بعد تسع سنوات (2007-2016) من تنقيب والمساءلة في عالم اللؤلؤ؛ تكتب الشاعرة والفنانة التشكيلية والروائية ميسون صقر روايتها الثانية "في فمي لؤلؤة" مضمنة إياها ست مغاصات، استغرقت ستمئة صفحة من القطع المتوسط. وتتناول عالم صـيد اللؤلؤ وحياة الغواصين على مراكب الصيد، وترصد المفارقة ما بين بريق اللؤلؤ الذي يشع من أعناق النساء وظلمة المغاصات وبؤس حياة جالبيه.
لا تكـتـفي الرواية بحياة البحر لتوثِّق تواريخ الغوص وطقوسه فقط، بل تقدم رؤية لحياة الإمارات خلال زمن صيد اللؤلؤ في خيوط سرد متوازية، فتتنقل بين الحصون ومزارع الإبل ومناطق البدو ومدن الصيد وخيام الغواصين وجبال الشحوح، وتحتفي بخصوصية كل مجموعة، وتقدم بين ثنايا القصة المتخيلة شخصيات وأحداثا من الواقع تصل إلى حد التأريخ في بعض المواضع.
والـرواية لا تتـحرك فقط في المكان ولكـن بالتوازي تقدم عالما معاصرًا في الزمن الراهن &لـفتاة مـن الإمارات تدرس وتعيش في القاهرة وتسافر إلى وطنها من أجل بحث يفتح لها آفاقا وعوالم يتـداخل فيها الواقعي بالأسطوري والحقيقي بالخيالي، وتنفتح علـى رسائل ووثائق لرحالة ومستشرقين تضـيء مرحلة مهمـة مـن تاريخ الخليج وأطماع الدول الاستعمارية فيه.
وتسافر إحدى شخصيات الرواية في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى عوالم الهند الأسطورية ؛ لتعرفنا بمدن يعيش فيها عرب وأبناء عرب تزوجوا من هنديات، وبين تمرد الشخصية النسائية المعاصرة على حياتها وتمرد نساء من زمن مضى، و تقف الرواية على محك الإرادة في صراعها مع الواقع الاجتماعي والسياسي، لترصد لنا ملامح تلك المدن وهي على عتبة الخروج من عصر اللؤلؤ إلى عصر الزيت، حيث لا تجد الأحلام الوادعة مكانا لها، وحيث تصبح أشياء كثيرة غير ذات قيمة في العالم الجديد.
الرواية التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية يجيء غلافها حاملا صورة الفنانة العالمية الشهيرة مارلين مونرو وهي تتقلد عقدا من اللؤلؤ، كان زوجها الثاني قد أهداه لها، وهو من إنتاج دار "ميكيموتو اليابانية" المتخصصة في اللؤلؤ المزروع، ومكوَّن من "أربع وأربعين لؤلؤة"، وقد اشترته الدار وسُمِّي باسمها. وقد افتتحت بقول لـ "روبرت براونينج" (1812-1889) "هناك لحظتان في مغامرة الغوص، واحدة يكون فيها متسوِّلا وهو يستعد للغطس، وواحدة يكون فيها أميرًا حين يطفو حاملا لؤلؤته". وقال عنها الناقد والمفكر د.جابر عصفور "الرواية تحكي عن العالم الخارجي وتحكي عن تشكلها من حيث هي رواية في علاقاتها أو علاقات أبطالها بهذا العالم الذي يتولد منه كل شيء في عالمها السردي".
قالت ميسون صقر حول الأفكار الأساسية لروايتها "قديما كانوا يضعون اللؤلؤة في فم الميت، لكن الصينيين والآسيويين كانوا يكرهونها، ويفتحون المحار ويأكلون ما بداخله ويأخذون اللؤلؤ ويرمونه كأنه حصاة، بدأت أبحث عن فكرة اللؤلؤ في التواريخ القديمة فوجدت أن كيلوبترا طحنت لؤلؤة أمام أنطونيو تفاخرا بأنها تشرب ثمن مملكة في كأس نبيذ واحد، ثم وجدوا القرط الثاني وأعطوه قربانا للآلهة فينوس، كثير من الحكايات حول هذه اللؤلؤة التي لا تكسر ولا تشكل لكنها شكل واحد يم ثقبها ثم وضعها في عقد أو سلسلة أو أي من الحلي، وكانت أهم اللالئ تظهر من ساحل اللؤلؤ الذي هو ساحل الامارات، وكان من أهم اللالئ التي ظهرت الالئ تلك التي زينت عنق الفنانة العالمية إليزبيث تايلور وأحد مهراجات الهند الذي وضعها على عمامته، وكان الشيخ زايد رحمه الله كان قد أهدى عقدا منها لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، كان هناك عقد اسمه الكمزار تم بيعه بمائة روبية فأصبح بعد سنوت طويلة بملايين الدولارات".
وأضافت "هكذا أصبحت هناك قصص كثيرة حول هذه اللؤلؤة ونسوا الإنسان الذي جاء بها من أحشاء البحر، نسوا المراكب التي ذهبت ولم تعد، نسوا هذا التاريخ الذي نعتز به في داخلنا ويكوّن قديما ومن القديم نخلق الجديد، لا يمكن للمرء أن يكون بلا تاريخ أو ذاكرة، فبدأت أكتب عالمين عالم قديم: الصيد والغوص والرحلات والبحث عن اللؤلؤة وكيف يغوص الصيادون وتثقف آذانهم ويمرضون بداء التنفس ولا يستطيعون المشي من كثرة الارهاق، ومن يضعون اللالئ على ملابسهم افتحارا به، هناك كثير من البوذيين جعلوه فقط للعبادة وفي أوروبا وأمريكا جعلوه حليا لأزياء الأمراء والملوك، ثم كانت هذه اللؤلؤة الوحيدة التي وضعها غوص داخل فمه فقتل من أجل أنه اختص لنفسه لؤلؤة وحيدة، من هنا بدأت هذه الرواية وقد قسمتها إلى خمس أقسام، خمس مغاصات، كل مغاصة أربع أقسام كل قسم يتناوب بين القديم والحديث، ومن كل هذا صنعت حكايتين حكاية عن البحث عن اللؤلؤ والتاريخ، حكاية قديمة، كيف حصلوا على اللؤلؤ وكيف سقط مع الياباني ميكوموتو الذي صنع اللؤلؤ وتقلدته عقدا منه مارلين مونرو فانهارت فكرة تاريخ اللؤلؤ، بل إنه مع ظهور اللؤلؤ المزروع وما تبعه من انهيار الاقتصاد انتهى تاريخ الغوص والبحث عن اللؤلؤ الطبيعي، لقد بدأ تاريخ آخر من الاستعمار الآخر في أشياء أخرى مختلفة، هو يعلي سعر الشييء ثم ينهبه بالكامل ثم يسقطه ليبني تاريخا اقتصاديا جديدا لينهار ليضع استعمارا آخر وهكذا.
وأوضحت في عالمين، وهما العالم الأصلي المتعلِّق بالصيد والغوص والرحلات والأذى الحسي والنفسي الذي يطارد الغواصين، ثم الثاني وهو العالم الافتراضي الوهمي الذي يعيشه الأثرياء والفنانون، الذين يقتنون اللؤلؤ وتلاحقهم لعناته الخفية. وقالت إن روايتها "تحمل إسقاطات عديدة حول تعاقب المحتلين والمستعمرين لأرواحنا وذواتنا وبلداننا منذ الأزمنة القديمة وحتى اليوم، ولكن بأشكال وصيغ مختلفة " .
وأضاف "في الرواية مزيجا من الشعر الشعبي والحكايات القديمة والجديدة، حكايات من كتب من الشعراء وأبرز من كتبوا عن اللؤلؤ، إن الرواية حصاد سبع سنوات من البحث والقراءة والتأمل، وقد جرصت على أن يكون هناك بنهاية الرواية &هامش بأسماء اللؤلؤ وأشكاله".
و"ميسون صقر" كتبت روايتها هذه بمنطق أنه ليس على الشواطئ غير الزبد، ومن ثم عليها الغوص عميقًا؛ كي تصل إلى لؤلؤتها المكنونة، في إشارةٍ أوردتها لجلال الدين الرومي: "فإن تطلب اللؤلؤ عليك بالغوص في عمق البحر، فما على الشاطئ غير الزبد".&
وتكاد ميسون صقر لم تترك شاردةً ولا واردة حول اللؤلؤ إلا واصطادته، مؤمنةً بما جاء في الكتاب المقدَّس، العهد القديم، إصحاح أيوب "تحصيل الحكمة خير من اللآلئ"، وإذا كانت هذه الرواية هي رواية لؤلؤ، فهي في الوقت ذاته رواية حكمة، فالكاتبة في مغاصتها الرابعة المعنونة بـ "العنف والوَلَه" تعود إلى الآيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين من سُورة الواقعة لتصل إلى ذُروة الحكمة "وحورٌ عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون". ثم تعقبها بحكاية تشير إلى البحث المعرفي داخل النصّ الروائي الذي يعيد الكاتبة روائية للمرة الثانية، التي تبحث دومًا في رحلتها الإبداعية عن مصادر الغواية والفرادة والاختلاف، بحكم تكوينها الثقافي وبنائها المعرفي:
"قرأ شداد بن عاد الأول عن الجنّة في الكتب القديمة، فأعجبته بما فيها من قصور وأشجار وثمار، دعتْه نفسه إلى أن يبني مثلها في الدنيا. فأمر ببناء مدينة مبانيها من ذهب وفضة، وحصاؤها من اللؤلؤ والمسك والعنبر والزعفران، تقام قصورها على أعمدة من الزبرجد والياقوت كما في الجنة. وغرس تحت تلك القصور وفي شوارع المدينة أنواعًا مختلفة من الأشجار المثمرة، أرى من تحتها الأنهار في قنوات من الذهب والفضة، واستغرق بناء هذه المدينة ثلاثمائة عام. وكان قد بلغ من العمر تسعمائة عام. عندما بلغه أن مدينة "إرم ذات العماد" قد بنيت، رحل مع نسائه وجواريه وخدمه ووزرائه وجنوده، وسار بهم في موكب عظيم، حتى إذا لم يبق بينه وبين "إرم" إلا مرحلة واحدة، أرسل الله عليهم الصيحة، فأهلكتهم جميعًا".
قدمت الكاتبة روايتها بما يفتح أفق الرُّوح الصوفية على القراءة "كأنّ للموت جمالياته هنا، مروحة تتهادى مع الموج، رحلات الموتى في الذهاب إلى القاع، الرحلة الأخيرة للغوّاص، يذهب فيها ولا يعود بلؤلؤة أو محارة، يذهب ليصبح حارسًا للمغاصات التي نبشت. تقول المغاصات: هنا كانت يدٌ تقطع محارًا؛ لتأخذ لؤلؤة لامرأة غريبة. لكن البحر رغم ذلك كان كريمًا، هم يأخذون لؤلؤه، وهو يقبل جثامينهم دون اعتراض. هل اعترض يومًا؟ كلَّا. لم يعترض، بل كان يحاورهم؛ كي تظل فيه أجسادهم، فتنفد أنفاسهم ويموتون، بينما يحاولون الصعود. فكلُّ خروج وصعود، حياة، كلُّ غطس وانغماس وانحباس نفس، موت مؤقَت.
كأن هناك لغةً سريةً ما بين الغوص والبحر، تنسجم فيها الأرواح بين متاهة الرؤية واندياحات الموج، بما يزيح معه ويضيف إليه. كأنها الأمواج كلما تداخلت وانكسرت، شَفَّت عن لغة سرّية لا تطاوع أماكنها إلا بذبذبات طفيفة في سكون العمق وسطوته الأخاذة.. قوة وحكمة تسمعها بقلبك، لو صمتَّ قليلًا، قوة الخلق من عمق الماء السائل لؤلؤة فريدة، تخرج، لتضيف حكمة إلى المال الطاغي. وزيادة في جماليات الموت والجبروت والتاريخ المنساب مع مياه ذاهبة عائدة، وأرض لا تثبت فيها قدم إلا لترحل، حاملة معها ثروة، وتاركة مكانها "لا أثر" ليبقى مكانه.. حتى جثامين من رحلوا، لم يبق منهم إلا عظام، قد لا تستقر مع حركة المدّ والجزر. الموت العضوي هنا يتضح في تحلُّل الأشياء إلى مياه، في تحلُّل العواطف إلى سائل، في تحلُّل المواد إلى مادة حيّة، قد تخرج منها لآلُئ عظيمةٌ بعد ذلك".
ولفتت ميسون صقر إلى أنها استغرقت منها سبع سنوات من المغامرة اللغوية، والقراءة، الغوص في الذات وتحولات المنطقة، والبحث المضني في أرشيفات البحر والأساطير ورحلات الغوص والمواويل البحرية والشعر الشعبي المتعلق بجماليات اللؤلؤ، وكذلك ملاحقة مراحل صعود وانهيار تجارة اللؤلؤ على يد المخترع الياباني "ميكوموتو" الذي ارتدت الممثلة المنتحرة مارلين مونرو إحدى قلائده الصناعية، وهي الممثلة التي تظهر على غلاف الرواية بالقلادة ذاتها، إمعانًا ربما من ميسون في تفكيك العلاقة المعقدة بين الأصيل المنسي وبين الزائف الحاضر.
وأوضحت ميسون أن الرواية تفصح عن مغامرات وعذابات وأفراح وأتراح الغوَّاصين الذين نسيهم الجميع، وذابت أرواحهم في قيعان التعب، كما نسى المؤرخون المراكب التي ذهبت إلى أقاصي الحلم ولم تعد، ونسوا التاريخ الذي نعتز به في دواخلنا كأناس معنيين، وبشكل جذري، برحلات الغوص وبمعاناة الرجال الذين تقبّل البحر جثامينهم دون اعتراض.
&
ولدت ميسون صقر في الإمارات، وجاءت إلى مصر في طفولتها المبكرة ، حيث درست كل مراحلها التعليمية في القاهرة ، وتخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من قسم السياسة بجامعة القاهرة. وعملت في المجمع الثقافي بأبوظبي في مركز الوثائق ، ثم في مؤسسة الثقافة والفنون كرئيس لقسم الثقافة ، ثم لقسم الفنون ثم أنشأت قسمًا للنشر بما فيه من عقود ونظم ومستشارين وطبع خلال فترتها الكثير من الكتب المهمة المترجمة والمؤلفة، ثم أصبحت رئيسًا لقسميْ النشر والفنون؛ فأنشأت قسم النشر ، كما أنشأت وأقامت مهرجان الطفولة الأول والثاني.