تجتاح العراق هذه الأيام موجات من الاحتجاجات الجماهيرية الغاضبة وارتفاع كبير في درجات الحرارة مع انعدام الخدمات وعدم توفر الطاقة الكهربائية الكافية لمواجهة لهيب الصيف الحارق. يأتي ذلك بعد الانتهاء من الانتخابات التشريعية الأخيرة والتي شابها الكثير من الخروقات والانتهاكات والتزوير. 

منذ أول انتخابات نظمت في العراق في ظل بنادق قوات الاحتلال في يناير 2005، رأي فيها البعض من المتفائلين، وأنا كنت من بينهم، فرصة مهمة و لا بد منها للسير خطوة إلى الأمام في طريق الديموقراطية وتكريس الحرية والاستقلال والاستقرار السياسي بعد خروج قوات الاحتلال. لكن النتائج جاءت مخيبة للآمال وجلبت إلى السلطة ممثلين فاشلين وغير كفوئين وفاسدين للإسلام السياسي الحركي ممثلاً بحزب الدعوة بكافة أجنحته وبالمجلس الأعلى الإسلامي وبحركة بدر والتيار الصدري وحزب الفضيلة وحزب الله العراقي وغيرها من الحركات والأحزاب الشيعية ، وبالحزب الإسلامي السني وهو صورة مموهة لتنظيم الإخوان المسلمين، والتكتلات العشائرية العربية والكوردية وعدد من قيادات النظام الصدامي السابق، العسكرية والمدنية، التي بدلت جلودها وتغلغلت متسللة إلى أعماق كل الحركات والكتل والأحزاب السياسية التي شكلت حكومة المحاصصة الطائفية الأولى بعد عام 2005، في أعقاب الحكومة الهزيلة التي فرضها الاحتلال الأمريكي وهي حكومة البعثي السابق اياد علاوي المؤقتة. لم يصدق أحد، ولا حتى جورج بوش الإبن نفسه، بنزاهة وجدية الانتخابات العراقية ونتائجها المقررة سلفاً قبل عملية الاقتراع باعتراف عدد ممن خاضوها وشاركوا فيها ومن بينهم الأمين العام السابق لحزب الفضيلة البعثي السابق الدكتور نديم الجابري. الإعلام الأجنبي والعربي لم يعر أهمية كبرى لذلك الحدث لعلمهم بأنه ليس سوى مسرحية تدعو للسخرية، فالعناصر المسلحة وأجهزة المخابرات الكثيرة المتعددة التي كانت تملأ الساحة العراقية هي التي كانت تتحكم بالعملية الانتخابية التي افتقدت للشفافية وشابها التزوير في ظل قانون انتخابات مفصل على مقاس القوى السياسية المتنافسة ظاهرياً فيها. كانت نسبة المشاركة التي أعلنها الراحل مهدي الحافظ وزير التخطيط العراقي الأسبق هي 72% لكن الواقع يقول أنها أدنى من ذلك بكثير خاصة بعد مقاطعة المكون السني لأول انتخابات وهيمنة سلاح التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وأخواتها على الشارع العراقي وتهديداتها لمن سيشارك من السنة في تلك الانتخابات. فلقد أعلنت هيئة علماء المسلمين الإرهابية التي كان يقودها الإرهابي حارث الضاري أن نسبة المقترعين لم تتعد الــ 30%، فهناك فرق بين نسبة المقترعين المسجلين ونسبة الناخبين الحقيقيين على أرض الواقع وكانت نسبة المقترعين في المهاجر عالية في أول انتخابات نظمت للعراقيين بعد عقود طويلة من الديكتاتورية والحرمان وفقدان الحريات. ويشاع أن الأمريكي جون نيغروبونتي عقد اجتماعاً سرياً في السفارة الأمريكية في بغداد وقرر بموجبه توزيع الحصص والمقاعد على مختلف القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية آنذاك حتى قبل إجراء عملية الإقتراع . 

وبعدها جاءت انتخابات 2010 و 2014 ، نسخة باهتة كرست واقع المحاصصة الطائفية اللئيم وتفاقم الفساد وتنامي قوة الحركات والتنظيمات الإرهابية التي نجحت تحت مسميات داعش وقبلها القاعدة في بلاد الرافدين، في احتلال ثلثي الأراضي العراقي في غرب العراق وشماله في المناطق السنية على وجه الخصوص التي كانت توفر لها الحاضنة الاجتماعية والجماهيرية الممتعضة والغاضبة والمتمردة على السلطة المركزية، التي وصفتها بالصفوية الموالية لإيران. بين 2005 و 2014 تعرض العراق لهزات خطيرة أدخلته في أتون حرب أهلية طائفية لم يعلن عنها بهذا الإسم لكنها كانت تدور بالفعل على أرض الواقع وراح ضحيتها آلاف المواطنين الأبرياء . وفي تلك الأثناء كتب الدستور العراقي المهلهل الفيدرالي والطائفي القابل للتأويل في معظم بنوده وفقراته والمليء بالتناقضات. والذي قاد إلى ظهور مفهوم " ألأغلبية البرلمانية أو الكتلة البرلمانية الأكبر للإبقاء على هيمنة المكون الشيعي في الحكم والتمسك بمنصب رئاسة الوزراء وإعطاء الرئاستين الأخريين للمكونين الشيعي والكوردي أي رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان. في إطار لعبة توازنات وتقاسم للمصالح والامتيازات. فهذا الدستور صيغ بحيث لن يتاح لأية قوة سياسية الخروج بأغلبية متميزة تؤهلها لتشكيل الحكومة وحدها ودفع الآخرين إلى المعارضة البرلمانية. فالدستور يرغم القوى السياسية على اللجوء إلى التحالفات وتقديم التنازلات بغية تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر التي يتم اختيار رئيس الوزراء منها. وهذا يشكل مصدر للفوضى والعجز وهي الحالة التي يدفع ثمنها الشعب العراقي عقب كل انتخابات. فلم يتغير شيء نحو الأفضل في بلاد ما بين النهرين منذ 2003عام وإلى يوم الناس هذا بل بالعكس ينحدر البلد نحو الهاوية ونحو منزلق خطير سيترجم آجلاً أم عاجلاً إلى مواجهات مسلحة وحرب أهلية وطائفية بين مكونات الشعب العراقي.. الانتخابات الأخيرة التي نظمت في 12 آيار 2018 لم تشكل استثناءاً إلا في نتائجها وأسماء تشكيلاتها السياسية والكتل المشاركة فيها، فالتيار الصدري تحالف مع الشيوعيين وبعض قوى التيار الديموقراطي لتشكيل كتلة " سائرون " التي حصلت على 54 مقعداً ، عمار الحكيم إنشق عن المجلس الأعلى وشكل تنظيم " الحكمة" ،كتلة دولة القانون التي كان يقودها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي تفتت ولم يبق منها سوى الإسم وانشق عنها رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي الذي شكل بدوره كتلة النصر وخاض باسمها الانتخابات وجاءت بالمرتبة الثالثة بعد سائرون والفتح بينما شكل هادي العامري كتلة فتح التي تبؤأت المرتبة الثانية في نتائج الاقتراع والتي ادعت أنها تمثل تشكيلات الحشد الشعبي الذي حارب داعش وانتصر عليها وأراد العامري استثمار هذا النصر لصالحه مثلما حاول حيدر العبادي استثمار هذا النصر وعزاه لنفسه وسمى كتلته بهذا الإسم. من هنا بدأت لعبة التحالفات الجديدة والمفاوضات والمساومات البازارية في الكواليس لتشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان ، والكل يطمح لنيل منصب رئيس الوزراء العامري والعبادي والمالكي، والصدر أو من ينوب عنه أو يختاره هو كمرشح لهذا المنصب، إضافة للسعي لضمان الحصول على منافع ومناصب ووزارات سيادية مؤثرة من قبل الكتل السياسية الأصغر التي لم تحقق نتائج باهرة ككتلة الحكمة بزعامة عمار الحكيم. وكل هذه الأسماء والزعامات والشخصيات والقيادات متهمة بالفاسد المالي والإداري وفرض نفسها بقوة السلاح والميليشيات على الشارع العراقي. وللخروج من المأزق والأفق المسدود لابد لمن يتصدى للزعامة المطلقة في العراق أن يقدم برنامج إصلاحي حقيقي يقبله الشعب ويتمثل بإلغاء نظام المحاصصة الطائفية ومحاسبة اللصوص والفاسدين ، وربما تقديم نوري المالكي للمحاكمة هو وأركان حكمه بسبب احتلال داعش لثلث الأراضي العراقي في عهده واضطرار العراق للتضحية بشبابه واقتصاده وأمواله وثرواته المادية والبشرية طيلة ثلاث سنوات للتخلص من هذا الغول الإرهابي المدمر المسمى داعش. وهناك لجنة تحقيق برلمانية عن احتلال الموصل ومدن أخرى في غرب وشمال العراق ورد في تقريرها إسم رئيس الوزراء العراقي بين 2006 و 2014 نوري المالكي و 35 مسؤول كبير في إدارته، مدنيين وعسكريين، كما صرح عضو لجنة التحقيق النائب في البرلمان عبد الرحيم الشمري وسلم لرئيس البرلمان المنتهية ولايته سليم الجبوري الذي سيستغل هذا التقرير للمساومة خاصة بعد فشله في الفوز بمقعد في الانتخابات الأخيرة حيث سيتم تصعيده للبرلمان بأي ثمن في أعقاب مسرحية أعادة العد والفرز يدوياً.ولم يعترض رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي على نتائج التحقيق البرلماني ووافق على إرساله إلى السلطات القضائية في محاولة منه لتسقيط منافسه وزعيمه السابق نوري المالكي. وإذا لم يحصل اتفاق وتوافق بين مقتدى الصدر وهادي العامري، فالحرب الأهلية الشيعية ــ الشيعية آتية لا محالة وبدفع وتشجيع من إيران صاحبة الكلمة الفصل والأخيرة في الشأن السياسي العراقي. أغلب الشيعة العراقيين يعتقدون أن إيران هي سبب الكثير من المشاكل والمآىسي التي يعاني منها العراق وبضمنها قطع إمدادت الكهرباء عن الجنوب العراقي ذو الغالبية الشيعية، وعن مدينة البصرة بالذات، بحجة عدم دفع الحكومة العراقية للفواتير، إلى جانب تردي الخدمات الأساسية وشحة المياه و رداءتها بل وعدم صلاحيتها للشرب والاستخدام المنزلي خاصة بعد إغلاق إيران للكثير من روافد نهر دجلة الموجودة في الأراضي الإيرانية حيث بنت إيران عدداً من السدود لمنع مياه الروافد من الدخول إلى الأراضي العراقية مثلما فعلت تركيا ، وهناك ارتفاع نسب البطالة بين الشباب ما أدى إلى اندلاع تظاهرات احتجاجية غاضبة في شوارع المدن الشيعية في البصرة والنجف وكربلاء وبابل والديوانية حيث هاجم المحتجون مقرات الأحزاب السياسية ومقرات الميليشيات وأحرقوا بعضها كما أحرقوا صوراً للخميني والخامنئي وهم يرددون " إيران بره بره البصرة تبقى حرة". مما أثار امتعاض وغضب الميليشيات المسلحة الموالية لإيران التي وصفت المحتجين بالمندسين والبعثيين و ردت بعنف على المتظاهرين وقتلت العشرات منهم بالرصاص الحي. خاصة بعد مهاجمة المتظاهرين الغاضبين لبعض المباني الحكومية ومطار النجف . كما تعرض لهجمات المحتجين مقر منظمة بدر المدعومة إيرانياً بقيادة هادي العامري ، ومكاتب لميليشيات عصائب أهل الحق المتحالفة مع العامري في كتلة " الفتح" وكذلك مكاتب لحزب الدعوة ولتيار الحكمة الذي يتزعمه عمار الحكيم، وكل ذلك يجري تحت صمت مريب من جانب المرجعية الدينية العليا في النجف. وهذا يشكل مؤشراً جلياً على رفض أغلبية الشارع العراقي للنفوذ الإيراني ما يعني حدوث إنقسام في الشارع العراقي الشيعي بين موالي ومعارض للنفوذ الإيراني ولفكرة ولاية الفقيه وتشكيل قوة مسلحة رسمية ونظامية موازية للقوات النظامية العسكرية من جيش وشرطة اتحادية على غرار الحرس الثوري ولكن في العراق تحت مسمى دمج قوات الحشد الشعبي قانونياً وجعلها قوة نظامية ضاربة لحماية النظام. والحال أن التيار الموالي لإيران هو المسيطر لأنه يملك المال والسلطة والسلاح والهيمنة الإعلامية . المأزق السياسي مستمر في العراق ويحول دون تشكيل حكومة شرعية منتخبة في ظل المساومات الجارية فاياد علاوي أحد الخاسرين في الانتخابات يحاول أن يجد له مكاناً في التشكيلة الحكومية القادمة لذلك قام باقتراح تشكيل حكومة الأقطاب على مقتدى الصدر زعيم تحالف سائرون الفائز ويتضمن هذا المقترح الفنطازي إسناد المناصب العليا والسيادية لزعماء الكتل السياسية وهي نفس الوجوه المكروهة شعبياً والمتهمة بالفساد والنهب والعجز والفشل، وهناك الكثير من الطبخات السرية المعدة في الكواليس إما برعاية إيرانية مباشرة أو بإشراف وتوجيه أمريكي مباشر، على ضوء نتائج الانتخابات المعلنة في 18/5/2018 والتي واجهت موجة من الطعون والشكاوي والتهديدات بحجة تزويرها واختراق أجهزة العد الفرز الإلكتروني التي استخدمتها مفوضية الانتخابات الفاسدة وغير المستقلة عكس تسميتها بالمفوضية العليا المستقلة، ولقد اعترفت المحكمة الاتحادية بعمليات التزوير في العديد من المحطات الانتخابية في عدد من محافظات الشمال والغرب العراقي السنية والكردية على وجه التحديد والموافقة على عادة العد والفرز يدوياً. الأمر الملفت حالياً هو تشدد مقتدى الصدر وتحالف سائرون حيال نوري المالكي وتحالف دولة القانون ومعارضة أي تقارب أو اتفاق مستقبلي معه ورفض أية وساطة للحيلولة دون المضي بهذا الاتجاه في حين لا توجد اعتراضات أو خطوط حمراء تجاه باقي الكتل السياسية الفاسدة أيضاً ككتلة علاوي " المسماة الوطنية " والفتح والحكمة والنصر مع محاولات مضنية لإقناع الكورد بالانضمام إلى هذا التحالف أو ذاك الذي يسعى لتشكيل الكتلة البرلمانية ألأكبر التي ستكلف بتشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء العراقي القادم طبعاً مع محاولة استقطاب بعض ممثلي السنة كجمال الكربولي وأحمد الجبوري وخميس الخنجر وآل النجيفي وسليم الجبوري وغيرهم والأخطر ما في الموضوع هو عدم موافقة أية جهة للذهاب إلى المعارضة فالكل يريد أن يكون طرفاً في السلطة والحكومة القادمة بأي شكل من الأشكال وليس مستحيلاً التوصل إلى تفاهمات بدفع وإملاء إيراني وأمريكي على مختلف الفرقاء حيث يصبح خصوم الأمس أصدقاء وحلفاء اليوم وكل شيء وارد وممكن في عراق الفوضى والتناقضات و لا شيء مستحيل خاصة إذا وافق الجميع على مفهوم " الحكومة الأبوية " الصدري ، ما يعني أن الأفق العراقي سوف يبقى مسدوداً إلى أمد طويل جداً.