&
لكلّ عصر شياطينه. والمتطرّفون الإسلاميّون هم شياطين زمننا، فكرا وممارسة. وفي روايته الشّهيرة " الشياطين"، تمكّن دستويفسكي من أن ينفذ إلى نزعة المتطرفين الجنونيّة الى العنف والجريمة، والتدمير والتّخريب، كاشفا ببراعته المعهودة عن أفكارهم السّوداء، وعن رغباتهم الحادّة في تقبيح العالم، وتشويه صورة الإنسان. وليس هذا بالأمر الغريب على كاتب امتحن الحياة، وامتحنته الحياة. فصاحب "الجريمة والعقاب" هو روائيّ الأفكار بامتياز، بحيث يجوز لنا القول إن الذين يماثلونه من الكتاب نادرون. ويتّفق جلّ النقّاد على أن جلّ رواياته تعكس بشكل واضح وجليّ مختلف الأفكار المذهبيّة والفلسفيّة التي كانت رائجة آنذاك في أوساط الأنتلجنسيا الروسيّة.أمّا شخصيّاته فتبدو كما لو أنها مسكونة بالأفكار التي تؤمن بها، وبالتالي هي في حرب دائمة من أجل الدفاع عنها بمختلف الطرق والوسائل. وإذا ما كان الصّراع الإجتماعي هو المحور المركزيّ في أعمال بالزاك الروائيّة، فإنّ تجّذر الأفكار في كيان الإنسان هو الهدف الأساسي لدستويفسكي الذي كان يحلو له أن يردّد دائما بأن ما يبحث عنه في الإنسان هو الإنسان نفسه، نعني بذلك أفكاره. ومثلما قال باختين، فإن دستويسفسكي يترك الأفكار تعيش وتتعمّق حتى تبلغ نتائجها القصوى. وكان دستويفسكي قد انتسب في سنوات شبابه إلى المنظّمات الثوريّة الإشتراكيّة المناهضة للحكم القيصري. وبسبب ذلك حكم عليه بالإعدام غير أن الحظّ أسعفه في اللّحظة الأخيرة فكان من ضمن الذين شملهم العفو القيصري وهو معصوب العينين في إنتظار الرّصاصة القاتلة. وبعد أن أمضى سنوات طويلة في أحد معسكرات سيبيريا الخاصّة بعتاة المجرمين والتي دوّن وقائعها في رائعته "ذكريات بيت الموتى"، تنكّر دستويفسكي لإفكار سنوات الشباب الأولى ليصبح من ألدّ أعداء التّيّارات الثوريّة والإلحاديّة بجميع أطيافها، ومن أشدّ المدافعين عن الأفكار المحافظة في مجال السياسة والأخلاق. وقد وجد في أفكار وممارسات الثوريين والفوضويين الروس ضالّته المنشودة. وفي نهايات عام 1869،كتب يقول:”أحيانا علينا أن نمسك بالكرباج لا لكي ندافع عن أنفسنا، بل لكي نكون أوّل من يشنّ الهجوم".و ستكون روايته "الشياطين " التي شرع في كتابتها مطلع عام 1870 هذا "الكرباج" الذي سيجلد به أعداءه الفوضويين والعدميين، خصوصا أوائك الذين ينتمون إلى منظّمة "عدل الشعب" الإرهابيّة التي كانت تشرّع الإغتيالات، بل أنها كانت ترى فيها الوسيلة الوحيدة للقضاء على النظام القيصري.وكان باكونين، وهو أحد أقطاب هذه المنظّمة يردّد في منشوراته الدعائية نفس التهديدات التي يرددها اليوم المتطرفون الإسلاميون تجاه أمريكا قائلا:”علينا أن نركّز جهودنا دائما ودونما هوادة أو تراخ على ضرورة القيام بتدمير شامل وكامل للبنى الإجتماعيّة القديمة حتى لا يتبقّى منها أيّ شيء يستحقّ الذّكر.والسمّ والخنجر والحبل وغير ذلك من الأسلحة صالحة جميعها لهذه الحرب". وكان اغتيال الثوري ناتشييف من قبل أنصار منظمة "عدل الشعب" هو الذي أوحى لدستويفسكي بكتابة روايته المذكورة التي أراد أن يرصد من خلالها المعركة العنيفة القائمة بين "الإنسان الروسي الجديد" القادر بحسب رأيه على المحافظة على التراث الروحي لبلاده، والقادر في نفس الوقت على أن يقدّم للغرب ما يمكن أن يقيه السقوط في الهاوية، وبين القوى الظلاميّة المتمثّلة في المنظّمات الثوريّة والإرهابية المتطرفة. أبطال رواية "ا الشياطين" يعيشون من البداية إلى النهاية صراعا عنيفا ضدّ القوى التي يخطّطون، ويعملون على الإطاحة بها بهف إقامة "النظام الإشتراكي العادل" الذي يطمحون اليه. وفي نهاية المطاف يفضي بهم هذا الصراع الدموي الى العدم فيتقاتلون، ويسقطون الواحد بعد الآخر وسط بركة من الدم. ومعبّرا عن هذه النهاية البشعة والمخيفة ،يقول شيجاليف ،وهو أحد هؤلاء "الشياطين" :” لقد كان هدفنا الحرية المطلقة غير أن صراعنا من أجل ذلك أفضى بنا في النهاية إلى الإستبداد المطلق". وثمة دلائل كثيرة تشير إلى أن هناك نقاط تشابه بين شخصيّات دستويفسكي في روايته المذكورة، وبين المتطرفين الإسلاميين في زمننا. فهم مثلهم يزعمون أن أهدافهم نبيلة، وأن طموحاتهم إنسانية تتمثّل في نشر العدل والإحسان خصوصا في العالم الإسلامي، ورفع المظالم المسلّطة على المسلمين في جميع أنحاء الأرض، إلاّ أن ما قاموا ويقومون به الى حدّ هذه الساعة، اقتصر على الإرهاب والقتل والتدمير الشيء الذي ادّى الى تشويه صورة الإسلام والمسلمين. وقد تكون نهاية هؤلاء المتطرفين المتسترين بالدين كذبا وبهتانا شبيهة بنهاية شخصيّات دستويفسكي، أي أنهم سيحترقون بنفس النّار التي أرادوا أن يحرقوا بها أعداءهم وخصومهم. وثمّة تشابه كبير بين زعماء التطرف الإسلامي، وبين سترافوجين، الشخصيّة الرئيسيّة في رواية "ا لشياطين". فهم مثله يمتلكون القدرة على سحر الآخرين بشخصيّاتهم القوية والجذّابة بحيث يسهل عليهم في ما بعد استعمالهم لتنفيذ أغراضهم الشيطانيّة. وهم مثله أيضا "كائنات حيّة-ميّتة" بوجوه خالية من التعبير، وبنظرات باردة. وتلك الجاذبيّة التي يتميّزون بها في الظّاهر ليست سوى قناع لإخفاء طبيعة شرّيرة ومنفّرة، وحجب فراغ داخليّ مفزع يدفع بصاحبه بسرعة إلى هاوية العدم حيث يدمّر نفسه بنفسه. إنهم شخصيّات سلبيّة، تخيف، وتسحر في نفس الوقت. شخصيّات طاغوتيّة افتكّت لها موقعا يالقوة في أرض الأحياء. وفي أيّ مكان تمرّ به، هي لا تفعل شيئا آخر غير نشر الموت والجنون والحقد والفوضى تماما مثلما هو الحال بالنسبة لستافروجين. ولا تختلف أفعال المتطرفين الإسلاميين عن أفعال شياطين دستويفسكي. فهم يشبهون زعمائهم الذين يطيعونهم طاعة عمياء، ولا يردّون لهم طلبا. جميعهم مسكونون برغبات جنونية، وبأفكار تحّرض على القتل والتخريب. وفي حين يجاهر شياطين دستويفسكي بإلحادهم، يتمسك المتطرفون الإسلاميون بالتشدد في إيمانهم إلى درجة العماء المطلق عن كل الحقائق الأخرى. إلاّ أنّ الجامع بين هؤلاء وأولئك هو التطرف الأعمى الذي يفضي الى مهاوي العدم السحيقة!