في كتاب حمل عنوان:"السّيرة الفضاحيّة ،والمأساويّة لكونستانس وايلد" ،يستعرض الصّحفيّ والكاتب البريطاني جون موراي جوانب خفيّة من حياة زوجة الكاتب والشاعر الإيرلندي الشهير أوسكار وايلد الذي آشتهر في حياته بمغامرات ،وبفضائخ أخلاقيّة وجنسيّة قادتة إلى السّجن،وشوّهت سمعته في جميع أنحاء أوروبا.ويقول جون موراي إنّ كونستانس وايلد كانت شبيهة إلى حدّ كبير ببطلات التراجيديّات الإغريقية القديمة اللآتي آتّهمن مثل هيلانه ب"حرق البواخر،وتدمير الرّجال،وتخريب المدن".فقد وجدت نفسها مجبرة على تحمّل تبعات فضائح زوجها التي لم تكن تهدأ إلاّ لكي تلتهب من جديد .وكان أوسكار وايلد (1854-1900)قد آكتشف عالم الفضائح الأخلاقيّة في طفولته.فقد قام والده الذي كان جرّاحا بآغتصاب مريضة بعد أن خدّرها.وولم تكن كونستانس مختلفة عن زوجها في هذا المجال.فقد كان جدّها يحبّ ان يمشي عاريا أمام الأطفال الصّغار.أما والدتها فكانت شديدة القسوة معها إذ كانت تهدّدها بالحرق،وتضرب رأسها بالحائط عندما ترتكب خطأ طفيفا.وكان أوسكار وايلد وزوجته يتميّزان بطموح كبير للحصول على المجد ،والشّهرة.وفي بداية حياتها الزوجيّة لعبا أدوارا آجتماعيّة جريئة ،وحرّضا على التّمرّد ،والثورة ضدّ التّقاليد القديمة ،وضدّ الأفكار المحافظة.فقد كان صاحب"صورة دوريان غراي" يلقي محاضرات أمام النساء طالبا منهنّ التّخلّي عن كلّ ما يمكن أن يحدّ من حرّيتهنّ الشخصيّة.وأمّا كونستانس فقد آرتدت البنطلون الفضفاض ،وراحت تقدم في البيت العائلي حفلات خليعة أغاضت رجال الدين،والأوساط المحافظة.كما أنها شجّعت كلّ المبادرات الدّاعية الى فتح مطاعم فيها تتمكّن النّساء من التدخين،ومن الحديث حول القضايا المتّصلة بالحرية ،وبالإشتراكيّة ،وبغير ذلك من القضايا الكبيرة التي كانت تشغل المجتمع البريطاني في تلك الفترة.ويشير جون موراي إلى أن حبّ اوسكار وايلد لزوجه كان مصطنعا.وهذا ما تعكسه رسائله التي تكثر فيها البلاغة الكاذبة التي كان يتنّجبها في كلّ ما يكتب من شعر،ومن قصص وروايات.ولم يكن خافيا على كونستانس أن زوجها كان مغرما بمعاشرة الفتيان الوسيمين الذين كانوا يرافقونه طوال الوقت ،وبصحبته يحضرون العروض المسرحيّة،والموسيقيّة ،ويتردّدون على النوادي الأدبيّة وغيرها من النوادي.وعندما سجن بسبب فضائحه الجنسيّة ،ظلت كونستناس وفيّة له ،ولم تكفّ عن الإهتمام به ،وبأعماله الأدبيّة ،متصلة بالنقاد والباحثين لكي يولوها العناية اللّائقة بها.مع ذلك ،لم يعترف أوسكار لها بالجميل .وحال خروجه من السّجن سارع بزيارة عشيقه الفتى الإرستقراطيّ.وربّما لهذا السبب،آرتأت كونستانس آختيار عشيق ينسيها زواجها الفاشل ،ويبيح لها الإنتقام منه ،هو الذي كان يخونها جهارا مع الفتيان.وكان اوسكار وايلد المولود في دبلن ،والمنتسب الى عائلة مثقفة ،قد آنجذب مبكرا الى اللغات فتعلم اللاتينية واليونانية والفرنسية.وفي فترة الدراسة الجامعية ،لفت أ نظار أساتذته بسبب فصاحته المدهشة،وسعة آطلاعه،وميله الى آرتداء ثياب غير مألوفة في زمنه.وبفضل منحة دراسية،آنتسب اوسكار وايلد الى جامعة اكسفورد ليكون أحد طلبة الكاتب جون روسكين الذي كان يدعو الى البحث عن الجمال بعيدا عن كل القضايا المتصلة بالسياسة والمجتمع والأخلاق.وفي هذه المرحلة من حياته،آزداد اوسكار وايلد ميلا الى التقليعات الغريبة،الملفتة للإنتباه .فكان يطيل شعره،ويرتدي بدلات يعلق في عرْوتها زهرة قرنفل،أو زنبق،أو أقحوان ويضع ربطات عنق "لافالْيارة".وخلال تردده على الصالونات الأدبية في لندن ،عشق فتاة فائقة الجمال تدعى فلورانس بالكومب ،غير انها صدّته عنها لتتزوج من صديق له كان طالبا معه في "الترينيتي كوليدج" في دبلن.
ولم يلبث اوسكار وايلد أن حصل على الشهرة بعد أن أصدر مجموعته الشعرية الأولى التي آستقبلها النقاد بكثير من الحفاوة والتقدير،مُنوّهين بموهبة صاحبها.أمّا مسرحيته الأولى التي حملت عنوان:”فيرا والعدميّون"فقد مُنعتْ قبل عرضها.ويعود ذلك الى دفاعها الجريء عن حرية الشعوب في زمن موسوم بالإضطرابات والأزمات السياسية الناجمة بالخصوص عن الخلافات بين ايرلندا وبريطانيا الفيكتورية المحافظة والصارمة.
بعد رحلة الى الولايات المتحدة الأمريكيّة عاد بعدها ليقول بإنه لم يفعل خلالها غير "التبشير بعبقريته"،أمضى اوسكار وايلد فترة في باريس تعرف خلالها على الوجوه الصاعدة في الأدب الفرنسي من امثال أندريه جيد،ومارسيل بروست،وبيار لويس ،صاحب "أغاني بيليتيس".
وفي نهاية محاضرة ألقاها في دبلن،تعرف اوسكار وايلد على كونستانس لويد التي كانت آنذاك متحمسة لحرية المرأة، فتزوجها ،وأنجبت له طفلين، ومعا آستقرا في لندن ليصبح بيتهما الأنيق فضاء للسهرات الصاخبة التي كان يحضرها شعراء،وكتاب،وفنانون ،جلهم من المتمردين على التقاليد الصارمة في المجتمع الفيكتوري.ورغم الحياة المضطربة التي كان يعيشها ،تمكن اوسكار وايلد من ان يكتب قصصا بديعة للأطفال منها :”شبح كانتارفيل"،و"جريمة أرثر سافيل"،و"الأمير السعيد وقصص أخرى".وفي عام 1887،وبعد أن نشر الدراسة اللامعة عن "حقيقة الأقنعة عند شكسبير"،أصبح اوسكار وايلد رئيسا لتحرير مجلة"عالم المرأة" ليدافع من خلالها عن أفكاره المتصلة بالحرية ،وبحقوق المرأة ،وبمكانة الفنان في المجتمع.
وفي عام 1890،آزدادت شهرة اوسكار وايلد آتساعا بعد أن أصدرت مجلة أمريكية روايته "صورة دوريان غراي" التي تمجد الجمال في مواجهة الذبول والموت.وفي هذه المرة،شنّ النقاد الفيكتوريّون حملة شرسة ضدها وضد صاحبها بآعتبارها"مفسدة للشباب"،ومحرضة على "تشويه القيم الأخلاقية النبيلة".بل أن أحد النقاد نعتها ب"الحشرة السامة في مجتمع نقيّ وسليم".ولم يعبأ اوسكار وايلد بهذه الإنتقادات القاسية له ولروايته ،بل ردّ على خصومه بهدوء قائلا:”الكتاب،أي كتاب ،ليس أخلاقيا،أو غير أخلاقي.المقياس الوحيد هو أن يكون مكتوبا جيدا،أو بطريقة سيئة.هذا كل ما في الأمر".ولم يكن غريبا أن يهاجم النقاد الفيكتوريون رواية:”صورة دوريان غراي" بحدة .فقد تضمنت نقدا لاذعا للنفاق ،و"النبل الزائف" في المجتمع الفيكتوري.كما تضمنت رؤية اوسكار وايلد للفن ،والجمال.
وفي عام 1891،فتن اوسكار وايلد بجمال شاب ارستقراطي يدعى الفريد دوغلاس كان يدرس في جامعة اكسفورد،وكان آبنا للماركيز دو كوينسبير.وفي الصالونات والنوادي التي كان يرتادها،كان هذا الشاب يفاخربأنه قرأ "صورة دوريان غراي" تسع مرات.ومن فرط تعلقه به،أهمل اوسكار وايلد عائلته ليسافر معه الى الجزائر،والى ايطاليا ،والى أماكن أخرى.ولم يطق الأب المحافظ أن تتلوث سمعته بسبب سلوك آبنه.لذلك طالب بمقاضاة اوسكار وايلد بتهمة ممارسة اللواط.وفي الثاني عشر من شهر مايو -ايار 1895،حكم على صاحب "دوريان غراي" الذي كان آنذاك في أوج شهرته،بالأشغال الشاقة لمدة عامين.فكانت فترة السجن أسوأ فترة في حياته.مع ذلك ،تمكن من انجاز عملين مهمين:الأول رسالة مطولة الى الفريد دوغلاس.والثاني عمل شعري حمل عنوان :"الموشحات الغنائية لسجن ريدينغ".وفي هذه القصيدة المطولة التي ضمّنها رفضه لحكم الإعدام،عبّر عن أفكاره بشأن الحب،والحياة،وفيها آنتقد بشدة نفاق المجتمع الإرستقراطي في العصر الفيكتوري الذي يسلط عقوبات قاسية على كل من يجرؤ على تحديه،وتجاوز قواعده الأخلاقيّة الصارمة.
في هذه القصيدة البديعة،نقرأ:
كان يسير بين المتهمين ،
مرتديا ثوبا رماديّا رثّا،
ومُعْتمرا كاكسيتة كريكت
خطوته تبدو خفيفة مرحة
مع ذلك لم أر رجلا ينظر مثله
الى النهار بعين جدّ حزينة
أبدا لم أر رجلا ينظر مثله بعين جدّ حزينة
الى الإفريز الأزرق الصغير
الذي يُسمّيه المساجين سماء ،
والى السحب التي تدفعها الرياح
محاطة بغلالاتها الفضيّة.
&
وبسبب فضائحها وفضائح زوجها،آضطرت زوجة اوسكار وايلد الى مغادرة بريطانيا لتستقر في المانيا بصحبة آبنيها.وهناك توفيت في ربيع عام 1898 وهي في الأربعين من عمرها.
عند خروجه من السجن في التاسع عشر من شهر مايو-ايار 1897،وجد اوسكار وايلد نفسه مفلسا، ومنبوذا حتى من أقرب الأصدقاء اليه.وعلى مدى أشهر طويلة ظل يهيم على وجهه هنا وهناك ولا عزاء له غير اعادة قراءة"الكوميديا الإلهية " لدانتي.وعندما ضاق به العيش في بريطانيا،آنطلق الى باريس ليواصل حياة التشرد والخصاصة. وبين الحين والحين كان يتلقى مساعدات مادية بسيطة من قبل اصدقائه القدامى تخول له مواجهة الجوع والتشرد لبضعة أيام ،أو لبضعة أسابيع.وظل على هذه الحال إلى أن توفي في فندق بشارع "السين" في الثامن والعشرين من شهر اكتوبر-تشرين الاول 1900 وهو في أسوا حال ماديا ومعنويّا.
&