&
تكاثرت في الاونة الاخيرة بزمننا الاحمق هذا ممارسات تخريبية غاية في الخساسة والحطة والمهانة تتمثل في عمليات تخريب وهدم معالم فنية من النصب والتماثيل الخاصة بالنخبة الراقية من مفكري أمتنا النجباء الاحرار وكأنّ مايجري من قتل ونزوح وإجرام بحق الانسان &لم يعد كافيا ؛ إذ عمل الغوغاء الرعاع الغارقون في الجهل والتزمّت والانغلاق وتمادى التخريبيون وأراذل المنحطين على تخريب وتحطيم وتهشيم شخوص تماثيل فنانينا ومبدعينا من المفكرين والشعراء في بقاع مختلفة في وطننا العربي المهان من أهله قبل ان يهان من الأغراب والأجناب .
ففي محافظة نينوى وحدها التي كانت تسمى ام الربيعين وأضحت خريفية في كل مواسمها أطيح بتمثال الشاعر المجدد حبيب &بن اوس الطائي المكنّى &بأبي تمام وقد حورب هذا الشاعر المجدد العسير الفهم لدى مسطّحي الاذهان بعصره قبلا في عهد العصر العباسي ولم يسلم تمثاله وسط الموصل من معاول هدم نصبه في عصرنا ، ثم لحقهُ في الهدم تمثال الملاّ عثمان الموصلي الشاعر ومبدع الموشحات وباعث الالحان الشهية السمع وملهم الاغاني الخالدة والتي اتذكر منها لحن " زوروني بالسنة مرّة " &واغنية " فوق النخل " الذائعة الصيت في كل ارجاء وطننا العربي وأغنية " طلعت يامحلا نورها شمس الشموسة " التي نسبت الى سيد درويش جزافا والتي &غناها درويش في مسرح الاسكندرية مع انها من لحن الموصلي وقد أعطاها له ليغنيها خلال زيارته لمصر أوائل القرن العشرين .
فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعرّي هو الاخر قد سقط أرضا وصار رأسه ركاما وأنقاضا تحت مداس الدهماء المخربين في معرّة النعمان السورية ولم يقفوا عند هذا الحدّ فأومأ دعاة الهدم الهمجيون لأقرانهم في مصر للإطاحة برأس ابنه ورفيقه الحميم طه حسين في مدينة " المنيا " صعيد مصر مسقط رأس عميد الادب العربي فوقع أرضا معفّرا بالتراب تحت أقدام الاسافل .
مثالان صامتان لأعميين يرعبان هذه الحشود المتخلفة الغريبة الطباع لا لشيء الاّ لانهما متنوران أوقدا بصيرتهما لنا لنرى ممرا الى الخلاص والنجاة ولكنْ سعَـى الجناة لأطفائه مثلما فعل الاجداد ؛ وها هم الاحفاد ينفذون وصايا الاولين .
وكما لايخفى بين الاثنين طه حسين والمعرّي من وشائج وعُرى لايمكن فصمها او فكّ وثاقها فكلاهما انصهرا في أتون التنوير وكانا مثالَين ساطعين في الكشف عن كل ماهو شائن في فكرنا وإظهار وتزويق اللامع في تراثنا وغربلة ماعلق من فكر ضارٍ في عقولنا &وزعزعة الكثير من الثوابت التي كنا نتعكّـز عليها ، كانا يحملان عقلا قلقا وروحا متمردة على الغثّ وخطل الرأي وكانت بصيرتهما توقظ بصرَنا المائل الأحول وتدلّنا على مأوى الجمال ومثوى الابداع والصدق بأسلوب غايته الاقناع بطرائق عقلية ناضجة بعيدا عن التزمّت والكراهية وهوى النفس النازعة للاعوجاج والميل عن السداد والتعقّل والاستقامة .
في هذا الزمن الوغد ، ودون ايّ استحياء او خجلٍ يعتلي مجموعة من الهمج الرعاع القاعدةَ الهرمية لتمثال يمثّل عميد الادب العربي الدكتور طه حسين ويسرقون رأسه ؛ بعد ذلك حطموا القاعدة التي كان يستند عليها .
يومها نهضت مدينة ( المنيا ) كعادتها كل يوم ولم تجد تمثال ابنها البار النابه طه حسين في الميدان ؛ كان شارع الكورنيش كئيبا غاصّاً بالبكاء الى حدّ الجهشة ، والسابلة في حيرة من أمرهم مذهولين متسائلين ما الذي جرى ؟؟ والنسوة يبكين في نواح وأنين واضحين على اختفاء رأس التمثال البرونزي الذي بيع حتما الى تجار المعادن للحصول على ثمنه ، فما نفع ثمن العقل في بلاد تبخس الناس الفكرَ النيّر والتحضّر ؟! .
وكأني ألمح نفس المشهد المؤثر حينما صحتْ بغداد صباح يوم كئيب ولم تجد رأس تمثال ابي جعفر المنصور في ساحته الرئيسية في الحيّ الشهير المسمّى باسمه فقد تم سرقته في ليلة ظلماء في عملية مخزية رعناء ليندسّ في كيس خيش رخيص ويذوب لاحقا في مصاهر الخردة ليقبضوا ثمن النحاس المصنوع منه .
وقبل بضع سنوات خلال الحرب المستعرة في سوريا والتي لم تهدأ الى الان رغم دخول سنتها السادسة ارتقى رعاع اخرون تمثالا اخر ولكن في مدينة اخرى اسمها معرّة النعمان في سوريا منبت ومحتد الأعمى نافذ البصيرة ورهين المحبسين وهدموا تمثال شاعر الفلاسفة &ابي العلاء المعري. فهل يعلم ان هؤلاء السرّاق ودعاة الهدم انهم بفعلتهم هذه قد افسدوا كل مباهج الحياة وهشّموا الرقي والجمال وحفروا قاعا لكل ماهو بهيٍّ وممتع ؟
لقد صدق ابو العلاء حين سمّى نفسه أبا النزول حتى كأنه يتنبأ انه سيطاح به أثراً في بيته الشعري التالي :
دُعيتُ أبا العلاءِ وذاك مـيْـنٌ ----- ولكنّ الصحيح أبو النزولِ&
هذان الخالدان أورثانا لمعان التنوير وابرزا شعاع الرقيّ والنماء في عقول جيلهم والأجيال اللاحقة ولايمكن ان تمحى ابداعاتهم بضربة فأس او معول هدم .
لماذا تريدون ان تفسدوا كل ماهو جميل ، لماذا تكدّرون معين مائنا بأطيانكم القذرة ؟!
لاعجب ان يتمّ قطع رأسَ المعرّي وسرقة رأس طه حسين فهم يخافون رؤوس التماثيل مثلما خافوا قبلا من عقولٍ حوَتْها تلك الرؤوس المشعّة بالتجديد والعقلانية .&
هل هؤلاء المجرمون بفعلتهم الشنيعة -- بكل بساطة -- جهلة وفاقدو البصيرة ؟؟&
أقولها بكل يقينٍ نعم ، فالإنسان عدوّ ماجهل كما يقال دون ان اتناسى ان هناك خططٌ مبيّتة للحطّ من مبدعينا ونخبتنا السامية ؟؟! ، امّا بصرُهم فلا يرى سوى السخام والنفايات وسواد الرأي وقتامة الفكر .&
اجل انّ ابا العلاء وطه حسين &ابتليا بالعمى لكنهما اوقدا نفاذ البصيرة في نفسيهما وما العيون الكامنة في تلك البصيرة الاّ مصابيح الروح وقناديل الفؤاد وهي التي تضيء الطريق وتبعث النور في العقل ويستحيل ان يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون والذين أوتوا العلم درجات عاليات مثل هذين العبقريين .
في فتوّتي التي تعلّقت بالآدب قرأت كتاب " مع ابي العلاء في سجنه " لطه حسين وأتذكر اني أعدت قراءته مرات ومرات في مراحل لاحقة من حياتي وكنت أتحسس ان شيئا ما او رباطا مقدّسا يربط هذين العملاقين اذ يشتركان معا ويجلسان في احضان العبقرية الامّ وكل واحد يرضع من ثدييها وكلاهما أغلق بصرَه عن الغثّ من مشاهد الحياة الكئيبة والصور الكريهة الصادمة للعقل وعفّ بصره عن كل ماهو بذيء ومقزز ومثير للاستهجان والتخلّف .
نكاد نختنق من هذا الدخان الذي يتصاعد في سمائنا والغبار النقع الذي يعلو رؤوسنا حين نرى مبدعينا يطاح بهم وبتماثيلهم التي تذكّرنا بهم كلما مرّت ذاكرتُنا بمثواهم وأتساءل في سري : لماذا نفتح نوافذنا لنستقبل خناق الدخان الناتج من الحرائق الذي يكاد يقتلنا ؟؟
يحضرني وانا اكتب هذا المقال بيتان لجدّتنا الشاعرة المخضرمة الخنساء الموجوعة بفقدان أخويها صخر ومعاوية قبيل ظهور الاسلام ثمّ استشهاد ابنائها في الفتوحات الاسلامية وهي تندب زمنها العاثر :
ان الزمــان وما يُفني لــهُ عجَبٌ...... أبقى لنا ذنَبا واستؤصلَ الراسُ
ان الجديدين في طول اختلافهما......لايفــسدانِ ولـكن يفسـدُ الـنــاسُ
أعجب وأعتصر ألماً وحسرةً وأتساءل ؛هل غدونا فاسدين لاننا نشتُم ُ قدوتنا من العقلانيين والتنويريين كارهي الخرافات ونرمي سهامنا على أجسادهم ونطيح بتماثيلهم التي تذكرنا بهم ، اذا كان حدسنا صحيحا فالكوارث المدمّرة آتية بلا ريب وهذا هو الشوط الاول للخطر الذي بدأ يداهمنا لأننا نسيء لرجالنا العظام وهذا لعمري اول المفاسد وأكثرها بذاءةً &وانحطاطاً .
jawadghalom@yaho
&