تحمل العلاقة بين الناقد والمؤلِّف تساؤلات كثيرة خاصة وأن الاختلاف بينهما أكثر من التوافق، يذهب المؤلف إلى اتهام الناقد بالتقصير أحيانا وتراجع أدواته أحيانا أخرى ويذهب المؤلف إلى تعامل الناقد من برج عاجي أحيانا يعيش في جزييرة منعزلة، وهكذا تبدو المصالحة والتوافق والرضا بينهما قليلا.. هذه العلاقة كانت محور الندوة التي أقيمت ضمن فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الـ 35 وحاضر فيها الناقد والروائي رسول محمد رسول والروائية والناقدة د.شهلا العجيلي وأدارتها الروائية فتحية النمر، حيث أكدوا أن العلاقة بين المؤلِّف والناقد تقع في صراع القراءات؛ قراءة عابرة لا تروي عطش الإبداع، ولا تدق باب جذوته الحقَّة، وقراءة أخرى عميقة تصل روح النص بجسده وبكينونته ليقول ما يريد قوله عبر مصباح الناقد المتخصِّص؛ فما قيمة الشمس من دون الأرض؟ وكشفوا أن هناك فجوة بين النقد والرواية في الأدب الإماراتي خاصة، ومنطلق هذه الفجوة يعود إلى أن الكثير من الأدباء لا يتابعون الساحة النقدية التي تتناول إنتاجهم الإبداعي بالتفسير والتحليل، فيما أنحى أدباء باللائمة على النقاد لأن الكثير منهم لا يكتبون للنقد وإنما لمجرد إبراز الثغرات، واثبات قوة إمكاناتهم النقدية.
في البداية قال د.رسول "لا يبدو المؤلِّف المبدع في الحياة سوى إنسان، وكذلك لا يبدو الناقد في الحياة سوى إنسان يجتهد في قراءة المقروء الإبداعي، ولهما معاً قيمة إبداعية نادرة في الوجود، وما يكتبانه لا يعدو أن يكون قيمة تواصلية؛ فالمؤلِّف يُنتج المعنى، والناقد يُعيد إنتاج المعنى على نحو قرائي بحسب رؤيته ومنظومة معايير الإبداع التي يراها مناسبة، ما يعني أنه ينتج المعنى أيضاً، ولكل منهما فرادته في هذا المنحى، ليس الناقد ذيلاً بشرياً للمؤلِّف أو مؤلفاً ذيلياً باعتبار قراءته إعادة إنتاج لنص المؤلِّف، وليس المؤلِّف أباً للناقد، فلا تُفهم العلاقة بينهما بهكذا ثنائيات تهشم القيمة الإنسانية وتهشم الفرادة والخصوصية لكلٍّ منهما، قد يتوافق الناقد مع المؤلِّف في بعض المسائل والقضايا وليس في ذلك تبعية خطابية، وقد يختلف معه من دون خصومة مطلقة فكلاهما في مركب الإبداع سواء، ولكل منهما فرادته في تجربته البشرية والإنسانية والإبداعية والتخصصيَّة".
وتطرق د.رسول إلى تجربته " فقد شاءت حياتي أن أكون ناقداً وروائياً معاً، ونشرت في ذلك كتباً متعدِّدة، فقد بدأتُ، ومنذ سنة 2010، بالكتابة عن تجارب السَّرد الإماراتي، ومن ثم الخليجي والعربي، حتى وصل عدد كتبي في هذا الشأن إلى تسعة إصدارات متخصِّصة في هذا الشأن،
وبالتزامن مع كل هذا الهدير القرائي - النَّقدي، آثرت تجربة الكتابة السَّردية أيضاً، ففي عام 2014، صدرت لي روايتي الأولى "يحدُث في بغداد"، لأجمع بين الخصلتين الإبداعيتين؛ خصلة أن أكون ناقداً وخصلة أن أكون مؤلِّفاً سردياً، ومثلما كتبتُ عن غيري من المؤلِّفين المبدعين السَّرديين بوصفي ناقداً روائياً وقصصياً، كذلك تمَّت الكتابة عن روايتي من جانب نقّاد أخرين بوصفي مؤلِّفاً سردياً، وأشعر أن ما تحقَّق وما جرى حتى الآن يكشف عن مشهد تواصلي إنساني - إبداعي أتفيأ فخراً بنوره".
ولفت إلى أن " تجربة أن تكتب كناقد عن نصوص الآخرين السَّردية، بدا الأمر متعة معرفية وتواصلية إنسانية. لكن، وعلى الصعيد الواقعي، تبدو تجربة الكتابة عن النصوص السَّردية الإماراتية محفوفة بمشكلة غياب الناقد المحلي "الناقد الإماراتي"، ربما كان ذلك الغياب عاملاً، من بين عوامل أخرى، وفَّر للناقد العربي المقيم وغير المقيم أن يخوض غمار القراءة والكتابة عن نصوص السَّرديين الإماراتيين رغم أن الكتابة عن الآخر تبدو لي عملية إنسانية لا تحدّها جغرافية المدن والأوطان، فالإبداع هو الابن الشرعي للمعمورة الإنسانية الكبرى. ولو ألقينا مجرد نظرة عابرة عن الكتابات النقدية في هذا الاتجاه لوجدنا أن نسبتها تصل إلى 99 % نهض بها نقّاد عرب، وهو الأمر الذي يكشف عن تواصلية قرائية وكتابية إيجابية حظي بها النص السَّردي الإماراتي، لكن ذلك لا يعني أنها تواصلية متكاملة، فأغلب الروائيين الإماراتيين لا يكترثون بما يُكتب عنهم، وتلك عزلة غير محببة، بل وعندما تتوجّه إليهم وسائل الإعلام بالسؤال عن رأيهم فيما يُكتب عنهم نقدياً لا نجد جواباً، وإنْ وجد فهو مرتبك وحائر لا ينم عن إحاطة بما قدَّمه النقّاد العرب لنصوصهم، ربما يظنون أن الكتابة النقدية هي فائضة عن الحاجة، ولا تضيف إلى نصوصهم أية قيمة جمالية، ويوحي هذا الظن بأن ولادة النص السردي (المنشور في كتاب) يمثل نهاية المطاف بالنسبة لهم، أما ما بعده فليس مهماً، هذا إن كانوا يشرعون بقراءة ما يكتُبه الناقد على نحو تاريخاني مسؤول، فهم بذلك يقطعون حبل التواصل، لأنهم يريدون أن يكونوا خارج نصوصهم بعد نشرها، وتلك محنة الناقد بإزاء هكذا حالة".
وأضاف د.رسول "على أن الأمر ليس بهذا السوء مع روائيين خليجيين وعرب، ويبدو لي أن المشكلة ترتبط بالتقاليد الثقافية والأدبية الخاصّة بمجتمع دون غيره، ففي مجتمعات أخرى تبدو ضرورة القراءة النقدية أنها تتيح للنص المقروء حياة جديدة، فليس للنص الإبداعي السَّردي ولادة واحدة ونهائية إنما له ولادات متكررة يوفرها الناقد كما القارئ الحريص على قراءة النص. إن وعياً بهكذا معنى يبدو غائباً لدى الكثير من الروائيين والروائيات في الإمارات ومنطقة الخليج العربي، وتلك ظاهرة مؤسفة".
ورأى أن الروائي المعاصر يراهن على اتساع مساحة وسائل الاتصال الجديدة، واتساع عدد قراء نصه السَّردي، وتعدُّد الآراء بشأن نصه إذا ما قُرئ، ويمثل هذا ظاهرة إيجابية، لكن هذا الاتساع غير المنظَّم غالباً ما يجعل النَّص السَّردي يفتقد إلى صوت الناقد المتخصِّص؛ فمئات الجنود بالمعركة يمكن أن يخسروا الحرب من دون متخصِّصين في شؤونها "ضباط التخطيط للمعارك". إن القراءة العابرة تتيح جمهوراً واسعاً لكنها لا تتيح للروائي الحظوة التي يمكن أن توفرها أية قراءة متخصِّصة لنصه السَّردي.. إن تواري الناقد المتخصِّص عن قراءة النص السَّردي يعني غياب أهم متلقٍّ له، بل إن هذا التواري هو الثلم لمسار العلاقة الضرورية بل والطبيعية بين الناقد والمؤلِّف أو العكس.
واستعرضت د. شهلا العجيلي مسيرة النقد، وأسسه، مبينة أن السلطة النقدية موجودة في الأساس وحاضرة في ذهنية الراوي لإنتاج عمله الإبداعي الذي يولد أصلاً لنقد الظواهر المحيطة وصولاً إلى الحل، مبينة أن لغة النقد لابد أن تكون علمية لا جارحة، وليست قولاً على نص دائماً وإنما إستشرافية لها القدرة في إحداث نقلة حقيقية للعمل الإبداعي.
ورأت الروائية فتحية النمر أن النقد الحقيقي يسهم في ارتقاء الأدب وتطوره، مؤكدة أنه إن كان هناك إبداع حقيقي يعني أنه يوجد هناك نقد حقيقي وبالعكس، داعية النقاد الى تحقيق روابط حقيقية مع الكتاب تقوم على التواصل والتعاون، والكتاب إلى أهمية تعزيز ثقافتهم النقدية للبحث عن مشتركات أساسها الارتقاء بالعمل الأدبي لمصاف الإبداع.
&