&
في عام 1913،أنهى مارسيل بروست (1871-1922) الجزء الأوّل من عمله الذّائع الصّيت:"البحث عن الّزّمن المفقود" والذي حمل عنوان :"جانب منازل سوان". بعد أن رفضت دور النشر الكبيرة إصداره، اضطرّ إلى طبعه على نفقته الخاصة لدى دار "غراسيه". وفي الفقرة الأولى من هذا الجزء، كتب مارسيل بروست معبّراعن تعلّقه المبكّر بالقراءة كمصدر أساسيّ للإبداع والفن، معتبرا إيّاها-أي القراءة-"عتبة للحياة الروحيّة، باستطاعتها أن أن تساعدنا على ولوجها، إلاّ أنها لا تنشئه ولا تكونها". ويكتب مارسيل بروست قائلا:”:”كثيرا ما آويت إلى سريري في ساعة مبكّرة، وكانت عيناي أحيانا حالما أطفئ شمعتي، تغتمضان بسرعة لا تدع لي متّسعا من الوقت أقول فيه:"إننّي أنام". بعد نصف ساعة توقظني فكرة أنّ الوقت حان للبحث عن النّوم، فأبتغي وضع المجلّد الذي أظنّ أنه لا يزال بين يديّ وإطفاء شمعتي إذ أنني ما كففت في نومي عن التفكير في ما قرأت منذ قليل . لكن هذه الأفكار أخذت مجرى خاصّا بعض الشيئ فبدا لي أنني أنا نفسي ما يتحدّث عنه الكتاب”.
هذه الفقرة تحيلنا إلى مطلع نصّ عنوانه"أيّام القراءة" كان بروست قد نشره في عام 1905، ثمّ أعاد نشره عام 1906 بعد أن أضاف له انطبعات أخرى عن فنّ القراءة. وكان بمثابة تعليق على كتاب "سمسم وزنابق"للكاتب البريطاني راسكين"(11819-1900)والذي كان بروست يعتبره واحدا من معلّميه الكبار في مجال الأدب، وفنّ الكتابة.وفي بداية النصّ المذكور ،كتب بروست يقول:”ليس ثمّة أيّام في طفولتنا عشناها تمام العيش كتلك التي ظننّا أننا تركناها دون أن نعيشها، تلك التي قضيناها بصحبة كتاب هو الأفضل عندنا". والقراءة عند بروست لا تعني الهروب من الزّمان والمكان، والإنفلات منهما مثلما يتصوّر ذلك القرّاء السّطحيّون، غير المحنّكين، بل هي تعني الإرتباط بهما ارتباطا وثيقا، والإلتصاق بهما، والإنغراس فيهما لكي يكونا جزءا لا يتجزأ من الكتاب الذي هو بصدد قراءته. ففي الصّباح،بعد أن يخرج أفراد العائلة للتّفسّح في الحديقة ، "ينسلّ" هو إلى قاعة الأكل التي لا يدخلها أحد غير الخادمة "فيليسي" الصّامتة دائما. وهناك بين الصّحون الملوّنة، المثبتة على الجدران، والروزنامة التي مزّقت منها الورقة الحاملة لتاريخ اليوم المنقضي لتحلّ محلّها الورقة الحاملة لتاريخ اليوم الجديد، وبين السّاعة الحائطيّة، ونار المدفأة، وكلّ تلك الأشياء التي "تتكلّم من دون أن تطلب جوابا منّا"، يشرع بروست في القراءة. بين وقت وآخرتأتيه أصوات العالم الخارجيّ لا لكي تفسد قراءته، بل لتزيدها ارتباطا بالمكان وبالزّمان. ثمّ يحين وقت الغداء، ،فيتوقّف الفتى الذي هو مارسيل بروست عن القراءة ليشارك أفراد عائلته الأكل ملتقطا الصّغيرة والكبيرة في حركاتهم، وسكناتهم، وتعليقاتهم. حالما ينتهي الغداء، يصعد بروست عبر المدرج الصغير إلى غرفته التي تحتوي على "أشياء غير صالحة، وغير مفيدة". مع ذلك هو يجدها"جميلة" فيها يحلو العيش، والـتّأمّل، والإستسلام للأحلام .من نافذتها يشاهد الزّهور التي تغطيّ الجدران القديمة التي تملأها ب"حياة صامتة ومتعددّة"، وب"غرابة يجد فيها نفسه ضائعا ومفتونا في نفس الوقت". كما تجعل تلك الزهور الغرفة شبيهة ب"كنيسة خاصّة". آخر الظهيرة، يتوقّف بروست عن القراءة ليعيش وقتا سعيدا في أحضان الطبيعة الفاتنة مستعذبا الصّمت العميق، والوحدة التي تتيح له أن يعيش الواقع كحلم بديع. وتخصصّ السّاعات التي تعقب العشاء للقراءة أيضا. وخشية عقاب العائلة التي قد تتهمه بالإفراط في قراءة قد تسببّ له أرقا دائما، هو يستعين بشمعة . إلاّ أن الكتاب الذي يستغرق في قراءته لا يصرفه عن الإستمتاع بجمال اللّيل السّاكن، وبسحر النجوم التي تتلامع في سماء داكنة اللّون .
وبعد أن يستعرض ذكرياته مع الكتب في زمن الطفولة، يخصّص بروست بعض الفقرات في نصّه المذكور للحديث عن آراء معلّمه راسكين في القراءة ،والتي طرحها في كتابه "سمسم وزنابق" الصّادر عام 1864. ويشير بروست إلى أن تلك الآراء تبدو متوافقة مع رأي ديكارت الذي سبق له أن قال:”إنّ قراءة كلّ الكتب الجيّدة هي بمثابة حوار مع النّاس الأكثر نزاهة في القرون المنصرمة، والذين كانوا مؤلفيها". ويضيف بروست قائلا بإنّ راسكين كان يرى أن القراءة هي في معناها الحقيقيّ حوار مع أناس أكثر حكمة، وأعلى أهمّيّة من أولئك الذين تتاح لنا فرصة التعرّف عليهم، والتحدّث إليهم .ومن جديد يعود بروست إلى زمن الطفولة ليشير إلى أن الكتاب الذي كان يقرؤه في قاعة الأكل قرب المدفأة، وفي غرفة نومه، وفي ساعات الظّهيرة البديعة التي تأتي فيها أنفاس الحقول من بعيد محمّلة بروائح النّفل والإيدوصارون، لم يكن غير كتاب"”القبطان فراكاس" لتويفيل غوتيه. وثمّة جملة في ذلك الكتاب كانت تسكره، وتبعث في نفسه الإنشراح والسّعادة ،وفيها يقول غوتييه:”الضّحك بطبيعته ليس فظّا أبدا. وهو يميّز الإنسان عن الحيوان. وهو على هذا النّحو يتّضح في "أوديسه" هوميروس ، شاعر غريغوري، به يتميّز الآلهة الخالدون والسّعداء الذين يضحكون أولمبيّا منتشين كلّيّا خلال ساعات استراحة الأبديّة". ويذكر بروست تفاصيل الأماكن والأوقات التي فيها قرأ الكتّاب، والشّعراء المفضّلين لديه من أمثال شكسبير، وسوفوقليس، وأريبيدوس وسيلفيو بلّيكو الذي قرأه في شهر مارس البارد، وهو يمشي ضاربا الأرض بقدميه عبر الطرقات، بينما الرّيح النّقيّة، النّافعة للصحّة، تعصف في شوارع القرية. ويسخر بروست بشكل لاذع وقاس من أولئك الذين يلجؤون إلى الكتب بهدف الهروب من الواقع، ومن العالم الذي فيه يعيشون. وهو يعتقد أن هؤلاء عاجزون عن الإتيان بعمل مفيد، وعن إثراء أيّة تجربة من تجارب حياتهم، أو حياة غيرهم. وهم بالأحرى مرضى وكسلاء، بلا قدرة لهم على الولوج إلى المناطق ألأشدّ عمقا في الفكر، وفي الحياة. لذلك هم لا يستطيعون استكشاف الكنوز الحقيقيّة، واستغلالها لصالحهم. وهم يعيشون على السطح في نسيان دائم لأنفسهم. وفي وحدتهم، لا يتمكّن فكرهم الخامل البليد من أن يكتسب الحيويّة اللاّزمة للخلق والإبداع. كما يشير بروست إلى أن القراءة لها تأثير مباشر على عمل المبدع. فالكاتب الأمريكي أمرسون مثلا كان نادرا ما يشرع في الكتابة قبل أن يقرأ صفحات من مؤلّفات أفلاطون. ولم يكن دانتي الشّاعر الوحيد الذي قاده فرجيل إلى عتبة"المطهر". وبحسب بروست لا تكون القراءة مفيدة وناجعة إلاّ عندما تكون دافعة لنا لاكتساب المفاتيح السحريّة التي تسمح لنا بفتح الأبواب التي لم يتيسّر لنا فتحها قبل ذلك. وليست تلك الأبواب غير أبواب "الحياة الرّوحيّة". .وتصبح القراءة عملا مضرّا عندما لا تقودنا إلى خفايا الحياة الروحيّة ، بل تسعى إلى تعويضها، وإلى أن تحلّ محلّها. والقراءة عند بروست "صداقة". وهي صداقة نزيهة لأنها تربطنا بشخص ميّت، أو غائب. وهي صداقة لا يشوبها أيّ شيئ من بشاعة الآخرين. والكتب هي بمثابة الأصدقاء الذين نقضي معهم أوقاتنا السعيدة من دون أن نتقيّد بمراسيم الحياة الإجتماعيّة، وما يطبعها من تكلّف، ومن سلوكيّات عادة ما تكون مزيّفة وكاذبة. ويختم بروست نصّه البديع بالفقرة التالية:”ويمكن أن تكون "أيّام القراءة" شبيهة بأيّام التّيه في فينيسيا، على ساحة "البيازيتّا" مثلا، عندما يكون أمامنا في لونها نصف الواقعي لأشياء بعيدة عنّا بضع خطوات، وعنها تفصلنا قرون عدّة، العمودان من الغرانيت الرّماديّ والورديّ واللذان يحملان على تاج عموديهما، واحد أسد القديس مرقص، والآخر القديس تيودور، وهو يدْعس التّمساح. هاتان الجنبيّتان الجميلتان الرشيقتان اللّتان قدمتا من الشرق عبر البحر الذي تتكسّر أمواجه عند أقدامهما، ومن دون أن ندرك معنى ما تتبادلانه من حديث، هما تواصلان إبطاء أيّامهما، أيّام القرن الثاني عشر عند جموع اليوم، على تلك الساحة العامّة حيث لا تزال تلمع بشرود وبالقرب منّا، ابتسامتهما البعيدة"....