&
يطيب لي كلما أحتاج لقراءة الشعر أن أهرب من مرارة العيش الذي أنا فيه في بلاد الويلات العراقية وألوذ بديوان " أوراق العشب " للشاعر الاميركي ” وولت وايتمان ” فأغور في معانيه وأطعم روحي زادا شعريا من ديوانه اليتيم وأنا الذي أعاني وصحبي محبّي السلام والابداع &في بلاد تستطعم الحرب تلذّذاً وتتلهف الى إدامتها وإطالتها طالما ان الكثير من ساستنا قد فقدوا عقولهم وأغوتهم النزاعات فصارت لعبة مستديمة وتراجيديا مضحكة غريبة الاطوار .
فالعم وايتمان قال مرة : ” اتفرّج على هذا العالم الأحمق واسخر منه ” متمنّيا على نفسي ان اموت ضاحكا هازئا بالذي يجري مثلما قال كلكامش في ملحمته : " كيف يمكننا الاّ نموت " مادامت الحرب جعلتنا مواقد وحصبا لأهلنا بحيث افقدتهم عقلهم وخلت سرائرهم من التراحم والتعاطف والتوادّ ووصلنا الى التوسّل بالضواري لنستنجد بها عسى ان نهنأ ولو لماما بقربها وأيقنّا بان العيش مع تلك الضوارى أرحم كثيرا مما نحن فيه .
ايّة بشاعة ان ترى نفسك وسط معمعان حرب ضروس دائمة الحمرة من الدماء لا تدري متى وكيف وأين تهلك كلما خرجت من بيتك لأمرٍ هام تضع روحك بين راحتَي يديك ، فلا مكان آمن حتى وأنت تحت سقف بيتك وقد يداهمك الملثمون والمتزيّون بزيّ الدرك والعساكر في الشارع وفي مشغلك ومأواك تحت جنح الظلام او في رابعة النهار ، فالامر سيان وكيف سيكون مصير جسدك الواهن اصلا المبتلى بالأسقام ؛ هل سيتفتّت قطعا محروقة سوداء بفعل المفخخات والمواد المتفجّرة وتتحول في غمضة عين الى لحوم مائعة على بلاط الارصفة والشوارع &ورقائق من السخام وعظام مسودّة لتجمع في اكياس خيش وتقذف مع اكوام القمامة ام تذوب لحمتك وتسيل على الاسفلت او رصيف الشارع لتدفع الى مياه المجاري وتؤول نسيا منسيا في مناقع الارض وتكون طعاما رائقا للجرذان ثم تكنس كقطع نفايات تُرمى في اية حاوية قريبة ... والسعيد الحظ من يُستدلّ عليه ليأتي أهله ويحشروه في خرقة كفن تمهيدا لقبره ورميه في حيز ضيق في احد المدافن .
لم يجانب الصواب ” جاك بريفير ” حينما قال في قصيدته الرائعة ” باربارا ” التي قرأتها يوما في ديوانه ” كلمات ” حين اشتدت بي الكآبة الى اقصى مداها حتى اني حفظتها عن ظهر قلب كما يقول طلبتنا & فور الإنتهاء منها :
آهٍ &باربارا
اية حماقةٍ هي الحرب !
اية حزمةٍ من الاخطاء تحلّ بنا !
كيف اصبحتِ الان
تحت هذا المطر المدمّى من جديد ؟ !
مطرٌ من نار وفولاذ
والرجل الذي ضمّك بين ذراعيه
هل كان مصيره الموت ؟
ام مازال على قيد الحياة ويترقب موته
آهٍ &باربارا
كل شيء أضحى فاسدا
مع هذا المطر الآثم بدويّهِ المرعب
المعبّأ بالفولاذ ، المصطبغ بالدم
هل كان لزاما علينا ان نكون وحشيين وبذيئين الى هذا الحدّ وننتشي بأبواق الحروب بدلا من نايات الاغاني وأوتار عودها وصداح حناجرها .
وهل علينا طوال عمرنا أن نقف يوميا امام المرآة لنتعطّر بطيب عطّارة الحروب ” منشم ” استعدادا للمواجهة الدامية بدلا من ان نشمّ عبق السلام وعبيره الذي يشرح الصدر ويفتح اسارير الروح ويعطّر الانفاس عوضا عن ان ننفث زفير الكراهية والمقت ، هل اننا رهط فينا جاهلية ونزوعات عدوانية لا تــريد ان تغادرنا بعد كل هذه القرون الطـــويلة والعصور الغـابرة .
لم يجانب جدّنا زهير بن أبي سلمى حين سبقنا في شتم الحرب والإطراء والثناء على دعاة السلام وقاطعي حبال الحرب الخانقة عندما قال في معلّقته قبل الاسلام :
تداركْـتما عبْـساً وذبْـيان بعدمـا
تنادَوا ودقّوا بينهم عطرَ منشمِ
وما الحرب الاّ ماعلمتمْ وذقتمو
وما هو عنها بالحديث المرجّمِ
متى تبعثوها تبْـعثُـوها ذميـمةً
وتضْرَ اذا ضرّيتموها فتضرمِ
فتعرككم عرك الرحى بثغالها
وتلقـحْ كشافـاً ثم تنتجْ فتـتْئـمِ
فتنتج لكم غلمان أشْـأم كلهـم&
كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطمِ
وكم كان هذا الشاعر صائبا بعيد النظر حين أخذته بصيرته وهو الذي قضى كلّ عمره في أيام الجاهلية بشبه الجزيرة العربية والحجاز الى بلادي &وكأنه يتنبأ بما سيجري في العراق جرّاء مآسي الحرب في بيتهِ هذا من معلّقته الخالدة :&
فتغْـلْـل لكـم ما لا تغُـلّ لآهِـلها
قرى بالعراقِ من قفيرٍ ودرهمِ&
ألا يعلم اهلنا ان ” منشم ” هذه قد رفعت راية الشؤم وان ثمرتَها السوداء الكالحة عسيرة الدقّ والطحن ولو دُقّت بجهد جهيد فلا يطلع منها الاّ ريح منتنة كريهة النفث فما الذي يرغمكم ياسادتي العرب على التعطّر به والانجذاب اليه وأمامكم المال الوفير والعقل الكبير لتتسوقوا من صالات العطور الفرنسية من شانيل وجيفنشي وآيف سان لوران وكوسمو وشركات عطور افينيو مما لايعد ولايحصى من أطايب الأنفاس التي تبعث السلام والهدأة ووداعة النفوس وسلاسة الجمال .
وليتكم تعرجون على برلمانات جيراننا الاوربيين لتستعيروا من فساتين الديمقراطية أبهاها وأسطعها ألوانا وتعرضونها في منصات ماتسمى برلماناتكم ومجالس الشورى عندكم ليروا ساستنا &الكرام سحنات البهجة والجمال التي تتزين بها وتلبسونها في أجسادكم بعد ان تغتسلوا جيدا وتستعينوا بالمطهّرات الطاردة لجذام الكراهية والمزيلة للتعرّق الذي يسيح زفرة وتتأنقوا بالمساواة وتفتحوا نوافذكم لكل نسائم أهلكم من اية جهة أتت لاجل ان تشرحوا صدوركم بها .
اجل هناك عالمان نعيش بهما الان وليس عالما واحدا ، الاول شكّله ونمّاه الجهل والعسف وخناق السكوت والفوارق الطبقية والعقائدية والعرقية وقادته الدكتاتوريا والعسكريتاريا ؛ اما الاخر فقد نزع من كيانه خرق العداوة والبغضاء والتمايز العرقي والعقائدي ولبس رداء الديمقراطية وإزار السواسية فسطع شكله وتجمّل وزها عاليا وانتشى وأغلق رتاج الحروب وأنس بالسلام وتباهى بالديمقراطية الحقّة فان اردتم السلام والوئام فاستعينوا بالمدنية واستضيفوا الديمقراطية في أروقتكم السياسية بشكل دائم .
واحسب جازما ان دولنا الحالية لو تمسكت بالديمقراطية السليمة وتجاورت معا لاتحارب بعضهما البعض وسيتم وأد النزاعات الداخلية والحروب الاهلية الى الابد .
الزؤام والحِمام على من يصنع الحروب والدمار .
السلام على من يُرسخ السلام وينشر المحبة بين الأنام .
كم كان مصيبا كاتبنا المسرحيّ الكبير سعد الله ونّوس رحمه الله حين قال عبارته الخالدة " هذا هو أملنا وسنبقى محكومين به ماحيينا " .
كفانا حروبا ونزاعات لامعنى لها &، اكسروا كؤوسكم المريرة المليئة بماء الحنظل واستبدلوها بالسائغ والرائق والمنعش والريّان والشافي المُعافي من الشراب وأوقن انكم لن تخسروا إلاّ ما ينغّص حياتكم ويربك عيشكم .. ألا تدركوا بعد كلّ هذه الرزايا والحروب المتواصلة اننا نتعطش للسلام والمدنيّة والديمقراطية والتحضّر الطارد للنزاعات والمكاره والبغض كي نهنأ بقية أعمارنا .
&