&

يحكي الفيلم &قصة مقاتل من جبهة نمور التاميل اسمه ديبان، وامرأة وطفلة يتيمة عمرها تسع سنوات ، يتفق الثلاثة على تقديم أنفسهم كعائلة واحدة للحصول على اللجوء في فرنسا، يتم توطينهم في احدى الضواحي الباريسية، تتجاوز الطفلة صعوبة تعلم اللغة ويعمل ديبان كحارس للوحدات السكنية لكن المشكلة الكبرى تكون مواجهة هذا المجتمع الجديد الذي يتسم بالعنف وتسيطر عليه العصابات.
هذه الشخصيات الذابلة والمنهكة، الفارة من الحرب والجوع والموت يتم زرعها في ضاحية بائسة وتجبر على العيش مع الغرباء الذين لا يعرفون ولا يتمتعون بحياة هادئة وليس لديهم فرصة للتفاهم مع غيرهم، فتتحول الشخصيات الثلاث إلى شبه أشباح في أرض الجحيم.
تظهر ملامح سينما هوليوودية وهذه ليست من عادة السينما الفرنسية حيث يظن النمر المحارب أنه ترك الغابة والتوحش لينعم بالسلام في ظل المجتمع المدني ولكن هذا المجتمع لا يقل خطورة ورعبا ودموية عن تلك الأرض التي تسودها الحروب العنيفة، يتحول الحلم إلى كابوس فيضطر النمر للتكشير عن أنيابه وسحق من يتحرش به.
جاك أوديار يشرح في عدة مناسبات موضحا أن فيلم ديبان كانت انطلاقته من هذه الشخصية نعني ديبان المهاجر البائع المتجول المرهق والمحطم الذي نرى مثله في شوارعنا يبيعون الورود ثم جاءت فكرة العائلة المزيفة ثم بعد ذلك وجد الفيلم موضوعه من هذه اللحظات ثم تطور ليتطرق للحرب وهنالك عشرات الحروب في العالم لا نفهم أسبابها، هو فيلم يعكس وجهة نظره عبر هذه الشخصيات، من الأسئلة المهمة ماذا يعني أن نكون غرباء وأجانب لا نفهم لغة المجتمع الذي دفعتنا الظروف لنعيش فيه؟ ماذا نرى؟
والفيلم ليس محاكاة أو نقلا للواقع وهناك نقلات كثيرة للفيلم كسيناريو والنتيجة النهائية التي نشاهدها في قاعات العرض فتصوير ومراحل تنفيذ الفيلم هي التي حركت وطورت أشياء كثيرة، فنضجت القصة والأفكار وهذا حدث بفضل العمل مع الممثلين، فهذا الفيلم نتيجة صيد منظم ومحترف لعدة أشكال تقنية سينمائية، فلا توجد تعقيدات &في التكوين ولا مجازفات مبالغ فيها، أي كاننا نتصفح كتابا ننتهي من الفصل الأول لننتقل إلى الثاني وهكذا. &&
الفيلم من وجهة نظر المخرج ليس مقارنة بين التاميل والضواحي الباريسية، كون الضاحية ومايحدث فيها من عنف هي فضاء سينمائي، فنحن هنا عائلة مزيفة لا روابط بينها جمعها القدر فهي تحاول التأقلم مع واقع جديد لتصبح فعلا عائلة حقيقية موحدة فيتسلل إليها الحب والألفة وكذلك في الكثير من الأفلام نرى وجهة نظر الفرنسين تجاه الآخرين وخاصة المهاجرين لذلك الفيلم يحمل وجهة نظر عكسية أي ما يراه هؤلاء، فنحن مع فيلم فرنسي محض ولكن هنالك اللغة التاميلية وأحيانا قليلة العربية، مع ممثلين غير معروفين، هذه العوامل لا تنفي فرنسية الفيلم، كون الفيلم يركز على قاعدة التعايش معا في فرنسا، هذه الشخصيات موجودة ومهمشة ولا أحد ينتبه إليها تحولت إلى أبطال وشخصيات اسطورية نتنافس في تحليلها ومناقشة أفكارها.
كما يفصح المخرج أن اختيار الثلاث الشخصيات سيرلانكية هذه نماذج بعيدة ومن أرض بعيدة جدا أي هم فعلا غرباء ولا يفهمون الفرنسية ولهم عاداتهم ومعتقداتهم مختلفة جدا وهكذا تعكس وجهة نظر مختلفة نجهلها.
وأن تصوير العنف في سيرلانكا في بداية الفيلم ثم التدحرج إلى عنف الضواحي الباريسية ليس لهدف توضيح وشرح ما يحدث هناك أو هنا فهي ديكور وخلفية حتى وإن تشابهت مع الواقع وأن ما يهمه ويفكر فيه هو الشخصيات في هذه الأماكن وكيف تصب القصة مع شخصياته ومع بداية مشروعة لم تكن هنالك مشكلة تدفق المهاجرين من سوريا والعراق وغيرها ولم يكن من أهدافه طرح هذه القضية ولكن الفيلم كعمل فني يمكن تنوع وجهات النظر حوله ومناقشة قضايا اجتماعية مقلقة والفيلم لا يعكس تصريحات سياسية عن ما يحدث هناك أو هنا، المهم في الفيلم قصة الحب فهذا الرجل يضطر للعيش مع عائلة مزورة ولا تربطه بها إلا أوراق مزورة ثم تظل العلاقة جامدة وباردة ولكن مع العشرة يولد وينمو الحب ويتذوق لذة الحب ومعنى الحياة لذلك يدافع بقوة لصيانة هذا المكتسب ولسنا مع شخص مريض نفسيا ويستيقظ الشر بداخله ولا يأتي فعله كرد فعل ناتجة من تأثيرات الماضي، ما يفعله من عنف ضد العصابة رغبة في الحياة ومن أجل الحب.
&
كما وضح أنه خلال كتابته المشهد الأخير تسرب إلى تفكيره نهاية الفيلم الأمريكي سائق التكسي للمخرج مارتن سكورسيزي لكنها ليست نسخا أو رغبة في تقليد سكورسيزي بل ملتها الضرورة الدرامية كون ديبان ظل دائما مستجيب لرغبات الآخرين وخاضع لهذه الظروف في النهاية هو ينصت لرغبته الشخصية في حماية عائلته، والهدف الشخصي من هذا الفيلم منح صورة ووجه وجسد واسم وكينونة وفكر لشخص مجهول وفاقد لكل شيء أي اللاجئ الذي يعاني البؤس في فرنسا فالفيلم مناسبة لمنحه حق الظهور وسماع صوته وتصويره سينمائيا وكانت لديه رغبة لتصوير وجوه جديدة وغير معرفة للجمهور، ويرى جاك أوديار أن السينما الفرنسية لها مذاقها الخاص لميولها إلى روح الأدب وتوظيف العامل النفسي وعكسها لمعاني وأحاسيس إنسانية ورغم أنها لا تمتلك سوقا مطلوبا في الخارج إلا أن الأفلام الفرنسية لها حضوة وجمهور في المهرجانات العالمية.
حاز الفيلم على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2015 ولا تكمن أهميته بهذه الجائزة ولكن كوننا نعيش فعلا فيلما سينمائيا بليغا لمخرج يمتلك خبرة ولغة سينمائية فنية وذكية.
* سينمائي وكاتب يمني مقيم في فرنسا
&