سبق وأن تألق الثنائي السير إيان ميكالين والسير باتريك ستيوارت في الأيقونتين «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت و «الأرض الحرام» لهارولد بنتر على خشبة المسرح الملكي اللندني هاي ماركت وتم نقل عرضهما فيما بعد إلى نيويورك، حيث لاقى العرضان حينها اعجاب ودهشة جمهور برودواي ولندن على حد سواء. ويُستأنف حالياً عرض إحدى تلك الأيقونتين وهي «الأرض الحرام» على قاعة مسرح ويندام اللندني في ويست إند.&
يقول الممثل الكبير السير إيان ميكالين: «إن أدائي لدور سبونر في مسرحية «الأرض الحرام» أمام صديقي باتريك، وهو يلعب دور هيرست، في برودواي، كان متعة متواصلة وفرحاً دائماً وهذا هو السبب الذي يجعلني مبتهجاً في العودة معه ثانية لاستئناف العرض في ويست إند في لندن».&
أما السير باتريك ستيوارت فيضيف قائلاً: «لقد سبق لي أن شاهدت العرض الأول للمسرحية ثلاث مرات في أسبوع واحد عام ١٩٧٥ من على خشبة مسرح ويندام اللندني، وقد قطعت وعداً على نفسي حينها على أن ألعب دور سبونر أو هيرست على خشبة المسرح ذاته مرة أخرى مع إيان ميكالين». إن ما يشير إليه ستيوارت هو العرض الأول للمسرحية الذي أخرجه السير بيتر هول على خشبة المسرح الوطني الملكي البريطاني والذي لعب فيه رالف ريتشاردسون دور هيرست وجون غيلغد دور سبونر، وتم نقل العرض من بعد إلى خشبة مسرح ويندام.
إن الماضي يشكل الخيط الرئيسي الذي تنسج منه الكثير من الحبكات البنترية، ومسرحية "الأرض الحرام"هي مواصلة لدفق الكاتب في معالجاته الشعرية لثيمة (الزمن والذاكرة) والتي كان قد استهلها بـ "حفلة عيد الميلاد"، "الحارس" و"عرض الأزياء" متتبعاً بذلك خطى سلفيه صموئيل بيكيت ومارسيل بروست
إن فضاء أحداث هذه الكوميديا السوداء هو الماضي، أما مفتاح الدخول إليه فهو "الذاكرة" "، والذاكرة هنا لا يمكن التعويل على مصداقيتها كثيراً بالطبع، ذلك إنها تستدعي الأحداث عبر تأويلات ورؤىً متباينة، فكل شخصية تنبري برسم صورة ذلك الماضي المشترك وفقاً لنواياها، وهذا ما يخلق بدوره نوعاً من التعارضات تقود إلى نزاع وجودي حاد لا يقبل أي تسوية. حين نبحر في عالم فانتازي يقرب من الشعر وينأى عن الراهن اليومي الملموس، حينها بوسعنا مجازاً أن نسميه "نزاع الذاكرة".&
أما المكان فيشكل هو الآخر عنصراً جوهرياً في بناء مسرحيات بنتر، فهو يتخذ، إلى جانب بعده الواقعي، أبعاداً رمزية وأحياناً سوريالية. فالغرفة، مثلاً، تتكرر في جـل نتاجاته المبكرة، وهي توحي بفضاء الحلم والمخيلة. إنها الملجأ أو الدرع الذي يقيك رعب الخارج وتهديده، وهي في "الأرض الحرام"، تجسيد لفضاء الروح، لعالم خاص مرتبط بالماضي بشكل وثيق.&
الأرض الحرام، كما هو معروف، هي قطعة أرض غير مأهولة بالسكان تقع بين طرفين متحاربين لا تعود لأحد ولا تخضع لقواعد، ومثلما هي منفصلة هي متوحدة أيضاً لأنها أرض لا يمكن لأحد أن يلتقي فيها بأحد دون أن يتحدى الموت، وفي هذا يتساوى الجميع. إلا إن ما يحدث في مسرحية بنتر ليس له شأن بالحرب مطلقاً، ربما هي حرب من نوع آخر أو هو نزاع يجري بين الروح والذاكرة.&
سينوغرافيا العرض الذي صممه ستيفن لويس هو عبارة عن غرفة واسعة سعة خشبة المسرح ذات جدار مقوس وسقف مكشوف هو عبارة عن شاشة مقوسة تظهر عليها صور متحركة يمكن من خلالها رؤية السماء وأشجار كبيرة جرداء تحيط بالمنزل (المصمم زاكاري بورفاري). أثاث الغرفة زهيد. نافذة شبكية مكشوفة وستارة وباب. والشيء البارز فيها هي خزانة المشروبات الكحولية ومنضدة الشراب. أما الشخصيات فهم أربعة:
هيرست، الذي يلعبه الممثل باتريك ستيوارت، وهو شاعر وناقد ومدمن كحول في عقده السادس يعيش معتكفاً في منزله الضخم مع خادمين: فوستر (٣٠ عاماً) وهو يعمل ناسخاً له ويزعم أيضاً أنه شاعر، والآخر بريغز (٤٠ عاماً) والذي يعمل طاهياً أو حارساً شخصياً له (الممثلان أوين تيل وداميان مولوني). ثم سبونر، الممثل السير إيان ميكالين، وهو شاعر حانات مبتذل مهّمش ومتطفل يقتات على ذكريات الآخرين، يلتقيه هيرست بالمصادفة في حانة تدعى قلعة جاك سترو في منطقة هامبستيد شمال غرب لندن ويدعوه إلى منزله لمواصلة الشراب.
سبونر في «الأرض الحرام» يصبح منذ لحظة دخوله المنزل الدليل الموّجه لهيرست في رحلته أو جولته الأخيرة في هذه الأرض اليباب التي:«لا تتحرك ولا تتغير ولا تكبر أو تشيخ مطلقاً بل تبقى جليدية وصامتة إلى الأبد»، على حد قول هيرست.&
فكرة البحث عن حيز له في هذا المنزل بوصفه منطقة مغرية للاقتحام والهيمنة تنبثق لدى سبونر منذ لحظة دخوله غرفة الاستقبال وتفرسه بأرجاءها ودهشته لسعتها وثرائها.&
سبونر يبدو في البدء دخيلاً عادياً يتعرف عليه هيرست بالصدفة في حانة في هامبستيد ويدعوه إلى بيته للشراب لسبب غير مفهوم، وفي
وقت لاحق يكشف هذا الدخيل عن نواياه مدعياً أنه كان زميلاً قديماً لمضّيفه منذ أيام الجامعة في أكسفورد وأنهما كانا يتقاسمان معارف من الصديقات والأصدقاء المشتركين.&
واضح إذن أننا أزاء مواجهة بين عجوزين كحوليين، أحدهما صامت ومنعزل والآخر دخيل ثرثار مراوغ وثري في استخدام التوريات. حين يثمل الاثنان تبدأ لعبة الذكريات فينبري سبونر كلاعب ماهر في تحريف أحداث الماضي وتوظيفها لصالحه. هنا تبرز مشكلة التمييز بين الذكريات الحقيقية التي تتغير وتتحور في مجرى الوقت مثل رمال متحركة، وبين تلك التي يتم توظيفها أو إبطالها لغايات ستراتيجية.
إن حيوية العرض تكمن في محاولة سبونر اختراق خطوط دفاع المشروبات المؤّمنة في المنزل والإلتفاف على الخادمين المشؤومين، فوستر وبريغز، لإيجاد وسيلة لتأسيس نفسه، بشكل دائم، في هذه المقبرة المفروشة بالسّجاد.&
المعركة التي ستدور رحاها بين سبونر والخادمين هي معركة أرض، معركة هيمنة، معركة لغوية. فالهدف الذي يسعى اليه الدخيل هو أن يكون جزءاً من عالم هيرست «باتريك ستيوارت»، أن يُعيد مشاركته لمخيلته، أن يتحدى إحساسه بالشلل والعجز كشاعر. أما الخادمان فهدفهما ببساطة هو أن يصبحا أمناء سر سيدهم في رحلته الصامتة نحو غياهب النسيان.&
ستراتيجية النزاع القائم بين سبونر والخادمين تبرز من خلال «اللغة»، والتي سبق للمؤلف أن استخدمها في مسرحياته المبكرة، حيث الشخصيات تسعى إلى هيمنة بعضها
على البعض الآخر «شفاهياً». لكن، وكما يوحي عنوان المسرحية، فإن لعبة التنافس على الهيمنة التي تجري بين الدخيل والخادمين ليست هي الشأن الرئيسي في هذه الدراما، إنما التركيز الحقيقي يكمن في تطفل الدخيل على الملاذ الخاص لهيرست في أرضه الحرام.
إن ما يجعل هذه المسرحية فريدة من نوعها حقاً هو نوع هذا التطفل، فإذا كان تطفل المتشرد ديفيز في «الحارس» ذو طابع مادي يدركه المتفرج بشكل جلي ومحسوس، فإن تطفل سبونر في «الأرض الحرام» يتخذ له مساراً سيكولوجياً ملتبساً له علاقة باللاوعي لأنه يتخذ من الذاكرة والماضي بوصلة له، حيث الذكريات هنا يتم توظيفها من قبل الشخصيات لأهداف شخصية.&
بنتر، مثل بيكيت، عُرف برفضه مناقشة مسرحياته فضلاً عن تفسيرها، ومسرحية «الأرض الحرام» تبرهن على أن بنتر هو بمثابة التلميذ الوجودي لبيكيت: «أنا أتذكر... كلا، لقد نسيت» بهذه العبارة يستهل هيرست حديثه، وفي وقت لاحق حين يبدأ الإثنان بالتحدث عن الماضي، يعّبر سبونر عن رأيه:«لقد مضى» رداً على عبارة هيرست: «لم يعد له وجود مطلقاً».&
المنولوغ الرائع الطويل الذي يؤديه الممثل باتريك ستيوارت قد يكون هو أفضل مثال يصور فكرة بنتر عن الماضي، فالماضي برمته بالنسبة لهيرست هو مثل ألبوم صوره الذي يحتفظ به، حيث أصدقائه الحقيقيين وهم يتطلعون نحوه، وهناك حيث تكمن أسرارشبابه وعشقه، إلا إن تجربته كلها تصبح شبيهة بظلال شبحية تتحول بفعل تغير ضوء الزمن. في حديثه لضيفه يقول:
«يمكنني أن أُريك صور ألبومي. يمكن أيضاً أن ترى وجهاً قد يذّكرك بنفسك وما كنتَ عليه. يمكنك رؤية وجوه الآخرين أيضاً، في الظل، أو رؤية وجناتهم تتحرك. فكوك، أو قَفا رقاب، أو عيون معتمة تحت القبعات ربما تذّكرك بآخرين كنت تعرفهم ذات يوم، وظننت أنهم ماتوا منذ زمن طويل، لكنك ستظل تتلقى منهم تلك النظرات الجانبية، إذا كان بامكانك مواجهة شبح طيب».
إن رقة هيرست وحنانه إزاء الوجوه التي يتطلع نحوها في ألبوم صوره تعزز الاستدلالات المنسوجة في كل أرجاء المسرحية حول
الأشباح الحية التي تعيش في ذاكرته، إذا جاز القول.&
في هذا الموضع المحدد من الذاكرة تبدأ المباراة بين الإثنين. إذا كان سبونر يتشهى مأوىً مادياً في الحياة، فإن هيرست يبحث، مثل أستون المعاق عقلياً في مسرحية «الحارس»، عن الدفء الانساني
لإذابة الصمت الجليدي في عزلته الانتقائية.&
حين يعترف لسبونر على مضض قائلاً:«ياصديقي... ها أنك تجدني وأنا في جولتي الأخيرة من السباق... لقد نسيت الجري من وقت طويل» فإن اعترافه هذا يدفع سبونر إلى التعامل بوقاحة وقسوة حين يدعّي هذه المرة أن مضيّفه يفتقر إلى الرجولة ويعاني من عجز جنسي، فيجرأ على القول:«فكّر قبل أن تتحدث... تذّكر ذلك. لقد فقدتَ زوجتك التي كانت بلون البندق. فقدتها ومهما فعلت فلن تعود لك ثانية». وقبل أن تبدر أية استجابة من هيرست، يسارع سبونر ويقدم نفسه بوصفه
يد عون له وملاّحاً لسفينته وصديقاً من نوعية نادرة.&
بتأكيده القاسي على عجزه الجنسي، يقّدم سبونر الدليل الرمزي على عجز هيرست عن أمكانية العطاء كشاعر، مستغلاً، بعباراته غير المحتشمة، الوضع اليائس لهذا العجوز ليثبت له أنه هو بمثابة الفرصة الأخيرة لخلاصه.&
هنا تنجح إبرة التطفل والاقتحام في وخز عالم هيرست الداخلي المخبأ خلف شظايا حكاياته المراوغة عن الماضي، ما يدفعه إلى رمي كأسه الفارغ نحو سبونر وهو يتمتم كالمعتوه قائلاً:
«كلا. (وقفة). الأرض الحرام... إنها... ثابتة... لا تتغير... أو تشيخ مطلقاً... إنها تبقى...... جليدية... صامتة... إلى الأبد».&
هنا تظهر الخيوط الأولى للمغزى الذي يستتر خلف عنوان المسرحية. ومن المهم أيضاً هنا ملاحظة إن من يبدأ في وصف المنطقة الحرام ليس سبونر، إنما هيرست نفسه. عندئذ يُفهم من ذلك أن الدخيل ربما هو بمثابة العنصر المحّفز للخطاب الذي لم يكن مصدره قادم من الخارج، إنما منبثق من قوة داخلية. فالأرض الحرام ليست فكرة سبونر إنما هي فكرة هيرست نفسه. من هنا
يمكن افتراض أن سبونر ليس شاعراً فقيراً ومبتذلاً فحسب، إنما يمكن تأويله وفق هذه الرؤية أنه ربما يمثل الأنا الثانية لهيرست، بمعنى آخر هو بمثابة وعيه والمّذكِر له بعجزه، والمدين الموجع على رصيد حسابه الروحي، لهذا السبب يسعى كل واحد منهما إلى الاحتفاظ بما يميز سمات حياته الموجودة في الآخَر. هذا معناه أن كل واحد منهما هو بحاجة لوجود الآخر!.
تنتهي الجولة الأولى من اللعبة بهزيمة هيرست حيث يسقط على الأرض ثملاً يزحف على بطنه بطريقة شائنة للخروج من الغرفة فيقف سبونر مثل فاتح منتصر يرّدد مقاطعاً تتناغم وقصيدة إليوت «أغنية حب بروفروك» قائلاً:«كنت أعرف ذلك من قبل»،&
متطلعاً نحو مضّيفه وهو يغادر الغرفة زحفاً على الأربع، مردداً: «الخروج عبر الباب، الزحف بين البطن والأرضية».&
هذه المقتطفات ذات الإيقاع الحزين والكئيب التي تردد دلالة المقطع الشهير لقصيدة أغنية حب بروفروك:(أعرف تلك الأصوات التي تموت وتتلاشى تحت وقع الموسيقى القادمة من غرفة أبعد).&
بعد أن يفيق من نومه ويظهر للمرة الثانية يحاول هيرست طمس تجربة الفشل التي وقعت له قبل ساعات بالقول أنه نسي كل شيء، الزمن والناس والأحداث، ويستبدلها بالحديث عن حُلمٍ حلمَ به تواً يصور شخصاً ما يغرق في بحيرة.&
على الرغم من إعلانه أن الذي غرق في حلمه ليس هو إنما شخص آخر، فهو يكرر اللعبة ذاتها وهي إخفاء الحقيقة خلف ستار زائف، لأن الذي يغرق في الحلم هو ذات الشخص الذي يشعر أنه غارق في عزلة الأرض الحرام، وهذا هو ما يفسر إدمانه على الكحول، فهو يشرب كي ينسى عزلته. إلا إن شعوره نحو الأرض الحرام هذه هو شعور متعارض فهو خليط من ألم وعذاب العزلة ومن تعلقه العاطفي بها في نفس الوقت.
كلاعب ماهر في استثمار لعبة الذاكرة، من المستبعد أن لا يلاحظ سبونر المغزى الحقيقي لحلم هيرست، فبدلاً من أن يُظهر تعاطفه نحوه، يسارع في مصادرته الحلم بوصفه فرصة ثمينة مفسراً إياه لمنفعته الشخصية، قائلاً:
«أنا صديقك الحقيقي. وهذا هو السبب الذي يجعل من حلمك مؤلماً وكئيباً للغاية. لقد رأيتني في حلمك وأنا أغرق. لكن لا تخف. فأنا لم أغرق»، وهذا ما يقود هيرست فوراً إلى الانهيار الثاني، فهو، أي الدخيل، هذه المرة، ليس شريكاً لماضي هيرست فحسب إنما أصبح يمثل شخصية البطل المهيمن في لعبة ذاكرته. لذا عندما يقول هيرست لخادمه وهو في حالة دوار: «أنا أعرف هذا الرجل»، ويقصد سبونر، نفهم نحن المتفرجين أن هذا الإخير قد فاز بالجولة الثانية في لعبة الذاكرة ما يدفع هيرست لقبوله بوصفه جزءاً من ذاكرته.
حين يستيقظ هيرست صباح اليوم التالي يبدو نشطاً ومنتعشاً من هزيمة الأمس مع وصول ضوء النهار منادياً سبونر هذه المرة بـ تشارلس، وهو اسم مفترض لصديق قديم ربما، لتبدأ هذه المرة لعبة القط والفأر.&
بحرمانه سبونر فرصة الحديث كإسلوب جديد للفوز في اللعبة، يستدعي هيرست حكاية جديدة من الماضي يسعى من خلالها أن تكون له اليد الطولى على سبونر وهي علاقته الغرامية مع زوجة الأخير.
ربما يتساءل المرء هنا عن مدى مصداقية قصص هذين العجوزين الكحوليين، إلا إن هذا لم يعد الان بالأمر المهم. المسألة الرئيسة هي إن ما يسميه هيرست بالماضي يضفي قوة، لكنها مؤقتة، لهويته كشاعر وإنسان. حين يتلقى سبونر اللطمة من مضيفه بشأن علاقته الغرامية مع زوجته، يصمت للحظة مانحاً الأخير لحظة للتنفيس، لكن سرعان ما يستعيد قواه ويبدأ بتوجيه ضربة مضادة لهيرست بذكر اسم صديقتين أخريتين، هما ستيلا وأرابيلا معلناً إنه ليس فقط كان مولعاً بهن، بل استمتع بصداقته مع شقيق ستيلا وثقة والد أرابيلا.&
حين يُرجع هيرست الضربة لسبونر باعلان علاقته بأرابيلا، يستخدم سبونر الفضيلة هذه المرة هنا كسلاح متهماً هيرست بخيانته للنساء اللواتي أحبهن وباستبداده الجنسي وعلاقته الفاسدة مع أصدقائه القدامى في أكسفورد.
الهجوم الأخلاقي القاسي هذا يقلب عالم هيرست برمته رأساً على عقب ما يجعله يصرخ بوجه سبونر:«هذا أمر شائن! من أنت؟ ماذا تفعل في بيتي؟».
هنا يتحطم آخر خط دفاع لهيرست أمام هجوم سبونر على مواقعه الهشة وغير الحصينة لماضيه: فهو الآن مثل صورته السابقة وهو يزحف على بطنه للخروج من الغرفة، ينكمش ويصغر متماهياً ثانية مع الصورة الواهنة لبروفروك إليوت. الواقع إن التلميحات المتكررة لقصيدة إليوت هنا ليس الغرض منها التكهن بفشل الرحلة التي يقوم بها سبونر فحسب، إنما تنطوي أيضاً على تماهي الطبيعة الواهنة لبروفروك إليوت مع واقع هيرست المقفر.
لا بد أن نتوقف هنا قليلاً بعد أن تصل رحلة العجوزين إلى مفترق طرق نتسائل:
من هو سبونر؟ وما هي العلاقة التي تربطه بهيرست على وجه التحديد؟ هل هو صديق قديم حقاً خرج له من ألبوم صوره؟. هل هو أناه الأخرى في المرآة؟
هل يعاني هيرست من الخرف أو الذاكرة الانتقائية، وما سبونر والخادمين إلا مجرد شخصيات وهمية لا وجود لها في الواقع إنما هم من بنات خياله؟
وأخيراً، هل أن سبونر، ربما، هو بمثابة ملاك الموت قدم إلى هيرست لاختطاف روحه في لحظات احتظاره الأخيرة ؟
حين تقترب المسرحية من نهايتها يشعر الدخيل بالخيبة الممزوجة بالشفقة حين يرى مضّيفه وهو يتقهقر أخيراً إلى شكل من أشكال الموت ـ الحي أو حالة من الوجود الميؤوس منه روحياً وجسدياً، عندئذ يعلن أخيراً أن مضيفه هو الآن أرض يباب منعزلة جليدية. هذا الإقرار يعطي للمسرحية عنوانها، والحقيقة التي تؤكدها هي صرخة هيرست الأخيرة قائلاً:«سأشرب نخب ذلك».&
فلنصغي لهذا الحوار الذي يختتم به الإثنان العرض:
سبونر: (...) سأقبل تحدي الموت نيابة عنك. ينبغي أن أقابله، من أجلك، بكل جرأة، سواء كان في الحقل أم في غرفة النوم. إنني فارسك. إنني أفضل أن أدفن نفسي في مقبرة الشرف من أن أسمح لكرامتك تلطخ من قبل عدو داخلي أو خارجي. إنني تحت أمرتك. فأمرني.
هيرست: دعنا نغيّر الموضوع. (وقفة) للمرة الأخيرة (وقفة) ماذا كنتُ أقول؟
فوستر: قلت أنك ستغير الموضوع للمرة الأخيرة.
هيرست: وماذا يعني هذا؟
فوستر:هذا يعني أنك لن تغير الموضوع ثانية مطلقاً.
هيرست: مطلقاً. وماذا يعني هذا؟
فوستر: يعني إلى الأبد. يعني أن الموضوع يتغير لمرة واحدة وألى الأبد وللمرة الأخيرة. فإذا كان الموضوع هو الشتاء مثلاً فإن الربيع لن يأتي مطلقاً.
هيرست: (يلتفت نحو سبونر) إنني أسمع صوت طيور. ألا تسمعها؟ أصوات لم أسمعها من قبل. إنني اسمعها الآن مثلما كانت تشدو في ذلك الحين، حين كنت شاباً، رغم
أنني لم أسمعها قط وقتها حين كانت تشدو لنا. (وقفة) نعم. هذا صحيح. إنني أسير نحو البحيرة. ثمة أحد يتبعني عبر الأشجار ثم فقدته بيسر. أرى جسداً يطفو فوق الماء، أشعر بالاثارة. أنظر بامعان وأحس أنني كنت مخطئاً. ليس ثمة شيء فوق الماء. أقول لنفسي أنني رأيت جسداً يغرق. لكنني كنت مخطئاً. ليس ثمة شيء في الماء.
سبونر: كلا. أنت في الأرض الحرام التي لا تتحرك ولا تتغير ولا تشيخ مطلقاً، لكنها تبقى إلى الأبد جليدية وصامتة..
هيرست: سأشرب نخب ذلك. (يتلاشى الضوء تدريجياً وتحل العتمة في المكان ببطء)&
&
***
&
لقد وضع الثنائي، السير إيان ميكالين والسير باتريك ستيوارت، الجمهور على راحة إيديهما منذ البدء. حضورهما الهائل والجذاب تطّلب منا انتباه وصبر غير محدودين. النص كوميدي بذاته دون شك، إلا إن القيمة الكوميدية الحقيقية تتوقف هنا على الممثل في قدرته على إيصال مضامينها ومجازاتها الكامنة خلف السطور.
هذان العجوزان المبدعان هما اللذان استطاعا تحويل الدعابة إلى مرح صاخب من خلال دقة الحركة، خفة وسرعة المشي على أطراف الأصابع، تعبيرات الوجه وكيفية نطق العبارة، لحظات الصمت الملأى بالدلالات، الفترات الطويلة للوقفات التي تتجاور مع الحركات المفاجئة وهي تتذبذب بين المحزن والمضحك وبالعكس عبر حكايات غير
مترابطة عن الماضي. وبالمثل هي معالجة المخرج شون ماتياس الذي استطاع ببراعة فائقة غرس روح الدعابة حتى في أكثر المشاهد عتمة وكآبة، حيث الطبيعة العبثية للثيمة تبرز هنا في الانحرافات الغريبة والطريفة للشخصيات، في الأمور التي لا يمكن التكهن بها، في الأحداث والكلمات على حد سواء.&
إنها قطعة موسيقية لأربعة ممثلين. مثلما كان بنتر يعبر عن ذلك من قبل مراراً، بأن من الممكن خلق الموسيقى والتوتر معاً على خشبة المسرح دون الحاجة إلى حكاية. وبالفعل فقد استطاع الممثلون وبقية طاقم العمل إبراز هذين العنصرين معاً في هذا العرض الفريد.