&
خمسة من عمالقة الأدب في القرن العشرين ولدوا في نفس العام،1899. وهؤلاء هم: الأمريكي إرنست همنغواي، والروسي الأصل، الأمريكي الجنسيّة فلاديمير نابوكوف، والياباني يزرسنار كواباتا، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، والبلجيكي هنري ميشو. إثنان من هؤلاء فازا بجائزة نوبل للآدب وانتحرا. الأول هو إرنست همنغواي الذي انتحر برصاصة في الرأس صبيحة الثاني من شهر يوليو-تموز 1961. والثاني هو يورسناركواباتا الذي مات مختنقا بالغاز في شقّته ليلة السادس عشر من أبريل-نيسان 1972. وقد علّق إبنه بالتبنّي على ذلك قائلا:”أبي لم ينتحر ذلك أن الإنتحار يعني موتا كارثيّا، ودما مسفوحا مثلما هو الحال بالنسبة لميشيما. أما بالنسبة لوالدي فقد مات بهدوء وهو يتنفس تماما مثلما هو الحال بالنسبة لمن يموت موتا طبيعيا".
الآخرون فقد عاشوا جميعا عمرا مديدا. فقد انطفأت روح فلاديمير نابوكوف في الثاني من شهر تموز-يوليو 1977 في مستشفى مدينة لوزان السويسريّة اثر حمّى لم يتمكّن الأطبّاء من تحديد طبيعتها. وفي التاسع عشر من شهر أكتوبر-تشرين الأول 1984 سكت قلب هنري ميشو إثر ذبحة صدريّة في المستشفى الجامعي بباريس:”سلّم نفسك يا قلبي لقد ناضلنا طويلا. فلتتوقف حياتي .لم نكن جبناء أنا وأنت. لقد فعلنا ما في وسعنا أن نفعل"(كتب ميشو هذه الأبيات عام 1928). عقب مرور سنتين على وفاة ميشو، وتحديدا في الرابع عشر من شهر يونيو-حزيران 1986، رحل بورخيس عن الدنيا في شقّته بالمدينة العتيقة بجنيف التي عاش فيها سنوات طفولته، وفيها اكتشف آداب العالم التي سيولع بها في ما بعد، ليصبح أحد اكبر المختصين فيها، والعارفين بأسرارها. وقبل موته، قال بورخيس:”الإنسان يحسّّ بالموت قادما. واقترابه يخترقه تعبا وضوءا".
لكن أيّة علاقة بين هؤلاء العمالقة؟
يمكن القول أن همنغواي ونابوكوف وبورخيس وميشو وكواباتا عاشوا جميعا أما المنفى االخارجي، وأما المنفى الداخلي. فمنذ سنوات شبابه الأولى، ساح همنغواي في الأرض ،ولم يكن يعود الى بلاده إلاّ لفترات قصيرة. لذا فإن أغلب رواياته تدور خارج وطنه الأصلي: في ايطالي، ا حيث كان على الجبهة خلال الحرب الكونية الأولى. ومن تجربته تلك، استوحى موضوع روايته الأولى:”وداعا للسلاح". وفي اسبانيا حيث كان متطوّعا الى جانب الجمهوريين خلال الحرب الأهلية التي كانت موضوع روايته:”لمن تدقّ ألأجراس؟". وفي فرنسا حيث أقام اكثر من مرة. وفي افريقيا حيث كان يستهويه الصيد في أدغالها. أما نابوكوف فقد أجبرته الثورة البلشفيّة على ترك بلاده روسيا ليعيش فترة طويلة متنقلا بين العديد من البلدان. فكان في براين. كان في باريس. وفي النهاية استقرّ في الولايات المتحدة الأمريكية مختارا الكتابة بلغة شكسبير ،ومصدرا رائعته :”لوليتا " التي حقّقت له شهرة عالمية واسعة. وفي فترة شبابه، غادر هنري ميشو بلجيكا ليستقرّ في باريس حتى اللحظة الأخيرة من حياته. وقد أمضى هذا الشاعر غريب الأطوار، الكاره للشهرة والأضواء، الشطر الأكبر من حياته متجوّلا في آسيا،وفي أمريكا الجنوبيّة. ومن وحي رحلاته تلك، كتب العديد من الأعمال الشعرية الفريدة من نوعها. وفي ما يخصّ بورخيس فإنه يمكن القول اعتمادا على أعماله التي تخترق اللغات والثقافات، بإنه كان "مواطنا عالميا"بامتياز. وكان "زهرة الريح الكونيّة" على حدّ تعبيره. وحتى وإن لم يغادر اليابان ، فإن كواباتا عاش وكأنه منفيّ في موطنه الأصلي، رافضا الإنخراط في أيّ تيّار أدبي أو سياسيّ، معتصما بوحدنه حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
هل التقى هؤلاء العمالقة؟
المؤكد هو أن بورخيس التقى بهنري ميشو خلال مؤتمر "نادي القلم" ببيونس آيرس في خريف عام 1936. وفي ما بعد كتب يقول:”أحتفظ بذكرى شاب باسم، رائق الموزاج، صافي الذهن، وساحر بطريقة عجيبة. ولم يكن يدافع عن أيّة نظريّة من تلك النظريّات التي كانت تشغل عصره. وكان مرتابا من باريس، ومن "كنائسها الأدبيّة"، ومن بابلو بيكاسو الذي كان معبود الناس في ذلك الوقت". بعد ذلك بخمسة أعوام، قام بورخيس بترجمة "بربريّ في آسيا" لهنري ميشو الى الإسبانية، واصفا ترجمته بأننها لم تكن "واجبا وإنما لعبة". وأما ميشو فقد كان مع روجيه كايوا مدافعا عن أدب بورخيس، ومُحرضا دور النشر الفرنسية على ترجمة قصصه وأشعاره. وتمّ اللقاء الثاتي بين بورخيس وميشو مطلع السعينات. فقد كان صاحب "بربريّ في آسيا" يسير في شارع "البوزار" بباريس بصحبة ميشلين فانكين حين شاهد على بعد خطوات منه صديقه القديم بورخيس وقد تأبط هو أيضا ذراع إمراة. ولم تكن تلك المرأة غير ماريا كوداما التي سيزوجها بورخيس قبيل وفاته. ومعا شرب الصديقان الشاي في الفندق الذي مات فيه أوسكار وايلد في شارع "السين" وهو شبه معدم. أما اللقاء الأخير فقد تمّ في صيف عام 1983 وذلك عندما ألقى بورخيس محاضرة في "الكوليج دو فرانس". وقد حضر تلك المحاضرة مثقفون وكتاب مرموقون .وكان ميشو واحدا منهم. وفي ما بعد قال بورخيس:"أحسست أن ذلك اللقاء سوف يكون اللقاء الأخير!”. وكان الأمر كذلك.
أما الآخرون فلم يلتقوا أبدا. غير أنهم تعارفوا من بعيد. فعندما منعت رواية "لوليتا"لنابوكوف في عام 1959 بسبب "لاأخلاقيتها"، نشرت مجلّة "سور" الشهيرة ردود فعل الكتاب. وكان بورخيس واحدا من هؤلاء. وقد صرح قائلا:”لم أقرأ كتاب نابوكوف، وما أظنّ أني سوف أقرؤه ذلك أن طول العمل الراوائي لا ينسجم لا مع عتمة عيني، ولا مع قصر الحياة البشريّة. قليلة هي الكتب -ألف ليلة وليلة وأورلاندو فيريوزو-التي يتوافق جوهرها مع طولها. وعلى العموم هناك صفحات كثيرة لا تؤدّي في النهاية إلاّ إلى الضجر والرتابة. مع ذلك أنا أدين منع رواية نابوكوف". وكان بورخيس قاسيا أيضا على همنغواي. فعندما انتحر هذا الأخير صرح قائلا:”لقد انتحر همنغواي لأنه اقتنع في النهاية أنه ليس كاتبا كبيرا". وفي رسالة الى صديقه ادموند ويلسون بتاريخ 22 مارس-آذار 1941، كتب نابوكوف منتقدا همنغواي وآخرين:”إن دروسي تثير دائما همسات إعجاب وتقدير. وبين قوسين أقول لك إنني سلخت غوركي وهمنغواي وآخرين، ومن المستحيل تحديد الجثث".
غير أن العمل الأدبي الذي شكّل رابطا وثيقا بين العمالقة الخمسة لم يكن غير رائعة جيمس جويس "أوليسيس". ولا أحد منهم تردّد في التعبير عن إعجابه بها. وكان همنغواي الوحيد الذي تعرف على جويس عندما كان هذا الأخير يقيم في باريس. وقد استحضر شخصيّته في البعض من من أعماله مثل ”باريس وليمة متحركة"، و"هضاب افريقيا الخضراء". و" في النهر الكبي"ر ، وهو يصطاد التروتة، يتذكر همنغواي رواية "أوليسيس" ،ويكتب قائلا:”أرى أن ديدالوس هو جويس نفسه. لذلك هو شخص رديئ. وقد كان جويس رومانسيا جدّا، ومثقّفا جدّا. أما ليبولد بلوم فقد ابتكره عكس ذلك. لذا هو رائع!”. وبعد أن أنهى قراءة "أوليسيس" في عام 1931، لم يتردد نابكوف في اعتبارها نموذجا للرواية الحديثة. وأمّا بورخيس فقد اعتبرها رواية "ناجحة للغاية وتكاد تكون لامتناهية"...