&

&
تديرُ الشاعرة المغربية نجاة الزباير وجهة قصيدتها نحو آفاق متعددة، وجهات جمالية تنبع من صوت الأنا الشاعرة، وصمتها أحيانا. هي لا تكتب من خارج التجربة. أعني أنها لا تصف موضوعا من الخارج أو حالة شعرية متباعدة، لكنها تسكن في قلب كتابتها، وتحيل الكلمات إلى إشارات ذاتية تكونها في سياق يفضي إلى نص شعري مختلف .&
في ديوانها :" خلاخيل الغجرية " ( منشورات أفروديت، الرباط) تقدم الشاعرة خمسة عشر نصا يحتضنهما عنوانان داخل الديوان الأول: وَدَعُ الصبابة، والثاني: فنجان الوطن ، يضم العنوان الأول 10 نصوص والثاني الخمسة المتبقية.&
ترسم الشاعرة بداءة من جملة العناوين العامة للديوان وتقسيمه، حالة من الأسطرة الصغيرة، فالشاعرة تسمي الديوان ب" خلاخيل الغجرية" وهي تسمية تومىء لهذه الشخصية الشعبية الموغلة في شعبيتها، بزيها وخلاخيلها، وغالبا تأتي هنا في هذا السياق لتشكل شخصية:" العرافة" التي تقرأ الطالع من خلال: الودع (الصدف) الذي ترميه على الأرض أمامها ومن شكل رمْيته وشكله على الأرض تقرأ – أو تظن كذلك- ما يأتي وتتنبأ به، كما تقرأه من خلال الفنجان.&
هنا نحن حيال مجموعة من الدوال المتآلفة التي تمضي إلى الرؤيا والتنبؤ:" الغجرية ، ودع الصبابة، فنجان الوطن) الغجرية هي القارئة وهي العرافة المتنبئة، وهي الرائية، وتحضر الشخصية هنا لتحملها الشاعرة قدرا من الإسقاطات سواء عاطفية وجدانية ( الصبابة) أم واقعية موضوعية ( الوطن) . ومن خلال قراءة الغجرية لهذين الأفقين سنرى كيف قرأت؟ وما الذي فجرته من رؤى ؟.&
&
رؤى غجرية:&
تستهل الشاعرة بقصيدة مطولة بعنوان:" الغجرية" تتضمن (36) مقطعا شعريا، وتستغرق الصفحات ما بين 7-23 . في هذه المقاطع المكثفة القصيرة، تقلنا الشاعرة إلى عالم الغجرية بكل خرافيته وحيويته ورؤاه، حيث الإشارات لهذا العالم مازجة إياها بقبيلة الحروف، وعالم الكتابة، منتقلة إلى الغرفة والفضاء والغيمة والكون الخاص المسافر سرا، حتى تصل إلى الصحراء العالم الأثير للغجرية:
أيتها الصحراء
لوني قمحيّ
يداعب وشوشاتك
دعيني أكبر في خيامك
أنتظر قسماتك&
لعلي أراني
فهذا الضياع ثائر فوق جبيني
يجرني سبية بلا إشارات
فكيف أطوف بأقداح الضوء
والظلمة تعبر رصيف ذاتي
تخنق قلبي المتهالك.&
وفي حوارية أخرى تخاطب بشكل تجريدي نفسها:
كيف جئت؟
قالت ينابيع تدفقت من خلجاتي
لم أجبها
أبحرت في يمّ السؤال
ووضعت وسادة ساحرة صغيرة
كي أطير نحو الشمس
لكن قلادة غجرية
قيدت هشاشتي
ورمتني في مدارك&
&
تتسم معظم المقاطع بغرابة ما، وبدلالات ضالعة في الرؤيا، فالغجرية ترى وتبوح عبر الغياب، وهذا الغياب يحقق قدرا من الحوارية الشعرية بين حضور ما وغياب ما. الغياب هو الوجه الآخر الذي تستنطقه الشاعرة للحضور، والحضور الجلي بالتأكيد في هذه العبارات الشعرية التي تستقصي أبعد وأعمق، وتعبر فيما تعبر عن تجلي الذات الشاعرة ووجودها:
ها هي المدينة التي غلقت شفاهها&
تترك فوق صدري تطريزها
تخبىء في عيني خلاخيلها
لكن موسيقى الغياب
تشعل في لغتي حربا
يا لهذا الغضب&
يهاجر في عطري
سيفا من لهب
فلا أرى غير ملامح التعب.&
تتكىء بنية القصيدة على جملة من المشاهد التي تصور حالات الغجرية أو تعبر عنها أو تتكلمها. الشاعرة قد تتقمص أحيانا قد تتحاور قد تبوح وتكني وتشير، وهي في ذلك تستلهم هذه الأجواء والطقوس الغجرية ناظمة مساحة من الرؤيا التي تشارف بها الذات والواقع، وتشارف الأبعاد القصية للكلمات التي تتشح بسحر خرافي أو بمناخ غرائبي، صنعته هذه الأجواء التي ينظر لها غالبا على أنها أجواء خارجة على المنظومة والتقاليد الاجتماعية.&
إن الشاعرة تكتنز هذا كله، لتقدمه لنا شعريا في مشاهد متآلفة تشكل رؤية جمالية عامة للغجرية التي تتنقل من مشهد لمشهد وفي كل مشهد إضاءة أو إضافة أو حالة جديدة:
ها أنا أنتعل حذاء التيه
وأركض بين الغرباء
لهم عادات قديمة
يطوفون حول نار الانكسار
ويعزفون العشق
فوق كمنجات المعنى.&
من المؤكد أن الاستعارات التي تزجيها الشاعرة رابطة بين عالم الغجرية وعالم الكتابة ، تحدث انتصارات دلالية جلية في صياغة بنى المعنى. سيكون للمعنى كمنجات، وإيقاعات تذبح معناي، وأهداب الوجود تجذب ، ومع تكاثر الاستعارات في المقاطع تبدي الشاعرة قدرا من التناصات التلقائية مع الموروث، كما تضيء خلفيات مقاطعها ببعد صوفي لتكتمل غرابة المقاطع وخرافيتها وعنايتها بالغياب ودروشة العبارة إذا صح التعبير.&
لا تخف&
مازلت سيدة ترسم هواك
فوق جدار الفصول
فتطير صورتك في كل الجهات
تلمس تراب كل الأوطان
وفي جيب سترتي الحالمة
تنام عرافة
تتلو كل شيء بصوت خافت
فتغدو الأماني الضريرة
أسطورة نبيذية
والبساط المسافر في طالعي
يفرش أوطانه كي يفهمك
فتمسك بنهر الهوى
عساه من الحزن يغسلك .&
&
أعود لتراتيل الآتي
كي أعانق أنات الأرض
متى تنضح الرؤيا&
كي أعرف وجهتك
&
معرفة الوجهة والجهات شأن حدسي، يروم هذه المعرفة كي يصل للآخر، والشاعرة تستقطر وجهات نصها، حتى تغدو الأماني الضريرة أسطورة نبيذية. الأماني لا تحدد وجهتها هي غير معروفة، هي ضريرة لا ترى ولكنها تنتج، بغض الطرف عما إذا كان هذا الإنتاج مقبولا أم غير مقبول ، فمن المهم أن يكون ثمة نتاج. وعلى هذا الحذو فإن النص الشعري ما لم يكن منتجا تماما، بغض النظر عن قيم عليا أو دنيا جاءت بها التجارب الشعرية السابقة.&
&
نجوم السريرة:
كيف تضيئ الشاعرة بكلماتها الآخر، كيف تصل إلى تحديد نجوم سريرته، ومكامنه كما تعبر في أحد المشاهد. إن الشاعرة تدخل كون الآخر ، تنقيب في طبقاته، بفعل أركيولوجي شعري ، وتبحث في الماوراء داخله في مفارقة تبرهن على ثنائية:" الحضور/ الغياب" وعبر هذا الملمح الرحب يتسنى لنا أن نقرأ هذه المطولة المكونة من 36 مقطعا، حيث هذا الزخم من الصور والتعبيرات ، حيث الحنين لا يهدأ، في بحث موار عن كينونة الآخر:" إلى أي مدينة سأمضي والرمال تغمس ندوبها في حلمي/ كيف تراني سأفهم مزاميرك/ تهت مرات لكن خيوطا من اهدابك تقاسمتني فكيف أنام؟ وهذا الهذيان يجثم فوق حبري؟ بي دوار يركب المدى، يضعني في قصر من سراب، فأغدو متسولة بعضا من عطاياك/ لا تخف مازلت سيدة ترسم هواك فوق جدار الفصول فتطير صورتك في كل الجهات) .
إن الشاعرة تبحث في كل الجهات لعل الرؤيا تتضح، كما تعبر في أحد المقاطع، وهذا البحث يجعلها توسع من أفق الدلالات الشعرية، ومن أفق الحقول الدلالية في القصيدة ولا تكتفي ببث عالم رومانتيكي حالم بل تأخذ الآخر هناك إلى أراض جديدة وأسئلة جديدة، تسعى للإحاطة بكونه الغامض، واستقطار حضوره في مختلف الأشياء والجهات.&
هاهي كل الاتجاهات تسمع حشرجات دمي
تشدني بخيط من هوس
هل رأيت كيف تخرج القصيدة
متوارية في وجعي؟
لكن مع هذا البحث الدائم، لا تصل الشاعرة لكنه الآخر تماما :" تركتني أهذي، فكيف أستمر في التنقل بين أدغال آثارك وقد أضعتُ خرائط الهوى؟" .
&
دلالات الفقد:
لا وطن يحتضن، ولا ذات تشعر باليقين. هكذا يمكن أن نسم هذه الدلالات المنبثة في نصوص الديوان، ومع أن الغجرية تبحث عن رؤى، وتنقب عن كشوفات، لكنها لا تصل ، ويظل الفقد قابعا في مختلف الوجهات، متسللا إلى جوهر الذات ومحركا مضامينها. إن الحزن دلالة جوهرية من دلالات الديوان، والشعور باللا جدوى قدر من أقدار الكتابة هنا، الكتابة المترعة بالتساؤلات، والمترعة بخيبات متعددة:
&
كيف أمشي كل هذه المسافات
والرياح تتلوى في الأفق؟
يا لهذا القلب الأخضر
تحصده مناجل التعب؟
&
إننا نستطيع أن نقف على دلالات متكثرة بالديوان تصور هذا الحزن وهذا الفقد:" كانت الإشارات تتسع وكنت أحاول اقتناص معناها، لكنني فشلت" و" لكن المسافات قيدت نبضي فلم أجدك ولم أجدني" . إن الديوان يحفل بمثل هذه الدلالات والتعبيرات، ولكن ما يعطي يقينا ما بحالة سمو الذات أو محاولتها السمو على ما ينجم من حزن أو فقد أو جراح متعددة أن الشاعرة تقلنا أحيانا إلى حزم تصويرية تجسد فيها الأشياء كأنها تحاورها، وتضع لها أعضاء وأطرافا مختلفة يدين وعينين وقدمين وتحركها كأنها تريد أن تخلقها وتبتكرها من جديد.&
هكذا في جل قصائد الديوان، خاصة: شوق يمزق أوردتي، واكتبي ما شئت والعني خطوي، ومزامير من سفر الصمت، وذبح فوق قصاصات عشقية.&
ولا تغيب حالة الفقد عن القصائد الخمس التي تتناول أوجاع الوطن العربي ، خاصة قضية فلسطين، والقدس،وغزة، تحت مسمى:" فنجان الوطن: الذي تقرأه الغجرية العرافة " البصّارة" قراءة رائية، لكنها لا تتخلص من الانكسارات والإحباطات على الرغم من بعض الإضاءات التي تزجيها من أجل التفاؤل بمستقبل مشرق وسط عتمات اللحظة. حتى لو كانت باستدعاء الماضي القديم الذي يتكئ فيه الإنسان العربي على جدار حضارته البعيدة.
&