&لعل الواقع يفرض تأمل بعض تضاريسه على الروائيين والمفكرين بحسب نباهتم وسعة فكرهم أو تثير تلك التضاريس بوصلة أبحاثهم. وفي الأدب يتم الحديث عن استلهام حدث أو فكرة وغير ذلك.&

وضمن تأمل الواقع وقضاياه، صدرت مؤخرا طبعة ثانية لكتاب "كلنا مور" أو "كلنا مغاربة" (We Are All Moors)، بالولايات المتحدة، بينما صدرت الطبعة الأولى سنة (2009) بمناسبة مرور أربعمائة سنة على ما تعرض له الموريسكسون بإسبانيا من مذابح وتهجير. وقد واكب صدور تلك الطبعة الأولى أيضا ما كان يروج من نقاش بالولايات المتحدة الأمريكية حول هجرة المواطنين اللاتينيين، ومنهم المكسيكيون إلى أمريكا، كما واكب العنف الذين يتعرض لهم المسلمون والعرب بأوربا وقضايا الهجرة السرية... وطرحت الأسئلة ذاتها حول الموضوع ذاته: ما العمل مع هؤلاء المهاجرين؟ والكتاب من توقيع أنور مجيد، الروائي والمفكر الأمريكي-المغربي، الذي يدرس بجامعة "نْيُوإِنْغْلَنْدْ" بولاية ماين بالولايات المتحدة. وقد كتب مجيد عدة كتب منها رواية "السي يوسف"، و"إزاحة الستار عن التقاليد"، و"الإسلام وأمريكا"... يقع الكتاب في (230) صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على مقدمة بعنوان "شبح المغربي"، وأربعة فصول هي على التوالي: "ورع قاسي"، و"مغاربة العالم الجديد"، و"اليهود المسلمون"، و"الأجانب غير المرغوب فيهم: اللاتينيون في أمريكا، والمسلمون في أوربا"، وخاتمة بعنوان "كلنا مغاربة"
وإذن فالكتاب يلامس قضية الأقليات. ويبين الكاتب في التمهيد أن فكرة الكتاب نشأت عبر مراحل منها أنه ألقى محاضرة بولاية "نيو ميكسيكو"، في المركز الثقافي الوطني الأسباني سنة (2005)، ويوجد في هذه الولاية كثير من المواطنين الذين يطلق عليهم (لوس تشيكانوس)، وهم من أصل مكسيكي. كما توجد هناك منظمة تطلق على نفسها (لا راسا) تدافع عن حقوق المواطنين من أصول أمريكا اللاتينية. وكان موضوع العرض حول العلاقة بين اللاتينيين والحضارة المغربية. ثم زار المكان عدة مرات وتعرف عن قرب على حضارة الهنود الحمر. ثم زار مرات اسبانيا واقترب من تاريخ الموريسكيين... كما يؤكد أن إحياء الذكرى الأربعمائة على صدور القرار الملكي الإسباني بطرد كل الموريسكيين (الذين يطلق عليهم المسلمون أو الأسبان من أصول مسلمة). وهو ما أطلق عليه الإسباني "رافائيل طوريس" "السَنَة الموريسكية".&
ولعل من أسباب بناء قضية الأقليات الإحساس برهاب الأجانب، وينمو هذا الفكر مع الرغبة في توحيد مجموعة بشرية معينة وتقوية التلاحم بين أفرادها ولحظتها تصبح الحاجة إلى وجود الآخر ضرورة ملحة لبناء الوحدة الوطنية عبر إلغاء هذا الآخر وتحميله وزر كل الشرور.&
ويبين الكاتب أنه لم يحدث أن تشكل شعب في العصر القديم أو الحديث من دون اللجوء إلى هذه العاطفة. تتشكل الشعوب، وتنمو الديانات وتزدهر على حساب شعوب أخرى. بل وآلهة أخرى. وهي قضية فلسفية ونفسية، مهمة جدا، في الآن ذاته. وفي نهاية المطاف، إننا نحدد ذواتنا كأشخاص، ونحدد هويتنا عبر إلغاء الآخر أو إقصائه. وعندما نتحدث عن الآخر فنحن نمارس اللعبة ذاتها، نقلل من شأن الآخر ونرفع من شأننا. حين نقول هذا الشخص، فاسد أخلاقيا، وهذا كذاب، معناه أني أنا صالح، وغير كذاب.. حتى أصبح الأمر عاديا..&
فغريزة الاختلاف، والتمييز تسكن أفئدتنا جميعا. منذ بداية الخليقة. قد تكون القضية بيولوجية، وقد تكون نفسية، لكن على مستوى المجتمعات والدول، نجد أول تجسيد لنشأة دولة حديثة كان في إسبانيا. فهذه الدولة حاولت أن توحد المناطق المختلفة التي تتشكل منها (أراغون، وقشتالة...) حول المسيحية كدين، واستعملت المسلمين واليهود كوسيلة تلحم بها نفسها وسكانها.. ثم طردت اليهود والمسلمين الذين لم يريدوا أن يدخلوا المسيحية. ثم اعتمدت اللغة القشتالية كلغة رسمية في السنة ذاتها، وفاضت خارج حدودها فيما سمي الاكتشافات الجغرافية وهي مرحلة بداية الاستعمار الغربي للعالم الآخر. وقد حضر كريستوف كولومب نفسه يوم تسليم المفاتيح للملك فرناندو والملكة إزابيلا... وهكذا كانت إسبانيا أول دولة حديثة بنت دولة على عقيدة واحدة، وهي المسيحية، أو بُنِيت على إيديولوجية هي الديانة الكاثوليكية، ثم على لغة واحدة هي القشتالية، ولتقوية الوحدة بين هذا الشعب وجب أن تكون بين ظهرانيه أقلية معينة، كأنها رمز للتهديد لتبقى عرى التواصل بين أفراد الشعب قوية. ثم وجب أن تخرج هذه الدولة في خرجات استعمارية، معتبرة الآخر رمز تهديد.. وهكذا، فالأقليات ملح وجود الدول، فهي التي تمكن من التحام طبقات وأفراد الشعب، في عالمنا الحديث. والأقلية تختلف عن الأغلبية من حيث الأصول، أو الدين، أو اللغة..
ومن ثم يقول الكاتب أننا جميعا، بشكل أو بآخر، أقليات في نهاية المطاف، ومن ثم عنوان الكتاب. فإذا اعتمدنا الفكرة القائلة أننا نختلف عن الآخرين، وهي وهْمٌ حديث وقديم، فإننا آنذاك نتأكد من أننا كلنا أقليات. فحين ننظر إلى العالم بأسره فنحن نمثل جميعا أقليات. فلا أحد ينتمي إلى مجموعة قوية، وممتدة. فلنا جميعا عادات مختلفة، وثقافات مختلفة، والسبيل الوحيد الذي يخرجنا من صلب فكرة أو واقع الأقلية هو الزعم القائل أننا نمثل عشرة مليون من الأفراد (أكثرية): تجمعهم العقيدة نفسها، والفكر نفسه، والمقومات الشخصية نفسها، وهو أمر مستحيل. مجرد وهم. نحن جميعا أقليات، في الواقع، وبتعبير وجودي، نحن جميعا وحيدين، يولد كل واحد منا بمفرده، ويموت بمفرده..&
&
ويمكن القول إن الهوية الوطنية أو القومية مرتبطة دائما بالحداثة، وذلك أن تأسيس أول دولة، (Etat, Nation, State, Etat-Nation) في التاريخ الحديث هي اسبانيا. منذ القرن الخامس عشر. وفي الآن ذاته، صدر في سالامانكا أول كتاب سنة (1492) باللغة القشتالية (لاَ إِيدْيُومَا كَاسْتِيَانَا)، أول نحو للغة الإسبانية المسماة الكاستيانا. ولذلك فإسبانيا دولة مهمة في التاريخ الحديث، وهو ما لا ينتبه إليه الناس كثيرا.&ويقدم الكتاب كما هائلا من الوثائق التي تدعم وجهة البحث ومن آفاق مختلفة تهم الأنثربولوجيا والعلوم الإنسانية وتاريخ العرب والمسلمين واليهود والأسبان والأمريكيين اللاتينيين وحضارة الآزتيك والمايا... والهنود الحمر. ويبين كيف يتحول الدين إلى نوع من العِرقية لدرجة أن المسيحيين المنحدرين من أصول مسلمة تعرضوا لعقاب الدولة الإسبانية يومها. وقد شرعت الدولة الإسبانية منذ القرن الخامس عشر في تجميع المسلمين في مناطق محددة وعزلهم بل ووضعهم تحت المراقبة.&
ويعرض الكتاب في الفصل الأول إلى انفجار الوضع المسكوت عنه بين حدود أسبانيا وذلك بتوقيع الملك فليب الثالث، زعيم أقوى دولة في أوربا، مرسوم طرد الأسبان من أصول مسلمة يوم التاسع من أبريل من سنة (1609) ويتراوح عددهم ما بين (300.000) و(500.000) مواطن وهو ما يمثل خمسة في المائة من ساكنة إسبانيا. وهو عدد ضخم بالنظر إلى مساحة أسبانيا وعدد سكانها، يومها.. وقد مثل القرار، الذي وضع حيز التنفيذ، تتويجا لعدة قرون من التدابير التقييدية ضد الأقليات الدينية ويمثلها المسلمون واليهود. ويتابع الباحث عملية الطرد والتطهير العرقي من منبعها الفكري والديني إلى نهاياتها التي بلغت من الفظاعة ما سجله التاريخ المحلي عبر كتابات المؤرخين ورجال الدين، والتاريخ العالمي... ولعل هذا القول الوارد بكتاب "طرد الموريسكيين الأسبان"، "لدانفيلا إِي كولادو"، يبين الحماس والأفكار التي كانت وراء فظاعة ونشاط مهندسي ومنفذي عملية التطهير: "سعيدة هي الدولة التي توحدت بكل أحاسيسها". & &
كما يعالج الفصل الثاني من الكتاب "مغاربة العالم الجديد"، والمقصود هنا المسلمون ومن هم في وضع أو مرتبة المسلمين بأمريكا، وخاصة المواطنون من أصول لاتينية. فهم المغاربة الجدد. وهكذا يبدو أن عبارة مغربي أصبحت ذات حمولة رمزية واصطلاحية، فهي تعني كل مواطن ينتمي إلى الأقلية. وهكذا يتحول المغربي إلى نموذج يمثل المجموعات التي تعتبرها الحكومات في أمريكا كما في أوربا مشكلا في وجه تمتين وحدة البلد ومن ثم تستدعي نوعا من التطهير.&
ويبرز أنور مجيد في كتابه هذا بعض مكر التاريخ، من ذلك تحول المنحدرين من أصول اسبانية، "مبدعي" العنصرية الوطنية، إلى هدف عنصري من لدن العنصريين الأمريكيين الذين يضطهدون اللاتينيين ومن يدافع عنهم من كاثوليك.
ويقدم الكاتب بديلا عرضيا نسبيا، إذ يؤكد على حق الأقليات المضطهدة في التنقل عبر الحدود الوطنية للبحث عن سبل تحقيق ذاتها والعمل من دون قيود، كما يعتبر السياسات الاقتصادية الجائرة وغير المنصفة التي تعتمدها "الأممية البنكية" ووكلاؤها هي السبب في جعل أقلية من النخبة الغنية تعيش على استعباد الأغلبية في كل دول العالم ومنها الأقليات... لعل من فضائل الكتاب أن يطرح مناقشة موضوع كراهية الغرب للأجنبي، على امتداد التاريخ الحديث، ويعري ما يسعى الغرب إلى السكوت عنه، باللغة المتداولة عالميا، من لدن مختلف الأطياف..
وعلى اعتبار أن خلاص العالم من هذه الفكرة، هو التهجين أو الخلاسية، فالعالم لن يفلح في الاختلاط، فسنجد دائما إيديولوجيا جديدة تفكك بعض المختلطين، وتربط بين آخرين.. ثم يعاد السيناريو ذاته. قد تقوم الإيديولوجيا على أساس الدين، أو العرق، أو اللغة، أو الإثنية... كل مرة تتغير المقاييس بحسب الزمان، والمكان، والمصلحة... وقد نرى أن فريق كرة القدم مثلا بدأ يشكل مجموعة بشرية خاصة تقاتل من أجله.. وهكذا يبدو أن أول عملية تطهير عرقي، في العالم، حدثت في العصور الحديثة في إسبانيا الكاثوليكية التي هجرت وذبحت الأقلية المسلمة واليهودية (1609). ويبدو أن هذه العملية لعبة سياسية تحترفها النخب السياسية (والبنكية)، وأنها قد لا تختفي قريبا حين يدعمها المفكرون أحيانا. ألا يتحدث البعض عن الصدام الحضاري، وهل يجدي الحديث عن أننا وجدنا لنتفاهم؟ وهل تبدو نظرة "ستيفانو أليِيفِي"، صاحب كتاب "الإسلام في إيطاليا" أكثر تفاؤلا تحدس تغييرا ما يلعب فيه هذا المعطى الجديد دورا ما مغايرا شبيها بالحتمية التاريخية أو البيولوجية: "إن المسلم أكثر من الأجنبي الذي وصفه جورج سيمل، ليس المسلم هو الشخص الذي "يأتي اليوم ويرحل غدا، بل هو الذي يأتي اليوم ويبقى غدا"؟.
&