&
&
كان خوان غابرييل فاسكيز في الثامنة عندما اراه والده المكان الذي قتل فيه رافائيل اوريب اوريب وقال له إن رجلين استخدما فأسا في قتل جنرال الحرب الاهلية في كولومبيا في منطقة تاريخية من بوغوتا تحمل اسم لا كانديلاريا. وقد تحولت هذه المنطقة لاحقا الى مكان مهم في اعمال فاسكيز الذي يعتبره الكثيرون افضل كاتب كولومبي على قيد الحياة. "تدور احداث رواياتي هناك ولو جزئيا على الاقل"، هذا ما قاله فاسكيز متحدثا في منزله الذي يقع شمال العاصمة بوغوتا التي عاد اليها بعد 15 عاما امضاها في اوروبا ليزور مجددا شوارع لا كانديلاريا الحجرية ويعيد قراءة اعمال قتل بشعة وقعت هناك. وقد غير هذا المكان تاريخ البلاد في الواقع إذ اغتيل فيه الزعيم السياسي الشعبوي خورخيه اليسير في عام 1948، وانتحر في احدى زواياه شاعر البلاد العظيم خوزيه اسونسيون سيلفا وكاد ان يفقد محرر اميركا الجنوبية الكبير سيمون بوليفار حياته في منعطف آخر منه. ويعود فاسكيز ايضا الى المكان الذي قال له والده إن اوريب اوريب قتل فيه باستخدام فأس. ويقول "اسميها جولة الموت، وهي جولة كئيبة جدا".&
ومع ذلك لا يمكن القول بأن فاسكيز رجل ظلامي ففي مطبخه يمكن رؤية سبورة وقطع طباشير ورسومات حديثة خطتها إحدى بناته. وفي اليوم الذي تحدث فيه في هذه المقابلة مع صحيفة سيتي بيبر ارتدى فاسكيز قميصا أزرق خفيفا بلون السماء يكاد يلائم أيام اجازة على ساحل البحر اكثر منه العاصمة الجبلية بوغوتا. ولكن جولة الموت التي يجريها فاسكيز تؤكد من جديد الاهمية التاريخية لمكان له حضور قوي في ذاكرته طفلا اكثر مما في حياته الواقعية. وقد كتب في روايته "صوت الاشياء الساقطة" التي حصلت على جائزة نيويورك تايمز لاكثر الكتب مبيعا في العالم "كانديلاريا، في حقيقته، مكان خارج الزمان". وبينما تمثل كولومبيا التي ولد فاسكيز في عاصمتها بوغوتا مصدر الهامه تبقى لا كانديلاريا الزاوية الوحيدة في البلاد القادرة على إثارة خياله، فهو المكان الذي اطلع فيه اولا على تاريخ كولومبيا وأطر من خلال عدساته محاولاته لاعادة اكتشاف بلده اليوم. وكان خوان غابرييل فاسكيز، حاله في ذلك حال كبار الروائيين، قد اضطر الى مغادرة بلده بعد أن جذبته باريس بأنوارها وفنارها ليكون مثل آخرين سبقوه اليها من امثال همنغواي وجويس ووورتن وفيتزجيرالد ودوس باسوس وميلر. وكان حينها في الثالثة والعشرين من العمر فقط حيث سجل اسمه لدراسة دكتوراه في جامعة السوربون رغم ان الأمر لم يكن لغرض الدراسة قدر ما كان لغرض الحصول على إقامة في هذه المدينة المقدسة ادبيا. ويقول "اردت ان اتبع آثار اشخاص كنت معجبا بهم. أردت أن أقلدهم" ثم ما لبث أن كتب ونشر روايتين هناك في تسعينات القرن الماضي وهو ما حقق له حلمه مبدئيا إذ حصلت احدى الروايتين على اهتمام. ومع ذلك لم يشعر الروائي بالرضا لأنه وإن كان قد تحول الى كاتب محترف إلا أنه لم يشعر انه كان كاتبا ناجحا بالفعل بل شعر بأن ما نشره لم يكن اكثر من بروفا في انتظار عرض نهائي متكامل. ويقول "ادركت ان بامكاني كتابة جملة ولكنني لم أكن اعرف عما اكتب... لم يكن لدي اي موضوع". وكانت تلك فترة ازمة إذ بدأ فاسكيز يشك في نتائج حياته ككاتب ولكنه كان متأكدا من امر واحد في الواقع وهو ان ايامه في باريس قد انتهت. وهنا غادر خوان غابرييل باريس الى بلجيكا قبل ان يستقر بعدها في برشلونه التي اختارها لسببين: الاول هو دورها في ازدهار ادب اميركا اللاتينية قبل ذلك باربعة عقود وثانيا لان العظيمين اللذين حاز كل منهما جائزة نوبل للاداب، الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والبيروفي ماريو فارغاس يوسا عاشا هناك ايضا. ثم هناك سبب آخر عملي وهو أن الحياة في برشلونه أرخص بالنسبة لشخص يعتمد في موارده على ما تدره عليه كتاباته باللغة الاسبانية. وكان فاسكيز يعيش حالة قلق في تلك الفترة سببها أنه كان يعرف ان على كتاباته ان تركز على بلده كولومبيا ولكنه كان يدرك أيضا بأنه لم يكن يعرف حقيقة بلده تماما. وكانت مقولة ارنست همنغواي بإن المرء لا يمكن أن يكتب إلا عما يعرفه مغروسة في قلبه. ولكن، بعد وقت امضاه في التأمل وفي التفكير توصل الى اكتشاف سيرسم خطوط حياته لاحقا. ويقول "بدأت ادرك ببطء بأن عدم معرفتي الكاملة ببلدي وعدم فهمي لبلدي هما افضل دافع للكتابة عنه. ما كنت اعتبره نقصا، ما كان نقصا في الواقع بل هو سبب يصنع من الأديب أديبا، ذلك انه لا يمكن كتابة روايات عندما يكون المرء عارفا ومتأكدا تماما مما يعرضه للعالم بل كتابة الروايات فعل اكتشاف". وبعد فترة حيرة وبحث واكتشاف استقر فاسكيز على فكرة الكتابة عن شخصيات مهووسة باكتشاف ماضي كولومبيا. ويقول "منذ رواية <المخبرون> تأخذ رواياتي دائما، وبطريقة وبأخرى، شكل تحقيق" ويضيف "يذهب الرواة في كتبي دائما الى اماكن لا يعرفونها ثم ما يلبثون ان يكتشفونها".&

البحث متعة
وكانت المخبرون اول رواية له تترجم الى الانكليزية وهي تركز على الجانب المظلم والمغمور من تاريخ كولومبيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية عندما تعرض الالمان الذين يعيشون في البلاد الى الاعتقال والاحتجاز والى مصادرة املاكهم على يد الحكومة. ولم يكن فاسكيز على علم بهذه الفعلة المشينة حتى اخبرته امرأة مسنة خلال زيارة عائلية في عام 1999 بأن والدها الذي كان يحمل جوازا المانيا وكان يهوديا أيضا كاد ان يسجن. ويقول فاسكيز "في تلك اللحظة عرفت ان لدي قصة". وبعد ذلك بحث الكاتب عن الوقائع الحقيقية كي يمزجها مع الخيال الروائي ليكتشف ان العثور على وثائق منسية والبحث في ارشيف صحف قديمة كان امرا رائعا. وقال "الانكباب على دراسة ورقة قديمة يمثل متعة ما بعدها متعة بالنسبة لي". وتتبع روايته "صوت الاشياء الساقطة" طريقة بناء مشابهة لتحقق عند نشرها صدى عميقا وواسعا ولتمنحه الشهرة الادبية الحقيقية التي كان يسعى لها. &

حقبة سوداء وانفجارات
تدور احداث القصة في اربعينات القرن الماضي اي انه لم يكن موجودا حينها ولكن الفترة التي شهدت انتقاله من يافع الى بالغ كانت حقبة سوداء في تاريخ بوغوتا التي جعلت منها حملة امبراطور المخدرات بابلو اسكوبار مكانا يمكن ان تتحول فيه اي سيارة او اي زاوية الى انفجار. ويقول فاسكيز "عشنا خلال ذلك العقد في مدينة كان لا يمكن التنبؤ بأعمال العنف فيها، بين تفجيرات بالقنابل واطلاق نار في الشوارع ولم يكن احد يدري إن كان سيعود سالما الى بيته في المساء". وامتد العقد الذي تحدث عنه فاسكيز بين اغتيال اسكوبار لوزير العدل الكولومبي رودريغو لارا بونيلا في عام 1984 ومقتل اسكوبار نفسه في عام 1993. وفي كتابه صوت الاشياء الساقطة، عاد فاسكيز الى تلك السنوات وأعاد النظر فيها وكان يشعر بعدم يقين وعدم اكتفاء بما حملت ذاكرته من مفردات وأحداث ومواقف ولذا كان يهاتف اصدقاءا وأقارب ليتأكد مما حدث وليرى إن كان هناك تطابق بين ذكرياته ورواياتهم. ويقول فاسكيز "اتذكر ثلاث مرات على الاقل حدث فيها أنني كنت في منزل شخص آخر عندما اغتيلت شخصية سياسية مهمة ليتم الاعلان بعدها في الحال عن فرض منع التجول" ثم يضيف "كان عليك ان تختار بين ان تمضي الليل في مكان لا تعرفه مع اشخاص لا تعرفهم او ان تحاول الوصول الى بيتك". وينقش فاسكيز ذكريات تلك الايام في احدى فقرات رواية صوت الاشياء الساقطة حيث يتابع الراوي مذيعا تلفزيونيا يتحدث عن اغتيال مرشح للرئاسة. ويقول فاسكيز "على شاشة التلفزيون شاهدنا صورة الضحية باللون الأبيض والاسود مع تاريخ ولادتها وتاريخ وفاتها الحديث. ولم يكن أحد يسأل لماذا قتل هذا الرجل او من قتله لان مثل هذه الاسئلة ما عادت تعني اي شئ في مدينتي".&
&
هو وغابو
يعتبر خوان غابرييل فاسكيز افضل كاتب كولومبي حي وهو لقب كان يحمله غابرييل غارسيا ماركيز لنصف قرن من الزمان ولحين وفاته في عام 2014. وخلال تلك الفترة، حاله في ذلك حال كل من يعبث بالقلم في هذا البلد، كان فاسكيز يعيش في ظل ذلك العظيم الذي يسميه الناس "غابو". وكان كتاب ماركيز العملاق "مائة عام من العزلة" عظيما الى درجة أن المكان الوهمي الذي يحمل اسم ماكوندو اصبح اكثر شهرة من عدد مهم من الأماكن الحقيقية في اميركا اللاتينية. ورحل غارسيا ماركيز قبل عامين حاملا معه جائزة نوبل للاداب و30 مليون نسخة بيعت من كتبه، وهو وإن لم يكن من ابتدع الواقعية السحرية إلا أنه كان افضل من طوعها وتحكم بها. وبمرور الوقت تحول اسلوبه في الكتابة من تقليد أدبي الى علامة مسجلة لبلاده وسرعان ما اصبح تعبير "الواقعية السحرية" شعارا تسويقيا لكولومبيا حتى أن مجلس السياحة الرسمي يستخدم هذه الجملة للترويج للسياحة في مختلف مناطق البلاد.&
ولكن .. هناك ايضا وجود صعب وحياة مريرة عاشها الكولومبيون على مدى العقود الاخيرة، وهي امور حقيقية وملموسة تماما، وهذه ايضا هي كولومبيا التي يكتب فاسكيز عنها. ورغم أن غابو العظيم تطرق اليها ايضا في رواياته إلا ان الاختلاف بين الاثنين يكمن في التقنية الادبية المستخدمة. ويقول فاسكيز "لو أقررنا بأن جزءا مما تحققه الروايات العظيمة هو انها تفتح ابوابا امامنا للوصول الى اماكن لم نزرها سابقا، وهذا ما أنجزته الواقعية السحرية بالتحديد"، وأضاف "هذه الواقعية السحرية مكنتنا من رؤية عوالم أخرى وزيارة اماكن ما كانت موجودة قبل ذلك. فلا أحد كان قادرا على الذهاب الى تلك الاماكن التي عرضها غارسيا ماركيز في رواية مائة عام من العزلة". ومن الجدير بالذكر هنا أن فاسكيز من المعجبين جدا بغابو ولكنه يعتقد انه وإن كان شريكا في الوطن مع كاتب آخر فلا يعني ذلك ان عليه أن يرث اسلوبه في اكتشاف العالم بالكلمات. ويقول "غارسيا ماركيز نفسه هو افضل انموذج على ان الكتاب يختارون من يؤثر فيهم … لم يبحث غارسيا ماركيز عن كتاب كولومبيين عندما بدأ يكتب بل نظر الى فولكنر وهمنغواي وكافكا. وبالطريقة نفسها، عندما بدأت البحث عن شياطيني وعن هواجسي ادركت بأن غارسيا ماركيز الذي كان سببا وراء تحولي الى كاتب، ما كان قادرا على اعطائي الاجوبة التي اريد، ولم يكن اسلوب الواقعية السحرية جوابا شافيا بالنسبة لي". وبدلا من ماركيز، حول فاسكيز اهتمامه الى كتاب آخرين منهم جوزيف كونراد وفيليب روث وماريو فارغاس يوسا - ثم الاهم، حول نظره الى لا كانديلاريا. ورغم ذلك، أدرك فاسكيز حقيقة ان ذكريات شبابه والضبابية المحيطة بما ترسب عن فترة مراهقته المتقلبة لم تكن قادرة على منحه كل ما يريد من اجوبة ومن يقين بل كانت حبلى بالاسئلة ايضا. وللحصول على الاجوبة ظل الكاتب ينقب في سجلات التاريخ الحقيقي وفي قعر ذاكرته نفسها ليتحول ذلك الى اسلوبه وطابعه ككاتب. ومن المعروف ان لاغلب الكتاب الكبار علاقة صراع مع بلدانهم ومدنهم إذ نراهم يغادرونها لاكتشاف العالم قبل العودة اليها من جديد. وقد سار فاسكيز في هذا الدرب ايضا وكان في الثالثة والعشرين من العمر فقط ليدرك بعدها ان ما فعله مجرد تقليد. ومع ذلك زودته جولاته خارج بلاده بغذاء ادبي خاص ومكنته لاحقا من استخدام كلماته في مساعدة اشخاص في كل مكان في العالم في اكتشاف بلد له تقاليد تسامت، لا على العنف فحسب، بل وعلى الواقعية السحرية ايضا.&