في سنتي الأولى بالجامعة، تعلقت بطالبة صهباء من مدينة المنستير، وأحببتها حبّا جنونيّا من دون أن أقترب منها، أو أتحدث إليها. يروق لي أن أجلس في الكافيتيريا لأراقبها من بعيد وهي تضحك مع رفيقاتها الجميلات الأنيقات مثلها. ويعتصر قلبي الحزن عندما أراها تمشي مع طالب آخر في أروقة الجامعة، أو تقف إلى جانبه في الصف لمشاهدة فيلم تعرضه إحدى قاعات”باب البحر”. ورغم أنني كنت منشغلا بها دائما، ولا أفكر إلاّ فيها، فإنني لم أجرؤ على أتحدث عنها حتى إلى أقرب الأصدقاء إلى قلبي. وكم كتبت لها من قصائد بالفرنسية مقلدا الشعراء الرومانسيين! فأنا مثلهم شاحب الوجه، زائغ النظرات، أعيش الحب كألم، وكعذاب في النهاركما في الليل. وأنا مثلهم أتمنى أن أموت في ربيع العمر شهيد حبي لها...
وكنت أحترق بهذا الحب لمّا وقعت بين يدي رواية:”عشيق الليدي شاترلي" لدافيد هربرت لاورنس الذي كان اسمه قد مرّ أمامي أكثر من مرة، إلاّ أنني لم أقرأ له سطرا واحدا.
شهر ديمسبر، والعام أوشك على نهايته. أمطار وبرد شديد وشوراع قذرة والعاصمة كئيبة مثل عجوز يرهقها الشتاء. في فراشي الدافئ في المبيت الجامعي، غرقت في قراءة"عشيق الليدي شاترلي". بعد أن أنهيت قراءة الفصلين الأولين، وجدتّ نفسي عاجزا عن التوقف...لا يهمّ إذن أن أتغيب عن المحاضرات. فهي ثقيلة، لا تساوي شيئا أمام روعة الوصف، وجمال اللغة، وشهوات إمرأة من لهب، لم تعد تطيق زوجا مشلولا، جامد الحركة ، يمضي وقته في الإستماع إلى الراديو، وفي الثرثرة الرومانسية المملة، القاتلة للقلب والروح. في الليل، لا رغبة لي في النوم.. الليدي شاترلي وحيدة تفكر في عجز زوجها والرجال الآخرين عن كشف جمال جسدها. لذا هم يقذفون بسرعة من دون أن يشبعوا رغباتها. مع ذلك، هي على يقين من أنها جميلة ومثيرة. وهي تعتقد أن أجمل أجزاء جسدها هو "المسْقط الطويل للوركين، إنطلاقا من مطلع الظهر، والإستدارة الوديعة الكسولة للردفين. مثل كثبان الرمل، يقول العرب، ناعمة وتنزل في منحدر طويل". إلاّ أن الجزء الأمامي من جسدها، يُفْزعها. فالثديان يذبلان ويرتخيان، وكأنهما دليل متقدم على موت الجسد. يزداد رعبها، فتندسّ في قميص النوم، وتنخرط في البكاء أسفا على جمالها الذي بدأ يذوي، وعلى حياتها التي يشوبها الخمول والركود والرتابة . عندما يعاين زوجها الإرستقراطي أن زوجته لم تعد تعتني به كما هو الحال في السابق، يحتدّ غضبه.فقد "قتلت الزهرة الجميلة للحميمية التي تجمع بينهما". والآن تبدو له تلك الزهرة شبيهة ب"سَحْلبيّة، وببَصَلة عاقر مربوطة إلى شجرة حياته. زهرة بائسة"...
في كل يوم، تفر الليدي شاترلي من أجواء القصر الخانقة. تغوص في الغابة، راغبة في الإلتحام بالطبيعة بحثا عن الجمال والحيوية. أشعّة الشمس تضيء أغصان الأشجار. الغابة ساكنة، وتبدو شاحبة، فتتذكر الليدي شاترلي عندئذ أبياتا من قصيدة للشاعر سوينبورن فيها يقول:”أنت منتصر يا أيّها الغاليليّ(متعلق بغاليلي الفيزيائي والفلكي-المنهل)الشاحب. العالم أصبح رماديّا تحت نَفَسك .لقد شربنا المياه المهدّئة وتغذينا من كمال الموت". ثم تهبّ الرياح قوية عاتية، فتهزّ الأغصان. مع ذلك، تظل الأشجار صامدة. هي أيضا عليها أن تصمد أمام عواصف الزمن التي تهدد جمالها، وحياتها...ثم تهدأ الرياح، فتجلس الليدي شاترلي على جذع شجرة تنّوب فتيّة " تخفق بحياة غريبة، لدنة، قوية، وصاعدة. قمتهامنتصبة حيّة في الشمس!”. تنظر الليدي شاترلي إلى النرجس الأسليّ وقد اتخذ لونا مذهّبا في ألق الشمس التي كانت تدفئ ركبتيها ويديها. عندئذ، هادئة، متوحدة بنفسها، أحسّت أنها "تلج تيّار مصيرها"، وأنها "رُبطت بحبل، يرجّها ويهزّها مثل مركب في عقباته. والآن هي تبحر حرة". في الظهيرة، تعود الليدي شاترلي للقيام بجولة أخرى في الغابة. عائدة إلى القصر، تجد نفسها أمام كوخ سري مشيد من أعمدة خشنة، فتدرك أنه المكان الهادئ الي تتم فيها تربية الدجاج وطيور التدرج. وكان الحارس مُنْهمكا في قطع جذوع الأشجار بفأسه. حين إنتبه إلى وجودها، حيّاها تحية عسكرية، متأملا إيّاها في صمت. وتقدمت هي منه مترنحة إذ بدا لها وكأنه جزء من تلك الغابة التي تحب التجول فيها، وفيها تشعر بالحرية، وبحيوية جسدها. وها هي تنظر بإعجاب إلى رأسه المنحني قليلا، وإلى يدبه السريعتين الهادئتين. وكل شيء يدل على أنه اكتسب تجربة في الحياة تفوق تجربتها هي التي تنتمي إلى الطبقة االمتحكّمة في مصير البلاد...
استبد الضجر مرة أخرى بالليدي شاترلي إثر جولة مع زوجها المقعد، فعادت إلى الكوخ رغم المطر. إلاّ أنها لم تعثر على الحارس. جلست على خشبة العتبة وراحت تنظر إلى المطر وهو ينهمر بغزارة، مُنْصتة إلى الأصوات التي تحدثها قطراته المتتابعة عند ارتطامها بالأرض، وبجذوع الأشجار. بين الحين والحين، تطلق الريح زفراتها. وثمة أشجار بلّوط بجذوع رمادية قوية، سوّدتها الأمطار، مستديرة، ومفعمة بالحياة، تطلق في جميع النواحي أغصانها الجسورة. وهناك دغلان، وكتلة من الثلج، وأجمة من العوسج ضارب لونها إلى البنفسجي. وتبتهج الليدي شاترلي لأن ذلك المكان لم يتم "إغتصابه" بعد مثلما حدث للعديد من الأماكن في العالم. لكن..آه..."يمكن أن يغتصب أحد ما من دون أن يُلمس. يُغْتَصَبُ بكلمات ميّتة أصبحت بشعة وبأفكار باتت لجوجة". يأتي الحارس، فتتحدث إليه قليلا ثم تعود إلى القصر مضطربة ومتوترة وعاجزة عن إدراك أفكارها ومشاعرها...تتكرّر زيارات الليدي شاترلي للكوخ، فتلتهب رغبة الحارس في احتضانها، وتقبيلها... ذات مرة أجهشت بالبكاء وهي تنظر إليه يعيد فرخ دجاج إلى القفص. بكت بكل حرقة من فقدت شبابها وجمالها لتبدأ رحلتها نحو العدم. بكت وكأنها فرخ الدجاج الذي يحتاج إلى العطف والعناية. عندئذ، اقترب منها الحارس، وداعب ركبتها بحنو:
-لا تبكي، قال لها بهدوء...
أخفت رأسها في يديها وقد تحطم قلبها، وباتت غير عابئة بأيّ شيء...
وضع الحارس يده على كتفها. بلطف. بحركات خفيفة، ر اح يداعب ظهرها، نازلا باتجاه كفلها. ثم أدخلها إلى الكوخ ليشعل في كيانها نارا كانت تظن أنها انطفأت إلى الأبد....وها هي تشعر أن جسدها يشبه غابة تطلق تأوّهات غامضة وسعيدة لربيع بدأت براعمه في التفتح. وها الحارس هو الغابة بأشجارها، وبأزهارها البرية، وبكل ما فيها. وعضوه “مدقة لزهرة لامرئيّة، وبرعم من لحم"...
منذ لك الحين لم تعد الليدي شاترلي قادرة على لجم رغباتها في الذهاب إلى الكوخ الخشبي حيث تنتظرها حرائق حب عنيف. حبّ بدائي يوقظ غرائزها الجنسيّة التي كانت على وشك الإنتفاء. حبّ متوحش يحررها من طهراينة كاذبة ومفتعلة، ومن طبقة شاحبة، فقدت القدرة على تجديد حياتها فأضحت مقعدة مثل زوجها. حبّ يبعد عنها شبح موت قد يقصفها قبل الأوان. وفي لحظة النشوة القصوى، تشعرالليدي شاترلي"في دمها تقريبا بالإندفاع الهائل للنّسغ الذي يصّاعد من الأشجار الضخمة، إلى أعلى، دائما إلى أعلى إلى أن يبلغ منتهى البراعم لكي ينفجر في النهاية على شكل أوراق صغيرة لأشجار البلوط شبيهة بشعلات برونز. مثل مدّ يصعد وينتشر على السماء"...
عاش دي. هايتش. لاورنس المولود في مدينة إيستوود المنجميّة عام 1885 طفولة قاسية. فقد نشأ معتلّ الصحة. لذا كان يسقط مريضا بين وقت وآخر. وكان الجوّ العائلي خانقا. بين والده العنيف، المدمن على الكحول، ووالدته المعلمة المثقفة، المتعلقة بمبادئ أخلاقية صارمة، كانت الخلافات مستعرة دائما. عند بلوغه سنّ السادسة عشرة، اضطرّ إلى ترك الدراسة ليعمل في إحدى المطابع. بعد وفاة أخيه الأكبر بذات الرئة، أصيب هو أيضا بنفس المرض فرعته والدته لتنقذه من الموت. في الفترة التي عمل فيها معلما متربصا في ايستوود، ثم في إلكيستون، قرأ بعمق أعمال كل من بليك، وكاريل، وجورج إليوت، وديكنز. في الآن نفسه، شرع في كتابة قصائده الأولى. وبفضل منحة دراسيّة، انتسب دي. هايتش لاورنس إلى الجامعة، إلاّ أنه سرعان مما غادرها لينضم إلى حلقات تدافع عن الإشتراكية، وعن حرية المرأة. وفي الفترة التي عاد فيها إلى التدريس، تعمّق في قراءة أعمال نيتشه، ووالت ويتمن، وإبسن، وماتيرلنك، وأصدر في مجلة "انجلش ريفيو"مجموعة من قصائده. وتلك القصائد أتاحت له التعرف على كل من ويليم بتلر ييتس، وإزرا باوند، وآخرين. وسيكون لوفاة والدته عام 1910 تأثير كبيرعليه. لذا ستكون لها مكانة في روايته:”أبناء وعشاق" كما هو الحال بالنسبة لجيسي شامبرس التي ارتبط بها في سنوات شبابه، والتي عارضت والدته زواجه منها. وفي عام 1912، تعلق دي. هايتش.لاورنس بفريدا فون ريشتهوفن، زوجة أستاذه القديم إرنست ويكلي الألمانية، ومعها فرّ إلى ألمانيا ليقيما في بافاريا، وفي التيرول، وفي بحيرة"غارد". وبمساعدة فريدا، اهتم بدراسة أفكار كلّ من فرويد، وماكس فايبر. وفي عام 1915، ارتبط داي. هايتش.لاورنس بعلاقة مع بارتراند راسل، وألدوس هكسلي، وقرأ "الغصن الذهبي" لجيمس فرايزر. وقد اعتبرت أجهزة الرقابة كتابه:”قوس قزح" “فاحشا ومخلاّ بالحياء". لذا طالبت بمقاضاة ناشره. وفي عام 1919، سقط دي. هايتش.لاورنس مريضا بسبب نزلة صدرية حادة، فسافر برفقة فريدا إلى إيطاليا، حيث أقام في كلّ من فلورنسا، وجزيرة كابري، وجزيرة صقلية، وجزيرة سردينيا. وخلال أقامته في الولايات المتحدة بدعوة من ثريّة أمريكيّة مغرمة بالأساطير الهندية، درَسَ نطريّات يونغ، واهتم بالبوذية. وفي عام 1925، أصيب دي. هايتش لاورنس بالملاريا، وأعلمه الطبيب أن سنوات عمره باتت معدودة. لذا فضل ترك المكسيك حيث كان يقيم، وعاد إلى إيطاليا ليستقرّ قرب فلورنسا. عندئذ شرع في كتابة "عشيق الليدي شاترلي" التي ستكون عمله الأخير. على مدى عامين، كان على دي. هايتش.لاورنس أن يخوض معارك ضارية ضدّ أجهزة الرقابة التي منعت روايته المذكورة من الصدور. إلاّ أنه توفي في مدينة فانس الفرنسيّة عام 1930 من دون أن تتراجع أجهزة الرقابة في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكيّة عن قرارها. لذا لم تصدر الرواية في نسختها الأصلية إلاّ عام 1960!
حال إنتهائه من روايته، كتب دي.هايتش.لاورنس إلى دوروتي برات بتاريخ 8 مارس-آذار 1927 يقول:”لقد أنهيت روايتي.وأنا سعيد بذلك. لكن إذا ما كانت غير لائقة بحسب مقاييس كلّ هؤلاء التقليديين الأغبياء والبؤساء، بحيث يمنع نشرها، فإنني لن أقبل بحذف أي شيء منها".
في رسالة بعث بها إلى نانسي بيرن بتاريخ 12 أفريل-نيسان 1927، كتب دي.هايتش. لاورنس يقول:”أنا في حيْرة بسبب روايتي"عشيق الليدي شاترلي". وهي توصف ب"الوقحة والغير لائقة". لكن لتعلمي أنها ليست كذلك حقّا. فأنا أحفر دائما في نفس الموضوع: جعل العلاقة الجنسيّة أصيلة وأثيرة عوض أن تكون مُخْجلة. وأنا في هذه الروابة ذهبت إلى أبعد ما يمكن. بالنسبة لي هي جميلة، وناعمة وهشّة مثل الأنا في عريها". وفي رسالة إلى كورتيس براون بتاريخ 15 مارس- آذار 1928، كتب دي. هايتش. لاورنس يقول:”أنا أؤمن بالوعي القضيبيّ المعارض للوعي العقلي سريع الإنفعال الذي نعاني منه اليوم: وكاذب من يصف روايتي برواية قذرة عن الجنس. بل هي ليست رواية عن الجنس: إنها رواية قضيبيّة. فالجنس شيء يوجد في الدماغ، وردود فعله عقليّة، وتطوراته ذهنيّة. أما الواقع القضيبي فهو حميميّ وتلقائيّ و-لكنBasta (كلمة إيطاليّة تعني:يكفي!”.ورادّا على الذين سألوه عن سبب جعل كليفورد، زوج الليدي شاترلي مقعدا، أشار دي. هايتش. لاورنس بأن شلله رمزيّ. وهو شلل يختصّ به أغلب الرجال المنتسبين إلى طبقته.
ولم يكن دي. هايتش لاورنس يرغب في أن تكون روايته المذكورة "قضيبيّة" فقط، منتقدة للعلاقات الجنسية السائدة في بريطانيا خلال العصر الفيكتوري، بل أرادها أيضا صرخة احتجاج أمام مظاهر الإنحلال والقبح التي أصبحت تسم الحياة في بريطانيا. عن ذلك كتب يقول:”إنّ المأساة بريطانيا الحقيقيّة كما أنا أعتقد، هي مأساة القبح: إنّ بريطانيا كما صنعها الرجال بشعة. وأنا أعرف أن عامل المناجم المتوسط، كان له في فترة طفولتي، مفهوم للجمال خاص به، قادم من وعيه الغريزيّ والحدسيّ الذي يستيقظ في قاع البئر.وعندما لا يجد أمامه غير بشاعة باردة، ومادية فجّة حالما يواجه ضوء النهار، فإن هذا يقتل فيه شيئا ما، وبمعنى معيّن، يحطّ من قيمته كإنسان. والمرأة تشتكي دوما من التفاصيل المادية. وهذا ما يعلّمونه إيّاها. وهذا ما يشجعونها على فعله. ودورها هو أن تعمل على أن " يصل" أبناؤها. أما دور الرجل فهو توفير المال. في جيل والدي، بإنجلترا العجوز المتوحشة التي خلفهم، وبنقصان التعليم، لم يكن الإنسان مسحوقا. لكن في جيلي، كان الأطفال الذين كنت أذهب معهم إلى المدرسة، والذين هم الآن عمّال مناجم، مسحوقين إما بسبب ما كانوا يكررونه لهم في المدرسة، أو بسبب الكتب، والأفلام، ورجال الدين، وكلّ الوعي الوطني والإنساني الذي يؤكد بكلّ النبرات على الرخاء المادي". ويضيف دي. هايتش.لاورنس قائلا:”والآن لنبدأ من الصفر. خذوا الأماكن الواحد بعد الآخر. إصنعوا إنجلترا جديدة. تخلصوا من هذه الخسّة ومن هذه الحقارة. انظروا إلى حدود البلاد واستوحوا منها لكي تبنوا بما يكفي من النبل. ويمكن أن يكون البريطانيّون متقدمين ذهنيا وروحيّا. لكنهم كمواطنين لمدن رائعة هم أشدّ دناءة وحقارة من الأرانب. وهم يشتكون و يتذمّرون دائما وأبدا من السياسة، ومن الرواتب، ومن كل ما تبقّى مثل تجار حقيرين، قصيري النظر"...
حرّرتني رواية"عشيق الليدي شاترلي" من حبّ عقيم، وأجتثّت من قلبي عواطف مضحكة وتافهة. والطالبة الصهباء التي كنت مجنونا بحبها لم تعد تثير فيّ غير الشفقة على نفسي البائسة الغارقة في الأوهام...
وها أنا أعيد النظرفي قصص الحب عند العرب لأجدني في النهاية نفورا منها، عازفا عنها عزوفي عن وجبة رديئة فلا أجد فيها ما يغريني، أو يثيرني، أو يغذي خيالي وفكري. وذاك الذي جَنّنه حبه لليلي لم يعد يختلف بالنسبة لي عن الحمقى والمغفلين الراكضين نحو سراب بنآى عنهم دائما وأبدا. وأما ذاك الذي سَمّوه ب"شاعر الحب العذري" الذي يتغزل بحبيبته ماسكا بيديها من دون أن يجرؤ على تقبيلها ومضاجعتها تحت القمر في ليل الصحراء لا يقلّ غباء عن مجنون ليلى. كلاهما ضحية قبائل تتناحر وتتقاتل طوال الوقت، معتبرة الحب جريمة لا تغتفر. والمرأة دائما غائبة، أومغيّبة. أوهي شبح هائم. والشاعر العربي يبحث عن آثارها في الرمال المتحركة، ويتشمّم رائحتها في الغبار من دون أن يظفر بنظرة أو بابتسامة منها. لذا فإن قصص الحب عند العرب نادرة، بل تكاد تكون منعدمة. وإن وجدت فهي سطحية ومبتذلة ومصطنعة. وإذا ما حاول العشيق والمعشوقة أن يخترقا الخطوط الحمراء، فإن النار، أو السيف القاطع، أو الرجم بالحجارة يكونون في انتظارهما...
أمْعنتُ في البحث في بطون الكتب فلم أعثر إلاّ على إمرأة واحدة قد تكون شبيهة بالليدي شاترلي، ألا وهي عائشة بنت طلحة! ما يجمع بينهما هو أنهما تمرّدتا على أخلاقيّات وتقاليد الطبقة التي تنتميان إليها. وتقول الكتب إن عائشة هي إبنة طلحة بن عبد الله التميمي الذي كان من "العشرة الأوائل المبشرين بالجنة". ولعله أحبّ عائشة زوجة الرسول حتى أنه أعلن أنه سيتزوجها بعد وفاته. فلما نزلت الآية التي تحرم الزواج على نساء الرسول، تزوج أختها كلثوم بنت أبي بكر، واختار لابنته إسم عائشة فعاملتها خالتها وكأنها من صلبها!لذا اعتنت بتربيتها، وجعلتها موضع ثقتها، ومؤتمنة على أسرارها. وعندما كبرت عائشة بنت طلحة، عاشت حياة حرةّ مغايرة لحياة خالتها التي أدخلت مبكّرا إلى المقدس لتصبح "أم المؤمنين" خصوصا بعد أن قال فيها الرسول:”خذوا دينكم من هذه الحميْراء". ويشير المؤرخون إلى أن عائشة بنت طلحة إمرأة"إستثنائيّة"، و"جليلة"، و"صادمة" بسبب جموحها إلى التحرر، وجنوحها إلى تحدي المحرمات. لذا لم تكن تخفي رغباتها الجنسية، متباهية شبقها، وبحبها لفحول الرجال. كما أنها كانت"أجمل نساء زمنها وأرأسهن". وقد وصفها أحدهم قائلا:”حباها الله جمالا باهرا كأنها إحدى حور الجنة في هذه الدنيا".ورغم أن جدها هو الخليفة أبو بكر إلاّ أن عائشة لم تكن تستر وجهها على أحد. ويروي أحدهم أنه قال لعائشة بنت طلحة: إن القوم يريدون أن يدخلوا اليك فينظروا إلى حسنك! قالت: "أفلا قلت لي فألبس حسن ثيابي”. حتى الإمام أبو هريرة، حجة الإسلام، إنهار أمام جمالها الصّاعق، إذ روى صاحب الأغاني أنه-أي أبو هريرة-قال لها:”سبحان الله! ما أحسن من غذّاك من أهلك! لكأنما خرجت من الجنة!”. وروت عجوز خبيرة بالنساء أنها طلبت من عائشة بنت طلحة أن تنزع ثيابها ففعلت. بعدها وصفتها قائلة:” والله ما رأيت مثلها مقبلة ولا مدبرة محطوطة المتنين عظيمة العجيزة ممتلئة الترائب نقية الثغر وصفحة الوجه فرعاء الشعر ممتلئة الصدر خميصة البطن ذات عكن ضخمة السرة مسرولة الساق يرتج ما أعلاها، وفيها عيبان، أما أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف؛ عِظم القدم والأذن”. ووصفها الإصفهاني قائلا:”لم يكن لها شبه في زمانها حسنا ودماثة وجمالا وهيئة ومتانة وعفّة".
وكانت عائشة بنت طلحة تحفظ الشعر وترويه. ولها مجالس يحضرها الشعراء والأعيان المفتونين بجمالها. وروي صاحب الأغاني أنها دعت يوما نسوة من قريش. فلمّا جئنها،"أجلستهنّ في مجلس قد نُضد فيه الريحان والفواكه والطيب. وخلعت على كل إمرأة منهنّ خلعة تامّة من الوشي والخزّ ونحوهما". ثم طلبت من مغنية تدعى غرة فغنت في شعر امرئ القيس:
وثغر أغرّ شتيت النبات
لذيذ المقبّل والمُبتسمْ
وما ذقته غير ظن به
وبالظن يقضي عليك الحكمْ
وكان مصعب بن الزبير المشهور بوسامته، وبشجاعته في القتال، يستمع إلى ما يدور في مجلس عائشة بنت طلحة ومعه إخوان له. فلما رفعت غرة صوتها بالغناء، دنا من الستور المُسْبَلَة، وصاح:”يا هذه إنّا قد ذُقناه فوجدناه على ما وصفت. فبارك الله فيك يا غرّة!”.
وكانت عائشة بنت طلحة تفضّل الألوان الزاهية، المبرزة لجمالها، نفورة من اللون الأسود، لون البرقع والحجاب. ويروي الأصفهاني في "الأغاني" أنّ أحد أزواجها وهو مصعب بن الزبير عاتبها على عدم ستر وجهها، فقالت: إن الله تبارك وتعالى وَسَمني بميْسَم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفون فضلي عليهم، فما كنت أستره، والله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد". وتفصح عائشة عن ثقتها بنفسها حين ردّت على شخص نظر إليها نظرة تولّه وإعجاب وهي تطوف حول الكعبة بالقول:
مِنَ اللاء لم يحججنَّ يبغينَ حسبةً/ ولكن ليقتلنَّ البريء المغفلا
ويقول المؤرخون أنّ مصعب بن الزبير تزوجها وأمهرها أموالا طائلة حتى أن أخاه غضب وقال:”أخي مصعب قدّم أيره على خيره”. مع ذلك لم تكن تستسلم له في الفراش إلاّ بعد لأي. فكان أحيانا يضربها، ويمزق ثيابها فتهجره لأشهر طويلة، وتتركه يشوى على نيران رغباته. ومرة دخل عليها وهي نائمة ومعه ثماني لؤلؤات نثرها في حجرها فقالت: نومتي كانت أحب اليّ من هذا اللؤلؤ. وفي أحيان أخرى، يرقّ قلبها، فتظهر حبّها له. فقد روى الإصفهاني أنها هجرت مصعب فترة طويلة. ومرة عاد هو من الحرب ظافرا فهبت تهنئه بالإنتصار، وراحت تمسح التراب عن وجهه. فقال لها مصعب:”إني أشفق عليك من رائحة الحديد!”. فردّت عليه قائلة:”لهو والله عندي أطيب من رائحة المسك الأذفر!”.&
وبحسب الإصفهاني، فأن عمر بن عبد الله دخل على عائشة بعدأن أكل وشرب وصلى، ونكحها سبع عشرة مرة! وفي الصباح وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئا؟ قالت نعم! والله ما رأيت مثلك أكلتَ أكل سبعة رجال وصليت صلاة سبعة رجال و فعلت بي ما يفعله سبعة رجال! .
وروى الإصفهاني أيضا أن عمر بن عبيد الله، وقع على عائشة بنت طلحة على مسمع من الجارية التي وصفت المشهد قائلة بإنها شخرت ونخرت وأتت بالعجائب من الرهز (الرهز هو الأصوات التي تحدث بين المُتناكحين ). فلما خرجت عائشة سألتها الجارية: أنت في شرفك ومروءتك وموضعك تفعلين هذا؟ فردت عائشة بالقول: إن الخيل العتاق لا تشرب إلا بالصفير. وفي موضع آخر إنا نستهب لهذه الفحول بكل ما نقدر عليه وبكل ما يحرك شهوتها. فما الذي يزعجك في هذا؟ فقالت الجارية لو كان هذا في الليل كان أفضل. فردت عائشة: إن الذي يحدث في الليل أعظم من هذا!...
&
*فصل من سيرة روائية بعنوان:بحثا عن السعادة