&تكملةً &لمقالتنا المنشورة في إيلاف بتاريخ 14/ ديسمبر عن خمسٍ من شواعر العراق المبدعات اللائي وضعن بصمات شعرية حداثوية فيما يكتبن ؛ سنلقي في هذا المقال بعض الاضواء على شعرائنا المتميزين من الشباب ذوي البصر والبصيرة الشعرية الثاقبة من المعروفين في وسطنا الادبي برقيّه الكتابي وحنكته الشعرية ورؤاه الجانحة الى فضاء الابداع الواسع مع انتقاء شيء من النصوص الجديدة من كل شاعر لما رأيتُ فيهم من سعة آفاقهم ودرايتهم البائنة في كتابة القصيدة الحديثة التي نأمل ان تشقّ طريقها وسط هذا الكم الهائل من الغثّ العائم بيننا وركام مايسمى بالشعر ممن يوهم نفسه شاعرا والذي نتعثر به وأكوام المجموعات الشعرية التي تقيئها المطابع دون ان نلحظ مافيها من اضاءات راجحة ورؤى متجددة وماهي الاّ إسفاف لايُغني عقلا ولايُشبع نفساً تواقةً الى الابتكار .

هذه المجموعة المنتقاة من شعرائنا المجددين الشباب وعددهم خمسة ؛ آمل فيهم ان يتخطّوا العقبات والمطبّات التي تعرقل مسارهم الحسن من قبل عتيقي الشعراء ومتزمتيهم الذين لايريدون ان تسطع شموسهم المعاندة الساعية الى الاشراق رغم تجهّم الاجواء وسيادة الاستار السود المعتمة التي ينشرها مايسمون سدنة الشعر الجامد والتقليدي لكن من أتحدث عنهم من شبابنا الشعراء هم توّاقون بثقة الى الارتقاء الحداثي وابتكار بصمات شعرية مميزة لكل واحد منهم .
ابدأ بالشاعر الشاب الصاعد علي عبد الزهرة مواليد سنة / 1988 الذي سبق وان قرأت مجموعته الشعرية " صورة ملوّنة لشاعر " الصادرة في العام / 2013 والتي لفتت نظري ونظر الكثيرين حين صدورها عن مكتبة عدنان حتى ان قسما من المعنيين عمل على ترجمة بعض قصائده الى الفرنسية والانكليزية ، ففي قصيدته الجديدة " وسائد جديدة " التي بعثها اليّ يقول فيها :
" الوسائد الجديدة لم تصل بعد
حديقتنا الصغيرة فقدت آخر أوراقها قبل قليل&
برودة هذا الفجر تنبيء بشتاءٍ طويل
&بقايا القمر تتسرب من النافذة&
&مانحةً وسادتي القديمة بريقاً باهتاً&
وظلالاً متداخلة لأغراضي المبعثرة على الجــدار العــاري
&لا شيء سوى السكون العميق&
ربما بين الفينة والفينة صوت بكاءٍ وأنين من الغرفة المجاورة &
غرفة أمي &وصوت عواءٍ بعيد ربما لذئبٍ وحيد "
&
وفي قصيدة جديدة أخرى بعثها اليّ سمّاها " أخطاء " يأخذك نصّها الى مناخ شعري يشعرك بالسعادة وانت تطالعه مع كثرة هفوات الحياة ومزالقها واخطائها :
&
" ربما أخطأنا
&ربما استعرنا أحلام أشخاص لم نلتقِ بهم يوماً&
&وإرتدى كلانا قناعاً يشبهه&
ربما شغلنا استغراقنا بالنظر لعيون أحدنا الآخر
&أن نرَى عيونا أخرى
&لقد مضت الأيام مسرعة كقطار يحمل جنوداً&
لم يترك خلفه سوى بخار يتلاشى عبر المحطات&
وآثار أقدام سعيدة لغرباء فاتهم الرحيل&
ربما لم يجدر بنا أن نركب&
ربما كنا مخطئين "
&
ومن شبابنا الشعراء البارعين احمد ضياء مواليد / 1990 الذي لايفارق الشعر أبدا وكأنهما مثل شفرتي المقصّ يلزم بعضه بعضا حتى بات في أعماقه سكنا وملاذا وآصرةً ويكاد ينسى اختصاصه وهو الحاصل على الماجستير في الفنون المسرحية وقد كتب مجموعتين شعريتين هما "مملكة العظام " واخرى باسم " شعر في حقول الالغام " والمجموعة الثانية هي نصوص جماعة ميليشيا الثقافة التي أسسها مع نخبة من الشعراء الشباب الرافض لما يجري في بلاده من ديستوبيا الحرب وشرورها وغرائبية مايحدث من فانتازيا السياسة الغريبة الأطوار ، فهو ابٌ لأكثر من جثة لأطفال صيّرتهم المفخخات فحما وأساحت دماءهم مجرى من دم احمر لايريد ان يوقف نزفه&
هذا الشاعر بعث لي قصيدة جديدة اسمها " غبار متطاير من &ال د م " انقلها كما وردت اليّ :
" تشوغ يدايَ حين أتمتمُ باسمكِ
أتكمكشُ لائذاً بصوتكِ في نافذةِ الصبر&
وأصبّرُ النظرَ على الفراقِ
أنا المزارعُ أجرجرُ آهاتٍ&
وأستزرعُها أشجاراً يوميةً لتنمو في رأسي
أنا السجينُ السجينُ السجينُ مراراً
الحرُّ السجينُ أخلعُ قبعتي نهاراً وألبسُها بعد منتصفِ الدمعِ .&
لأفيِّ اليرقات النابتةِ في حواسيبِ الادمغةِ&
أنا السجينُ أخبئُ مظلّتي&
وأضعُ الوشمَ على ظهرِ دجاجةٍ مسفوكة الدم.&
أنا السجينُ المتوحدُ المؤملُ القابعُ في جوفِ الانعزالِ
&أوظّبُ وريقات جسدي&
وأنثرُها في كومةِ أحاسيسِ العهرِ المتجعد في خلجاتِنا.
تلك هي الينابيعُ الأولى لِسِيَـرنِا فوق الغيم&
هناك شاهدنا ملثّمين أيضاً يزعزعون سيرَ الأفراد
ينثّون هراولاتهم على طوابيرِ الانصياع&
في الطرفِ الآخر&
ينظرُ لهم البوليس ويبتسم
صغاراً كنّا نلهثُ وراء فتافيت من العتمةِ
اما من وقْـدةٍ لنبرقْ "
ومادمنا في الحديث عن شعراء ميليشيا الثقافة فلابد من ذكر الشاعر كاظم خنجر الذي لايتوانى من ان يكتب قصائده في مواقع الانفجارات وأماكن الخراب المديد في أنحاء بلاده وتحت مرأى ومسمع هدير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة ووسط أزيز الرعب الشامل كل منحى الحياة التي لاتطاق في بلاد كانت تسمى ارض الرافدين وأضحت الان بين جهنمين حمراوين ؛ بين اعداء الداخل والخارج معا ليشعلا وطنا وشعبا لاناقة له ولا جمل ولا عنز ولا حمل بأجندات الأغراب والأجناب&
اصدر الشاعر كاظم خنجر مجموعة شعرية سماها " نزهة بحزام ناسف " عن دار مخطوطات في هولندا وهذه إحدى قصائده الجديدة التي تتفجّر شعرا الموسومة " أختي " التي أرسلها اليّ لنشرها في إيلاف&
" لديّ أختٌ صغيرة مُعاقة&
ماتت من سنوات&
البارحة وأنا أنظّف سطح البيت&
سحبت كرسيّها المدوْلب من تحت الخردوات&
جلست فيه أقشّر سنواتي&
تذكرت أطفال الجيران الذين كانوا يرمونها بالحجارة&
كلما تركتْها أمي في باب البيت
لم تكن تبكي أبداً&
فقد كانت تلعب معهم ولكن بدمِها&
تذكرت أشرطة أمي الخضراء&
المعقودة على ذراعيك المُختنقين&
أيها الكرسي&
أمي الجائعة لا تملك سوى الدمع
تأكله ويأكلها&
اليوم وحدي بلا أمّ ولا أخت&
أضع سنواتي على الكرسي المدولب&
وأدفعه أمام باب البيت&
مُدركاً بأن الرياح العالية&
تدفع الغبار&
باتجاه واحد "
اما الشاعر علي وجيه مواليد /1989 فألحظه يرقى يوما بعد يوم شعرياً منذ ان اصدر مجموعته الشعرية الاولى " منفائيل " وكأن انشغالاته الاعلامية الجمّة واهتماماته بالافلام الوثائقية والتسجيلية التي يصنعها مع نخبة من أصدقائه الفنانين الشباب لن تثنيه دأبَه المتواصل على كتابة الشعر وقد اصدر بعد مجموعته الاولى " اصابعي تتكلم " و " سرطان – نثر اسود " و " دفتر المغضوب عليهم والضالّين "
هذه قصيدة له بعنوان " نحن ثلاثة في فيسبوك " تتحدث عن القتل العمد للدكتور في جامعة بغداد محمد بديوي الشمري من قبل حماية وحراس مقر رئيس الجمهورية قبل بضع سنوات في كرادة بغداد الحزينة دوما مصوّرا حالة الهلع والارتياب والاندهاش لزمرة من أصدقاء القتيل وهم يتأملون صورة جسده البائنة على صفحته والبروفايل الحزين الذي افتقد راعيَه&
" صديقي الذي ثقبتْ رأسَهُ رصاصةٌ&
قرب منزل السيّد رئيس الجمهورية
&ظلّتْ جثته طويلاً في فيسبوك&
في المنشور الأوّل تماماً، وتتكرر عيانا أمامنا&
كنا نراها فلا نحنُ نغمضُ العيونَ ولا هي تتفسّخ&
ولا نرى غراباً إلكترونياً يعلّمنا كيف نواري سوءَةَ أخينا.
ظلّت الجثّة في عراءِ الشبكة ثلاثة أيّامٍ
&وتدريجياً بدأت بالاختفاء&
فيما ظلَّ الدَّمُ ينزُّ في باحةِ الفيسبوك
مُلطِّخاً ابتساماتنا الكاذبة وأغانينا الباردة
بعدها بكثيرٍ أو قليل لا أدري
تدلّت من المشنقةِ جثةٌ أخرى
&ليس صديقي، لكنّها جثتهُ المدمّاة&
بقيَ هواءُ كلامنا يؤرجحها، وظلّها توزّعَ علينا.
يوماً ما، سأكونُ أيضاً إحدى الجثّتين،
&لكنني سأبقى طويلاً
ذلك أنَّ جنّازيَّ كثيرون،
&منهنّ نساءٌ مستعدّاتٌ لتمزيقِ صفحاتهنَّ الألكترونية
، وشخبطة صورة البروفايل "
وفي نصّ اخر للشاعر وجيه عنوانه " خبرٌ صحفي " وبالتفاتة شعرية متعمدة ذكية ينقل إلينا حادثةَ قتلِ طفلٍ مرميٍّ في الشارع فيقول في مقطع مؤثر :&
"مسلحين يقتلون طفلٌ ويرمون جثّته في الشارع"
ومثلُ رشّاشٍ أوتوماتيكي
ترقصُ أصابعُكَ وتكتب:&
"مسلّحونَ يقتلونَ طفلاً ويرمونَ جثّتَهُ في الشّارعِ"..
وتبتسمُ:
لأنّكَ رفعتَ مبتدأً
ونصبتَ مفعولاً به
لكنك تركتَ جثّةَ الطفلِ وحيدةً في العراء
&
اختم مقالتي واكتب عن الشاعر الشاب أدهم عادل& المولود سنة / 1987 الذي تنفد كتبه الاربعة التي دأب على تأليفها بسرعة خلافا لبقية أقرانه من الشعراء كبارهم وصغارهم ، فهذا الشاعر متعدد المواهب ، بدأ الكتابة مبكّرا وقبل تخرّجه من كلية الآداب / قسم اللغة الانجليزية ويكتب الفصيح والشعبي بيد واثقة وعقل راجح حتى وصلت طبعات بعض كتبه الى ثمان مرات ولازال شعره رائجا متداولا بين القرّاء هنا في بغداد وبقية محافظات العراق ، آخر إصداراته كتابُه الذي نال إقبالاً مثيرا في سوق وشارع &الثقافة المتنبي " هذا الكون سيء السمعة " .
أنتقي هنا إحدى قصائده المعنونة " قبل أنْ أموت " :
" اعلم اني سأموت غدا او بعد غد
فذا قبري يتثاءب ضجرا وملّ انتظاري
غير اني لن اموت قبل ان اتعرّى تماما
اركض حافيا في شوارع طفولتي
لن اموت قبل ان يطول شَعري ليصل حافة قدميّ
لن أموتَ قبل ان أعانق المجانين وأتذلل المساكين
انتفض للسكارى وأُظهر عبادتي للمعاقين&
لن اموت قبل ان اقبّل أيدي الشحاذين اصبعا اصبعا&
قبل ان أشمّ شُعيرات العواهر واحدة اثر اخرى&
وأعلن أسفي عن اللائي وصموهنّ بهذه المفردة الوقحة&
سأنتظر واقفا كالمنارة ..ملوّحا بيدي مودِّعا آخر شهيد
أستقبل أول وآخر أسير حرب
لن اموت قبل ان أرحّب بحبيبتي وطفلتها الوحيدة
تلك التي تزوجت حفظا للنسل إرضاءً لابناء العمومة
يوم ودّعتني وهي ببدلة الزفاف&
وانا جالس &آخر الكراسي كالخروف ينتظر سكين الذبح
لن اموت قبل ان أقبّل طفلتَها&
قبل ان أتحسّر فوق خدّيها مثل عاقر تخطّت الاربعين يأساً
لن اموت قبل ان أودّع الكلاب السائبة وألاعب القطط الشاردة
قبل ان أحاور الفئران المصابة بالطاعون&
قبل أن أحيّي شيوخنا الذين نخرهم الزهايمر&
وشبابنا المبتلين بالآيدز ومَن نبذَ الواقي الذكري
لن اموت الاّ مرميا على رصيف دار سينما أو مسرح مستنشقا آخر سيكارتي&
لاعناً الوجود الاحمق برمّتهِ&
&مشرّداً علّمته الشوارع درسا قاسيا " .
أعرف أني لم أفِ أو أغطي كل شعرائنا الشباب المثابر على التجديد وهم كثرٌ وما كتبته سوى النزر اليسير من التقاطات إبداعية مبثوثة هنا وهناك وانطباعات نقدية قد تتلمس الطريق وتدلّ المهتمين بالشعر العراقي الذي بدأ يوقظ أحاسيسه ويمدّ طرفه الى آفاق أبعد ويتخلص من السبات الذي طال أمده وهاهو العراق ينهض بفتيته الشعراء من جديد ليواصل ما أبدعه الكبار الاوَل .
تلك هي بلادي موطن التجديد والحداثة والابتكار مهما عمل شذّاذ الافاق على إعاقة مساره فالشعر في هذا الوطن الغزير وعيا لاينتهي لكنه قد يرقد ردحا ليستريح .
&
&
&