&

تكتب الشاعرة راشيل الشدياق في فضاء ذاتي شفيف، تكتب رؤاها وتخيلاتها، حين تلوذ بالكلمة. الكلمة بوصفها مخلصا جماليا تطل عبره على فضاء الروح.&
منذ البدء، من مستهل النص الأول :" احتراق" تعلن الشاعرة راشيل شدياق في ديوانها:" يوم راقصني المطر" ، حالة العصيان الشعري، والتمرد على المألوف، تقول الشاعرة:
" أعلنُ على اللغة عصياني" عصيانها بالتأكيد على قيود الدلالة لا قيود القواعد، أو قيود النظام اللغوي، على ما هو معهود أو مسالم، أو مألوف. هو تمرد هناك في فضاء الكتابة، لكنه عصيان مشروط بألا ترسم هذه اللغة حلما:&
&
متمردة أنا
أريدُ تفجيرها
نسفَ قواعدها
بسطَها على سهلِ مدّ&
لا يخفيكَ
لا يرسمكَ حلمًا
خلف سرابٍ يخبو.&
إذن التمرد هنا على سلطة اللغة، لاعلى قواعدها بالضرورة. التمرد والعصيان على اللغة، التي تضيق بما تريد أن تفيض به مخيلة الشاعرة. تحضر اللغة هنا كواجهة سلطوية، في مقابلها الشاعرة المتمردة، ويحضر الطرف الآخر المخاطب في المشهد، ليشارك في أفق العصيان والتمرد، لكنه &يحضر كطرف محفز، فالتمرد هنا تمرد من أجل أن يظهر هو، أن يتجلى أكثر بحلمه أو بسرابه، واللغة الجديدة هي التي ستفعل ذلك، هي التي ستقاوم جمود اللغة القديمة.&
وعلى قدر هذا العصيان، وذياك التمرد، تصنع الذات الشاعرة رؤيتها وإرادتها:&
أريدُ أن أغني
أن أرقص
حافية
عارية
شفافة
دافئة بحمرة خجل
تصرخُ&
في مواسم صمت
تبسمُ لقبلة مطر / ص 13&
&
وبعد فعل التمرد يتولد فعل الحب الذي يعيد الذات إلى جوهرها، " أريد أن أحبك ... بالمرأة فيّ، بالطفلة، بتعذر الهوية، بسهلك الممتنع، بامتناع سكوني هكذا ... بثورتي بكل عصياني ، بفرحي " / ص 14&
وتكرر الشاعرة هذا التمرد في نصوص أخرى، سواء تمرد على الواقع أم تمرد على آخر لم يتحل بقيم الحب الرائعة، أو تمرد على الزمان نفسه، وهنا تخاطب الشاعرة نفسها في نص:" تجرّأي" ( كوني ريحا، كوني عاصفة " .
&
سطوع دلالي:&
&
تُحْدِقُ الشاعرة راشيل الشدياق بمستويات دلالية متعددة في نصوصها، فهي لا تتوقف عند رصد الهموم الذاتية، أو مراودة ما تكنه من رؤى ومواقف، ولكنها تسطعُ دلاليا في مكامن متعددة إلى جانب ما تكنه الذات، تتبدى هذه المكامن في قراءة وعي الطبيعة – إذا صح التعبير – أو في متابعة ملامح الأمكنة وتفاصيلها، وفي البحث الدائم عن قيم ومعان لها تجليها الإنساني الفطري، لكنها مفقودة وضائعة في واقع لا يحبذ هذه القيم ويعمل على إخفائها أو التعفية عليها.&
في شعر راشيل الشدياق نحن حيال تقميش رؤيوي يماهي بين حنين الذات لأمثلتها وما تفيض به مخيلة نموذجية تصبو لابتكار أحلامها ومرئياتها. الشاعرة ربما تجد في دالة " المطر" نوعًا من رمزية الخصب، وإعادة الحياة لجسد الواقع المتخثر.&
سيكون علينا ونحن نقرأ الشاعرة أن نتوقف عند هذه المستويات الدلالية التي تكنها نصوصها، وأن نستشرف مآلاتها التعبيرية سواء على مستوى التعبير بالصورة أم بالتعبير بالمعنى. وإذا تأملنا في سياقات الإضاءات النصية التي تحمل قدرًا من البؤر الدلالية الجوهرية للنصوص لدى الشاعرة : حيث التعامل الشعري المشرق مع دلالات الطبيعة، والإشارات الكثيفة للمطر، للبحر، للشجر، إلى بسمة الزيتون البهي، وخضم الأمواج، كأن الشاعرة ترصد على حد تعبيرها:" محاسن الكون العسلية" كما في نص:" طائفة حبك" ، أو نصوص:" راقصني يا مطر" و" طلاسم الفجر" التي تتشح كذلك ببعد فلسفي متسائل، وهو رصد يليق بهذا الأفق الرومانتيكي الذي تحرك فيه الشاعرة أكثر نصوصها، خاصة مع الاحتفاء بقيم الحب وحالاته الوجدانية المتعددة.&
في ظلال هذه الإضاءات نحن حيال ذات متمردة على النسق الذي يجليه الواقع أو حتى يضمره الغياب، وهذا التمرد ليس سلبيا بالضرورة بل هو تمرد إيجابي فيما يبدو ، حتى إننا نجد أثره على صياغة خطاب الحب في النصوص، فنجد الأنثى تتوجه للعاشق بغزل أنثوي، وهذه ظاهرة تتجلى في السياق العام لقصيدة المرأة الراهنة، بعد أن أصبحت تعبر شعريا وسرديا بطلاقة من دون وصاية:
على مسامي انهمارُ يكتنز صبابة
وما بين النهدين انبلاج ثورة نشوى
رحم ينبض بالعشق جنينا
...
تعال عانقني ففيك أنسى بلاغتي
دعني أغرف من الشفتين رقة الملائكة. / ص 128&
&
ملامسة الذكريات:
الحنين إلى الأم والأب يشكل مجالا تعبيريا لنص:" أحنّ إليكم " ( 16-20) هذا الحنين، يحول وجهة الدلالة التعبيرية إلى أفق الماضي، والماضي بدوره يحيل إلى الذكرى، وهو ما يجعل المخيلة الشعرية ماضية هناك إلى فعل استرجاعي، ومن هنا فإن مختلف التفاصيل تكون حاضرة في تخييلها، ملموسة بذكرياتها وتفاصيلها، وما على الشاعرة إلا أن تنظم منها ما يزكو به النص وما تتحرك به الدلالة، لذا فإن حاجيات البيت وأشياءه حضر منها بعض الجوانب، صورة الأم والأب، الحنين إلى القهوة الصباحية، إلى النسمات الضاحكة، كلمات الرضى، السنوات الغائبة، اللفتة والهمسة، وهكذا حتى تعود تارة أخرى إلى شواطئ النسيان، لتنصهر الأشياء في موقد الذاكرة ثم تعود لتولد من جديد.&
في نصوص: " ارحل، اسأل، اعترف " &يعلو صوت الأنا بشكل صاخب، كأن الصوت يتجاوز مسألة التعريف إلى الحضور المؤثر، الأنا مشمولة بهويتها وبرؤيتها للعالم في تعبيرات كثيفة متعددة يتكرر فيها ضمير المتكلم:" أنا" ليشير إلى هذه الذات المتمردة الطليقة.
ثمة أفق رومانتيكي للصورة لدى الشاعرة :" خمائل توشحت الهدوء بقلة رخامية الصدى/ كوثر اللحظات يناجي فجرا جئتكَ بها صمت سماء/ ما عدتُ أخشى كؤوس الألم/ أرسو على قبلة كإعصار الفصول/ كأني فتات نجمة على قبة سماء ".
وأحيانا تتجاوز الشاعرة هذا الأفق الرومانتيكي إلى آفاق سوريالية تومئ أكثر إلى عالم التأمل والسؤال والحلم، أو إلى صراع الوعي الكامل:" الوعي+ اللاوعي) أو إلى استحضار لحظات رائية، فيما يكمن ما هو واقعي خلف التعبيرات المباشرة الصارخة .&
كما نجد في عبارات شعرية مثل:" في مسامي بعض من غبار أبيض/ مد أبيض فيضه عبق ومرور نبي/ أحوك شغوفا شفافية جسد/ سرمدية بخور على مذابح الكون/ على صفحة حطّ جوعي / النُّعنع متدين بوحشية حقل/ لا تفتح الأدراج فالريح فيها ساكنة &".
مع ذلك ثمة ما يمكن الإشارة إليه في ديوان :" يوم راقصني المطر" وهو أن الشاعرة ربما تحتاج إلى انتهاك بعض الأساليب الشعرية الأولية التي تجعل من شكل الدلالة حالة متمكنة، بمعنى أن بعض الموضوعات لا تكون منتهية ومقررة وجاهزة، وما ينقلها من أفق المقرر والجاهز هو البحث عن الأسئلة لا تقديم إجابات شعرية، والارتكاز أكثر على ما هو غير يقيني بربما أو قد أو عسى أو لعل، وهي أدوات أسلوبية تترك أثرًا دلاليا ما في النص وتجعل هاجس التأويل فعالا عند القراءة. فالنصوص : "ارحل، اسأل، اغدق " – تمثيلا – هي نصوص أكثر صخبا وتقريرا للحالة حتى لو جاءت على شكل إرادة أو احتياج وحضور للأنا، لأن القارئ ربما يبحث عن شغف آخر، وعن تأويلات يريد أن يكون مشاركا في صنعها.&
كذلك مسألة التقفية في قصيدة النثر لا تكون مريحة في نصوص غير متشحة بالأفق العروضي، مثل :" أنفاس، انهمار، برد، تجرأي، حزن، غربة النايات &" – تمثيلا - &وهي في النثر يتبدل اسمها إلى :" السجع" وهو ما أشرت إليه في مقامات أخرى. ربما لا تثريب على الشاعرة أن توشح عباراتها بسجعات ما، قد تفرضها ضرورة التعبير لكن الأمر يتعلق بأداء نثري يكسر النمط، ويكسر التواتر الإيقاعي المعهود في النصوص البيتية أو التفعيلية وهو ما يعزز من أهمية الابتعاد عن التقفية أو حتى عن السجع في قصيدة النثر في رأيي.&
في نص :" أنا يا أبي" تحضر أجواء طفولية، عبر عبارة:" أنا يا أبي لم أكبر " (46-48) وهو ما يعزز حضور الذكرى، وجاهزية التخييل، كما في النصوص التي أشرت إليها سابقا، والنص يحتفي بالبسيط والمخايل الجميل:&
أنا يا أبي لم أكبر
في بالي بعد
طفلة على أرجوحة
فستانها أحمر
وجدائل غادة
لها في أسفارها
ألف حكاية&
ضاعت / ص 46&
وتشكل دالة:" المطر" أفقا للتعبير الشعري فهي تحضر بشكل جلي في نصوص متعددة بالديوان، وهي الدالة التي يحتضنها عنوان الديوان، بإشارة رقص، فالمطر يشكل لدى الشاعرة حالة رقص، لا مجرد حالة برقية غمامية، أو حالة سيولة، وهو ما تؤكده في نصها:" راقصني يا مطر " ( ص.ص 99-100) وفي مقابل دالة المطر ، يوجد كذلك احتفاء بدالة:" العطر" التي تتكرر بشكل أو بآخر في نصوص كثيرة بالديوان حاملة ضوع الذات قبل أن تحمل ضوع أزهارها، حتى إن الذات الشاعرة في النص تحار في أحد المشاهد في اختيار العطر الذي تلتقي به عاشقها:&
الليلة
احترتُ أي العطور لك أنتقي
فحنيني للورد فضاح
وأُنسكَ بالياسمين مرئيّ
وفي زهر الليمون أنفاس شمالي
والكاردينيا فيها ضمة أمي
وفي الفل بسمة غابت لجدة
حتى الصعتر الأخضر فيه طفلة
ذكرى حملتُها من هوة / ص.ص 111-112&
نص " تعب" من النصوص التي تعبر عن ضجر الذات، وعن تأثرها بفقدان القيميّ في الواقع، :" أتعب، أتعب من كل شيء، منك، مني" هو تعب ضجر أكثر منه تعب كدّ، وهو ما تبينه تعبيرات النص وأجواؤه:" أتعب... من الغيم، من تصادمه، من برق ورعد، من هطول المطر، من سيول ستجري، من انتكاساتي، من صراخ الأودية، من تكسر النايات" / ص 65 ، كذلك في نصوص يتألق فيها أداء الشاعرة مثل:" حكاية أمل، ديوان، راقصني يا مطر، طلاسم الفجر" عبث عطر" والشاعرة تعبر دائما عن غبطتها بالكتابة التي ترى أنها تغير وتبدل وتنتهك المألوف، وفعل الكتابة من السياقات الأثيرة لديها التي تشير إليها بين تارة وأخرى في جملة من النصوص، الكتابة حياة، والكتابة جوهر للرؤية:&
أكتبُ
للحظة الجاثمة في حلقي
لطريق ما عادتْ تعرفني
أكتب
للريح في انعكاسات المرايا
للشجن لانعتاق المبيت
لكل ظل توشح بالملل/ ص 77&
وعلى الرغم مما يبدو من رثاء عروضي في نص:" حداد البحور" (73-74) &لكن يبدو أن الشاعرة لم ترثِ البحور لكنها تورطت بشكل غير مباشر ربما في الغناء للبحور بشكل ضمني، حيث وردت بعض العبارات الموزونة، في النص ، كالرجز في:" أترك للريح صراخ بيتي" والمتقارب:" يخب طويلا على رمل بحر" ..بيد أن هذه مسألة وردت بالمصادفة في نص يرثي البحور العروضية.&
وتحمل الشاعرة في نصوصهاهذا الوعي المنشطر المتضام إلى وجهات الحب، ورصد الطبيعة، والاحتفاء بالأمكنة، بالمطر والعطر، بالذكرى، بالشوارع، ثم تعود لأناها ترسم لنفسها حالة وجدانية ذاتية تتوحد فيها مع آخر:" حين غيابك، ألبس الأنا علني أستردك، أخلعها فألبسك" . هكذا نحن حيال رؤية شعرية يمتزج فيها الوجداني بالرومانتيكي بالواقعي، وتجيش فيها الذكرى لتلامس الماضي بطفولته وبراءته، كما تجيش فيها المخيلة لتقول أبعد، مما نلمس ومما نبصر ونتأمل ونُخايلُ لحظاتنا المكتنزة بتفاصيل وحكايات وعبر.&
&