شَكَّل مرسوم التجنيس الموقع أخيرًا من قبل رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون ورئيس الحكومة سعدالدين الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق محور جدلٍ حاد في الأوساط السياسية والشعبية بلبنان، لا سيما وأنه مُرِّرَ دون الإعلان عنه بشكل مفصلٍ ونشره في الجريدة الرسمية، الأمر الذي اعتبرته بعض القوى "تهريبًا" لخطأ ما و" تهرّبًا" من مسؤولياتٍ وتبعات تنبني على قرار مهمٍ كهذا .

غياب الشفافية وعدم إعلان اسماء المجنسين الجدد المستفيدين من القرار وانعدام المعايير الواضحة المرعيّة الإجراء للحصول على الجنسية اللبنانية ناهيك عن التكتم الملابسات التي احاطت بذلك، يوحي بما لا مجال للشك فيه انّ لبنان لا زال بعيدا كل البعد عن طريق السير للوصول الى الدولة المدنية العادلة المرجوة، التي تنتظم فيها الأمور، ويتساوى فيها أبناء الشعب الواحد أمام القانون بحيث يتمتعون بالحدّ الأدنى من العدالة الإجتماعية، إذ يتعذّر الطعن الدستوري في هذا المرسومكونه غير منشور بالجريدة الرسمية.

من الناحية الإنسانيّة والأخلاقية، فإن كثيرين من المقيمين على الأراضي اللبنانية هم بأمسّ الحاجة للجنسية، وهو ما تحثّ عليه كافة المواثيق الدولية، وليس من باب المزية او المنّة، بل هو ربما حقٌّ طبيعي للعيش كحاجة الانسان للهواء والماء؛ وقد ساقتهم الأقدار ان يولدوا أو يقيموا على ارضٍ جغرافية معينة وكيان سياسي محدد .

بيد ان المرسوم المذكور لم يقم وزنًا لتلك الاعتبارات، فالمرأة اللبنانية المتزوجة بغير لبناني لازالت محرومة من منح جنسيتها لأطفالها ، علاوة على مكتومي القيد المحرومون من ابسط حقوقهم في التنقل والعيش الكريم، علاوة على أعداد من قدامى اللاجئيين ممن تجاوزت اقامتهم على نصف قرن وهم لا يستطعون إلى الآن ان يحظوا بأبسط الحقوق الطبيعية كالملكية والميراث . 

وغالبًا ما كان يُرفع "بعبع" التوطين بوجه كل لبناني، على أساس ان التوطين سيؤدي الى خلل في التركيبة الطائفية والمذهبية ، وهذا بدوره سينعكس على ميزان القوى السياسية في بلد يُدار بعقلية الطائفية و التقاسم المذهبي .

إن مراسيم التجنيس في لبنان محددة في صلاحيات رئاسة الجمهورية بالاشتراك مع رئاسة الوزراء و بطبيعة الحال مع وزارة الداخلية كجهة معنية بالتنفيذ ، وقد درج الرؤساء السابقون على استخدام تلك الصلاحية، والتي كانت غالبًا ما تخضع لحسابات خاصة طائفية ومذهبية وسياسية، وليس وفقاً لحقّ المقيمين الساكنين في لبنان؛ فبعض الرؤساء السابقون ممن وقعوا على مراسيم تجنيس مثل الياس الهراوي و رفيق الحريري اعتبروا أن في ذلك مصلحة انتخابية وسياسية ، أما أميل لحود و ميشال سليمان فكان توقيعهما أقرب إلى ضمان تشكيل دائرة اقتصادية متينة.

أما عن مرسوم الصادر مؤخرا، فبحسب المصادر الشبه رسمية التي عملت على تسريب مضمونه فإن عدد المجنسين حوالي 365 من سوريون وفلسطينيون وبشكل أقل من العراقيين وجنسيات أخرى، وأكثر من ثلثيهما من المسيحيين ولا ضير في ذلك، فالمسألة لا تتعلق بقومية أو ارقام بقدر ارتباط بعض الشخصيات المجنسة بالنظامين السوري والإيراني. حيث مُنح كبار الأثرياء و متمولي الصف الأول المقربون من الرئيس السوري بشار الأسد جوازات سفر لبنانية ستمكنهم من الاستفادة من التسهيلات المالية والبنكية والاقتصادية وغيرها، وهو ما سيوفر فرصة ذهبية لتحريك تلك الأرصدة ليس من خلال القنوات السورية التقليدية، التي تخضع للعقوبات الأميركية والأوروبية والعربية بل عبر القنوات اللبنانية . 

ربما يرى البعض في ذلك مصلحة في انعاش الاقتصاد اللبناني لأن ذلك سيعزز ميزان المدفوعات ويفعّل الحركة العقارية والاستثمارية ، ولكن السؤال الأهم يبقى هل أقدم لبنان على خطوة كتلك عبر تجنيس المستثمرين الداعمين للنظام السوري ما لم يكن قد التقط اشارات ضمنية وتوافقات "الخارج" الإقليمية والدولية؟

يشير بعض المحللون الأميركيون من المعنيين بسياسات الشرق الأدنى والأزمة السورية، أنّ توافقًا حصل بين الدول الكبرى والدول الإقليمية الفاعلة في الشأن السوري مفاده : ضرورة خفض التوتر وضبطه وحصره، في تسوية تُبقي على استمرارية الرئيس "الأسد" الحالي في السلطة الى أجلٍ معين، بما يفتح مجالا لإعادة إعمار ما تهدم . وسط توقعات بأن كلفة إعادة الإعمار قد تطلب قرابة مئتي مليار دولار، في وقت تبدو الحكومات الأوروبية والعربية الخليجية غير متحمسة للقيام بذلك، لا سيما في ظلّ استمرار النظام السياسي المعهود ، كما ان تجاربها السابقة في تمويل اعادة اعمار العراق فشلت تحت وطأة الفساد المستشري، كما أن مردود الايرادات المحتملة من الاستثمار في عملية إعادة الإعمار لن تتحق قبل مرور عقد من الزمن . 

ولا يمكن قراءة مرسوم التجنيس اللبناني بمعزلٍ عن القانون رقم عشرة السوري الصادر أخيرًا والذي يَقضي بإنشاء مناطق تنظيمية في جميع أنحاء سوريا، مخصصة لإعادة الإعمار.ولا يحدد القانون معايير لتصنيف المنطقة كمنطقة تنظيمية، أو جدولا زمنيا لتعيين المناطق. على السلطات المحلية طلب قائمة بأصحاب العقارات من الهيئات العقارية الحكومية العاملة في تلك المنطقة. على الهيئات تقديم القوائم في غضون 45 يوما من تلقيها طلب السلطات المحلية.

وإذا لم تظهر ممتلكات مالكي المنطقة في القائمة، فسيتم إبلاغ هؤلاء بذلك، وسيكون لديهم 30 يوما لتقديم إثبات الملكية. في حال عدم قيامهم بذلك، لن يتم تعويضهم وستعود ملكية العقار إلى البلدة أو الناحية أو المدينة الواقع فيها العقار. في حال إظهار المالكين ما يثبت امتلاكهم عقار في المنطقة التنظيمية، سيحصلون على حصص في المنطقة. هذا القانون الذي وصفه متخصصون دوليون بأنهم يتطابق مع "قانون الغائبون " الذي أصدرته اسرائيل عام 1950 ويسمح بمصادرة أملاك المهجريين الفلسطينين و تسليمها الى المستوطنون الجدد من اليهود القادمون من شتى دول العالم .

إذن هذا القانون سيحرم المهاجرين السوريين من إثبات ملكياتهم، لتعذر عودتهم من جهة وخوف من يمكن ان ينوب عنهم في اثبات ذلك، خشية ملاحقة الأمن السوري للنازحين وانسبائهم ومعارفهم الذي يصفهم النظام على انهم "ارهابيون" ، كما ان عمليات التهجير القسري السريع أدت الى فقدان الاشخاص لأوراقهم الثبوتية، علاوة على ان بعض مباني السجلات العقارية قد دُمر بالكامل بحيث يتعذر اعادة استصدار نُسخ عن تلك الملكيات . 

ويتخوّف السكان السوريون المحليون والمهجرون من كون هذا القرار سيعمل على استجلاب سكان جدد يدينون بالولاء التام للنظام السوري وحلفاؤه من الايرانيين والميليشيات الشيعية مما سيؤدي الى تغيير ديموغرافي واضح لا سيما وان بوادر ذلك باتت واضحة للعيان حيث تتمدد مظاهر التواجد الشيعي العلني في دمشق؛ مع انتشار الرايات السوداء و أعلام "حزب الله" حتى في مناطق آمنة في دمشق القديمة مثل باب توما التي اكتست بالسواد في عاشوراء وتم توزيع منشورات تذكر بمآثر ما يسمونه قائد المقاومة "عباس الموسوي"، بالإضافة الى مشاهد اللطم في ساحات المسجد الأموي و ارتفاع الأناشيد الدينية الشيعية التي تحض على قتال أهل السنة الذين يسمونهم ب "النواصب" في عبارات طائفية تستفز المشاعر لاسيما خلال المسيرات تطوف دمشق وسوق الحميدية وسائر المدن وتناقلت صورها معظم وسائل الإعلام.

إذن في المحصّلة فإن تجنيس مقربون من الرئيس السوري سيوفر للنظام قرابة ثلثي كلفة إعادة الإعمار من إطلاق أرصدة تقدر قيمتها بستين مليار دولار مما سيبعد الاقتراض والمديونية عنه ،وذلك في إطار "صفقة لبنانية – سورية " غير معلنة يُعد النظام في سوريا و "حزب الله" الذي يتحكم في القرار الرسمي اللبناني المستفيد الأكبر منها، في وقت تغض كافة الدول الطرف عما يجري . 

أما لبنان فعلى ما يبدو أنه لم يستفد من دروس الماضي في تجربته السابقة في التعاطي مع النازحين الفلسطينيين وأموال "منظمة التحرير"، وها هو الآن يعيد الكرة في وصفٍ أقل ما يقال فيه، أنه عاجز عن تحقيق سيادته والنأي بنفسه في ظلّ تمدد واضح ونفوذ علني لإيران و"حزب الله" في معظم مرافق الحياة السياسية في الداخل اللبناني والخارج الإقليمي وليس مرسوم التجنيس اللبناني إلا القلب النابض للقانون العاشر السوري !