&
&
في معهد حفوز، اكتشفت ثقافة اليابان للمرة الأولى من خلال فيلم"راشومون" للمخرج كوروساوا. حدث ذلك في شتاء عام 1966. والأستاذ الفرنسي الذي كان يشرف على نادي السينما بالمعهد حدثنا طويلا عن تلك البلاد البعيدة الغريبة، والتي زادها الفيلم غرابة وغموضا. وكان عليّ أن أنتظرخريف عام 1968 لكي يشتعل فضولي للتعرف على الأدب الياباني بعد فوز كواباتا بجائزة نوبل للآداب. وفي عطلة شتاء العام المذكور، قرأت روايته:”بلاد الثلج" التي أمضى 12 سنة في كتابتها. و"بلاد الثلج" هي منطقة" بنيغادا" الواقعة على البحر الياباني. والشتاء في تلك المنطقة بارد وقاس جدا. زائرها يحسّ حالما يصل إليها بالوحدة والعزلة. فالصمت فيها شامل. فلكأنها فارغة من السكان. بطل الرواية يدعى شيماميرا. وهو رجل من طوكيو، عاطل عن العمل، يذهب إلى "بلاد الثلج" ليلتقي بكوماكو. وهي فتاة تعمل في إحدى المحطات الإستشفائية في تلك المنطقة. خلال رحلته يتعرف على يوكو التي كانت بصحبة رجل مريض كانت ترعاه بعناية كبيرة. من النظرة الأولى ينجذب شيماميرا إلى تلك الفتاة الرقيقة الجميلة. بين المرأتين المذكورتين، يأخذ بطل الرواية في البحث عن ذاته. فكوماكو تفتنه بجسدها الفائر بالأنوثة. أمّا يوكو فتثيره بجمالها الخفي المنفجر من كامل جسدها مثل نور غامض. هذه العلاقة المثلثة تؤدي إلى نهاية تراجيديّة. ففي آخر الرواية، يندلع حريق هائل، فتحترق يوكو، وينفصل شيماميرا عن كوماكو فلا يلتقيا بعد ذلك أ بدا. وفي النهاية لا يتبقى إلاّ الألم العميق مكوّما في القلوب التي أجهدها الحب.
مثل تولستوي، يتطرق كواباتا إلى موضوع الموت في العديد من أعماله. عل ذلك يعود إلى أنه اصطدم به مبكرا هو أيضا. فقد توفي والده بداء السل وهو لم يبلغ عامه الأول. وقبل مرور سنة واحدة على تلك الفاجعة، قضت والدته بنفس الداء. وكان في سنّ الخامسة عشرة لما توفي جده. لذا كان عليه أن يواجه الحياة وعواصفها وحيدا ومن دون سند. والموت في أعمال كواباتا ليس موت الأشخاص، بل موت الحب الذي يجمع بين كائنين. وقليلة هي أعماله التي تنتهي من دون وقوع مأساة، وحدوث دمار. وحده الجمال يظلّ الجواب على الخراب والموت. بالجمال يقاوم الإنسان القبح والشيخوخة وأوجاعها. وهذا ما نتبيّنه من خلال"الجميلات النائمات". فخلال زياراته الخمس إلى بيت مغلق، يكتشف العجوز إيغوشي أجساد فتيات عذارى يقع تنويمهنّ ، ثم يأتي شيوخ عاجزون جنسيّا ليتذكروا سنوات شبابهم. ويُسْهب كواباتا في تصوير جمال تلك الأجساد حتى أن القارئ يحسّ بفظاعة الإنحلال والموت. وقد يكون الشيوخ الذين يأتون إلى البيت المغلق من أولئك الذين لم يكونوا يترددون في فعل الشر ليحقّقوا لأنفسهم النجاح في الحياة. لذلك هم لا يشعرون لا بالطمانينة ولا بالأمان. دائما هم قلقون، ومرتعبون من ماضيهم. وعندما يتمدّدون بجانب الفتاة الجميلة النائمة آملين أن ينسوا ما اقترفوه من ذنوب، يداهمهم الشعور المر بأن نهايتهم باتت وشيكة، وأن تلك المتع الجنسية هي في الحقيقة من دون فائدة. فربيعهم ولّى ولن يعود أبدا. وها هم يحتضنون الفتاة الجميلة العارية وهم يذرفون دموعا سخينة، إلاّ أنّ الفتاة الجميلة لا تعبأ بهم لأنها غارقة في نوم عميق.
مستغرقا في أفكاره حول الحياة والموت، والشيخوخة والشباب، والجمال والقبح، يداعب العجوز إيغوشي فتاة صغيرة نائمة، أقلّ جمالا من الفتاتين السابقتين. بهدوء يعبث بشعرها المنسدل على كتفيها العاريين. ساعيا لاستعادة هدوئه، هو يجهد نفسه للإعتراف بأخطائه، وبانحلالاته الأخلاقيّة في سنوات الشباب، إلاّ أنه يعجز عن ذلك. ولا تقفز إلى ذاكرته غير نساء كان قد عشقهنّ في ماضيه البعيد. وهو لا يستحضر لا جمالهنّ، ولا قبحهنّ، ولا الزمن الذي استغرقته العلاقة معهنّ، ولا حماقاتهنّ، وإنما مداعابته لهنّ وقد هاجت عواطفهنّ واحتدت حتى لم تعدن قادرات على كبحها... في النهاية، يشعر العجوز إيغوشي أن المكان المثالي لنهايته هو بيت "الفتيات النائمات". نعم...سيكون جميلا أن يموت مُلهبا الفضول، ومستثيرا التهكم والسخرية. ومن المؤكد أن عائلته وأصدقاءه سييتفاجأون الأمر، إلاّ أنه يرغب في أن يموت بين فتاتين نائمتين …في كوابيسه، يرى إيغوشي صورة أمه. حين يحاول إبعادها، يعجز عن ذلك. عندئذ يغمض عينيه ليرى بوضوح أمه التي توفيت في ليلة شتاء بعد أن تقيأت الدم. ثم يرى نفسه عائدا من الرحلة التي أعقبت زواجه، ليجد البيت كما لو أنه مغطى بزهور شبيهة بالدهليّات الحمراء المضطربة في الريح. في البداية، يظل مترددا في الدخول ظانا أن البيت ليس بيته. إلاّ أن أمه التي توفيت تظهر فجأة لتقول له: “ ها قد عدت...فلماذا لا تدخل؟". يسألها هو عن تلك الزهور الغريبة،غير أنها لا تجيبه، بل تقوده وزجته إلى قاعة الأكل. من المطبخ تأتي رائحة المرْجان المشوي. ويخرج إيغوشي لينظر إلى الزهور الغريبة مرة أخرى. وتقول له زوجته:”آآآ...كم هي جميلة هذه الزهور!”. إلاّ أن إيغوشي لا يرغب في إبلاغها بأن تلك الزهور لم تكن موجودة من قبل. وهو يتأمل زهرة أكبر حجما من الأخريات، تسقط من تُويْجيّتها قطرة دم فيصيح"آه". وفي تلك اللحظة يستيقظ من كوابيسه ليجد نفسه إلى جانب فتاة سوداء باردة...
الإحساس بالوحدة والموت فظيع ومفزع أيضا في رواية:”دويّ الجبل" التي أصدرها كواباتا في عام 1954. حالما تجاوز سنّ الستين، اعترت بطل هذه الرواية المدعو أوغاتا شينغو هواجس رهيبة، وبدأ يشعر أن الموت يترصده، مهددا بخنق أنفاسه. ففي ليلة هادئة من ليالي بدايات شهر آب-أغسطس، بدا له أنه يستمع إلى صخب البحر، لكن في يلحظة ما، تبيّن له أن ما يسمعه هو في الحقيقة دويّ الجبل. وهو يشبه ضجيج الريح البعيدة.لكنه دويّ قويّ وعميق. لكأنه قادم من أحشاء الأرض. ظانّا أنه لا يعدو أن يكون طنينا صادرا من أذنيه، حرّك رأسه. عندئذ، كفّ الدوي. ارتجف مرتعبا فكما لو أنه أحسّ بدنوّ الموت. بعدها أصبح يعيش حياته كما لو أنها سلسلة من الكوابيس المرعبة. ولم يعد يتحمل زوجته التي كانت تزداد بشاعة يوما بعد آخر، مطلقة أثناء النوم شخيرا مزعجا يعكر مزاجه، ويطرد عنه النوم. ولم يعد يتحمل أيضا بقية أفراد عائلته. فجميعهم تحولوا إلى كائنات مقيتة، منها ينفر نفوره من حشرات كريهة. وحدها زوجة إبنه الجميلة، ذات القامة الهيفاء، تثير فيه مشاعر الحب، والتعلق بالحياة. وفي لحظات الخوف واللوعة، يستغرق شينغو في تأمل الطبيعة البديعة التي تتغير مشاهدها بحسب تغير الفصول، مرددا أبيات من شعر الهايكو:
لتظلّ الزهرة في قلبي
أنا الخشبة المدفونة
إلاّ أن أوجاعه لم تكن تخف، ولا تهدأ، بل تزداد ضراوة ووحشية...وها وحدته تتحول إلى فلاة موحشة، قفراء. وها هو وحيد بينما الموت يتقدم منه لينشب مخالبه في قلبه، وفي جسده. وهو شبيه ببركين، بطل رواية"الطريق الملكي" لأندريه مالرو الذي يقول:” ”ما يُثقل عليّ هو كيف أعبر عن مصيري كإنسان: إنني أشيخ، وهذا الشيء المرعب،أي الزمن، يتطور داخل جسدي مثل سرطان بطريقة يتعذّر إيقافها. الزمن هو هذا".
في قصة:”البحيرة"، يجد موموي غمبي متعة في ملاحقة النساء الجميلات. ورغم أنه يعلم جيّدا أن التمتع بجمالهنّ أمر مستحيل، فإنه يواصل الملاحقة لأنها سلواه الوحيدة التي تنسيه بشاعته وعاهاته الجسدية. في النهاية، يلتقي بامرأة فيدعوها إلى مشاركته الشراب في إحدى الحانات. من خلال حديثه معها، يتبين غمبي أن تلك المرأة أرملة فقدت زوجها في الحرب. وهي تعيش مع ابنتها البالغة من العمر 13 عاما. وتبالغ المرأة في الشراب فتصبح بشعة. وفي الطريق إلى البيت، تطلب منه أن يشتري لها زهورا فيلبي طلبها إلاّ أنها تتركها عند بائع إطريّات. وها هي تترنح سكرانة لتزداد بشاعة وقبحا. عندئذ تنتفي رغبة غمبي في مضاعتها، بل أن مجرد التفكير في ذلك يفزعه، ويشعره بالغثيان. ثم تسقط المرأة في الشارع الصغير، فيفر هو هاربا بينما هي تشتمته وتلعنه، وترميه بالحصى وهي في حالة من الغضب الشديد. لكنه لا يعبأ بها، بل يواصل سيره وهو في أقصى درجات الشقاء والتعاسة...
وتبرز التقلبات السياسية والإجتماعية في اليابان في البعض من أعمال كواباتا. وهذا ما نعاينه في روايته:”كيوتو"، عاصمة اليابان القديمة. وقد تأسّست هذه المدينة في عصر"هينان" المجيد. لذا هي مهد الحضارة اليابانية، ومنبع تقاليدها العريقة. وهي ما تزال مشهورة إلى حدّ هذه الساعة بحريرها، وبأزهارها.
في بداية الرواية، تلتقي فتاتان في أحد شوارع كيوتو. وسرعان ما تكتشفان أنهما توأمان. في ذلك الوقت، كانت المدينة تمرّ بتحولات وتغيّرات إجتماعيّة، واقتصادية. وكانت المحلات التجارية المتخصصة في بيع الأشياء القديمة قد بدأت تعرف الكساد. شيئا فشيئا يبدا جيل جديد في الصعود.جيل مهووس بالغرب، ومتمرّس بالرأسمالية الصاعدة بشكل جنونيّ. وواضح أن هدف كواباتا من روايته هذه هو إدانة التغيّرات التي شوهت المجتمع الياباني، وأفقدته رقته، وتقاليده الرائعة، وأنسته تاريخه المجيد. وفيالخطاب الذي ألقاه في الأكاديمية السويدية بمناسبة فوز بجائزة نوبل للآداب، قال كواباتا:”الثلج والقمر وأشجار الكرز المزهرة، كلمات تعبر عن جمال الفصول، وكل فصل يتحوّل إلى آخر، مشتملة على كلّ تقاليد اليابان الرائعة لجمال الجبال، وأنهارها وأشجارها ونباتاتها، وآلاف المظاهر التي تتجسد فيها الطبيعة، وأيضا الأحاسيس البشرية التي لا يحصى عددها ".