحة "الفيلا" التي كلفت الزوجين ، مبلغ 615 ألف يورو، أماطت الغطاء عن المناضلين العشيقين وعرضتهما لموجة انتقاد أفاضت الصحافة الإسبانية في تعداد تفاصيلها بأسلوب تهكمي . لكن التطور الذي لم يكن في الحسبان ولم يخطر ببال الزعيم الملهم، هو التحول السياسي المفاجئ المنذر بكافة الاحتمالات الذي تواجهه البلاد، نتيجة الأزمة الحكومية الوشيكة ، بعد سحب الثقة منها، أو استمرارها أضعف مما كانت عليه .

وفي حالة اقتناع الحزب الحاكم بضرورة إجراء انتخابات سابقة لأوانها، وسط أجواء مثقلة ،تتسم بالعصيان المستمر لمتزعمي الانفصال في إقليم "كاتالونيا "في ظل عجز الحكومة الحالية عن إيجاد مخرج له ومنه، إذ خذلتها نتيجة الانتخابات التي أجريت في الإقليم نهاية السنة الماضية لتمنح أغلبية مقاعد البرلمان المحلي مجددا للأحزاب الانفصالية ،التي تطالب بصوت مرتفع، بإبطال مفعول الفصل 155 من الدستور الذي أخضع الحكومة المحلية السابقة المتمردة، للسلطة المركزية في مدريد .

وربما يكون السوء المتوقع ، أن إسبانيا مقبلة بل ملزمة بتنظيم سلسلة استحقاقات محلية وإقليمية وأوروبية ، دون استبعاد" التشريعية" ، إذا ما صوت البرلمان الحالي لملتمس الرقابة أو قيام رئيس الحكومة بحل البرلمان؛ علما أن الأزمة الراهنة التي تعيشها إسبانيا ، راجعة في جانب كبير منها، إلى نهاية نظام القطبية الحزبية التي تناوب ، بموجبها ، الحزبان الكبيران : الشعبي المحافظ والاشتراكي العمالي على حكم البلاد ،لما يقرب من أربعة عقود.

وكيفما كانت النتائج التي ستفرضها الاستحقاقات المقررة ، فإنها لن تخرج ،عن اقتسام الرقعة الانتخابية بين أربعة مكونات ، هي نفسها التي تتصدر الواجهة حاليا : الشعبي المحافظ الذي لن ينهار كلية ،لكنه سيفقد السلطة والمرتبة الأولى ، يليه الحزب الاشتراكي الذي يحتمل أن يتغير ترتيبه من الثاني، أمام "ثيودادانوس" أو "بوديموس" باحتلاله الرتبة الثالثة أو ما دونها في أسوأ أحواله ،إذا ما قرر الإسبان معاقبة مرشحي الحزب الشعبي. وهكذا ستكون هناك خارطة سياسية مبلقنة ستجعل التحالفات صعبة.

في هذا السياق ، يبدو جليا أن ثلاثة أحزاب تواجه أزمة قيادة ومطلب تحيين خطها السياسي: الزعيم الاشتراكي، بيدرو سانشيث، يلعب ورقة اليانصيب الأخيرة .سيتضرر زعيم ،بوديموس، من ذيول الورطة الأخلاقية التي أوقع نفسه فيها نتيجة غروره ونرجسيته المفرطة .

وحده المستفيد هو 

ويبقى المستفيد الوحيد هو البيرت ريفيرا زعيم ثيودادانوس، والمتمتع بفضائل طهارة سياسية، قد تؤهله لتصدر نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة حسب استطلاعات رأي متواترة ؛ يعقد إثرها تحالفا مع الاشتراكي أو الشعبي ، وهو أمر ممكن مع الثاني ، خاصة إذا ما انسحب راخوي من الميدان، رغم تشبث أنصاره به .

ويصطدم تحقق هذا السيناريو مع أنه الأقرب إلى المنطق ، بكيفية تعاطي الحزب الاشتراكي العمالي الذي قد يجد نفسه مجبرا على الاصطفاف في المعارضة، بدل المشاركة في حكومة يرأسها ريفيرا وهو الوافد الحديث إلى السياسة .

وهذا التطور إن حصل، سيسهل مهمة زعيم "ثيودادانوس" للدخول في تحالف منطقي مع الحزب الشعبي، لان اقترابه من "بوديموس"مستحيل ، سواء في ظل قيادة إيغليسياس أو غيره .ذلك ان التعارض جوهري وحاد بين الاثنين بسبب المرجعية.

كل هذا إن سارت الأمور وفق النسق الطبيعي، دون ظهور حفر وأخاديد تبطئ سير الحياة السياسية في إسبانيا، إن لم تدخلها في أتون تيارات عاصفة ، لا احد يتنبأ بحجم خسائرها وبكيفية الخروج من الأزمة .

أراد زعيم "بوديموس" أن ينعم بحلاوة العيش في عش الزوجية مع رفيقته إيرين التي فرضها على نواب الحزب، إلى جوار طفليهما اللذين سيحسان بمشاعر الأبوة والأمومة التي لا يوجد لها نظير في الحياة السياسية المضطربة الزاخرة بالصراعات والدسائس والطموحات.

خرج الزعيم منكسرا ،من امتحان الثقة .خسر ثلث الأتباع لكنه باق إلى حين ، وهو يعلم أن عددا مهما من الذين صوتوا على استمراره مع زوجته، في غرفة القيادة ، فعلوا ذلك اضطرارا وخشية على التنظيم من التفكك التام ، فالأسباب الموضوعية متوفرة .

وتبقى نتيجة الاستفتاء مؤشرا على نهاية مرحلة التزكية والثقة المطلقة للزعيم . ماذا ينتظره وهو يقترب من سن الأربعين ، مختلف لطيش الشباب ، وقد أصبح رب أسرة ؟

أما إسبانيا ، فتنتظرها أيام صعبة ، مثل إيطاليا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي . لا يوجد في الأفق من يمد يد النجدة للمستغيثين فقد كثروا ؟.