يأتي هذا التقرير "حالة الأدب في مصر 2014-2015" تأليف الناقد د.محمود الضبع والصادر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية ضمن سلسلة "شرفات" المتخصصة في الدراسات الإنسانية، ليقف على الأطر الكبرى والأنساق العامة التي تحدد ملامح الحالة الأدبية في مصر في العامين السابقين، وذلك من خلال عدد من المحاور: الشعرية المصرية المعاصرة وتحولاتها، السرد المصري، وتحولاته، أدب الطفل القصصي والشعري في مصر، ظهور أشكال جديدة بوعي جديد.. القصة القصيرة جدًّا السمات والجماليات، مع التأصيل للظواهر الأدبية بالعودة إلى نهاية الألفية الثانية ومطلع الثالثة، ليشكل إطلالة على تفاصيل المشهد الأدبي المصري إجمالاً، ويشير إلى أن الكثير من العناصر التي تمت معالجتها باقتضاب، تقتضى بحث تفصيلاتها وأبعادها، وهو ما يمكن أن توفيه دراسات متخصصة، أو تقارير فرعية يمكنها أن تستوعب ذلك.
يقول د.الضبع "منذ مطلع تسعينيات الألفية الثانية وحتى لحظتنا الراهنة (العام ٢۰۱٥م) &مر العالم بتحولات جذرية في كثير من مناحي الحياة، وفي إعادة صياغة عديد من المفاهيم التي كانت بالكاد قد استقرت؛ حيث كانت الثمانينيات بداية التحول نحو التكنولوجيا والمعرفية والمعلوماتية التي تطورت فيما بعد، فغدت مكونًا أساسيًّا من مكونات الثقافة مع مطلع التسعينيات وبلغت قيمتها مع نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة؛ بحيث لم يعد في الإمكان الفصل بين ظاهرة ما -علمية كانت أم أدبية- وأبعادها المعلوماتية. كما أصبح في الإمكان التقريب بين المادي والإنساني، فالتكنولوجي في أساسه محاكاة للفكر الإنساني، والفكر الإنساني لا يمكن الفصل فيه بين الوجداني والصرامة العلمية، بل إن الصرامة العلمية ذاتها غدت موضع شك مع فلسفات ضد المنهج وما استتبعها.
ويضيف "الثقافة العربية هي من جانب تمثل جزءًا من الثقافة العالمية، تتأثر بما يدور في العالم وما يواجهه من تحديات، وهي من جانب آخر تمثل أمة يتنامى بين أفرادها الوعي بخصوصية الأدب العربي ونقده، وأهمية الانطلاق من التجربة العربية وإليها، دون الانغماس في الوارد الغربي ومعطياته التي أدت بالأدب العربي لانحرافات لم تكن آثارها إيجابية في حقه. فعلى مدى سنوات طويلة ارتبط الأدب العربي ونقده بالوارد الغربي، منذ الدعوة إلى الرومانسية وحتى الرواية الجديدة، وقصيدة النثر، والقصة القصيرة جدًّا، غير أن نهاية الألفية الثانية والعقد الأول من الألفية الثالثة شهدت محاولات للانعتاق على كلا المستويين الأدبي والنقدي، وإن كان التجريب الأدبي أسبق من النقدي؛ نظرًا لتراجع النقد -نسبيًّا- في القيام بدور الريادة، والاكتفاء بالتبعية في الأغلب، وبخاصة مع ما تشهده الشعوب العربية من ثورات وحركات تحررية وإسقاط لحكومات تجذرت عبر سنوات طوال، وتنصيب لحكومات تجريبية لا يستمر بها الحال طويلاً، والحقيقة إن هذه الثورات هي نتيجة طبيعية لمحاولات الخلخلة الفكرية التي بدأت ملامحها مع فلسفة التفكيك وما استتبعها من إسقاط للمفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت مستقرة، والبحث عن بدائل بعضها بدأت تتضح معالمه وبعضها الآخر لم يزل بعد في طور التكون ولا يمكن التكهن على وجه الدقة بملامح محددة له.
وفي استقرائه للواقع المعاصر للأدب في مصر -حتى مطلع العام ٢٠١٥م- يقف د.الضبع على عدد من العناصر التي يمكن اعتمادها بوصفها علامات دالة تساعد في قراءة وفهم المشهد إجمالاً؛ وهي التشابك النصي، والتجاور، وتعدد الأشكال، وغواية التجريب، والحضور الشعري وشعرية الصورة، والتحول إلى المؤسسة الفردية:

أولاً: التشابك النصي
يشير الواقع إلى أن الأشكال الأدبية أصبحت تتشابك فيما بينها وتتداخل وتستعير تقنيات من الأنواع الأخرى المجاورة وغير المجاورة. فالنص الأدبي شعرًا كان أم نثرًا لا يكون خلوًّا بذاته، وإنما تحضر فيه تقنيات من أنواع أدبية أخرى (السردية والشعرية والمسرحية)، ومن فنون أخرى قريبة؛ مثل الموسيقى والسينما (الاعتماد على المشهدية)، ومن فنون بعيدة (تضمين ونسج المعرفية العلمية في النصوص الأدبية). وقد قدم النقد منجزه في دراسة هذا التشابك من خلال التحليل الذي تبنته الاتجاهات البنيوية وعلوم التناص ورصدها لتداخل الأنواع الأدبية واستعارة التقنيات فيما بينها؛ مثل حضور الشعرية في الرواية، وحضور السردية في الشعر، والتداخل مع المسرح.
ويرصد الدرس الأدبي الآن مظاهر حضور الفني (موسيقى، تصوير، سينما) في النص الأدبي (رواية، قصة، شعر، مسرح)؛ &حيث أثرت السينما وعالم الميديا على الكتابة الأدبية لدى كثير من الكتاب، الذين لم يكن أمامهم من سبيل سوى مواكبة التطور، وبخاصة فيما يتعلق بسيادة ثقافة الصورة؛ إذ لم يكن في إمكان الأدب أن ينفصل عن الواقع الذي أقرته هذه الثقافة.
ولم يكن الأدب العربي، والمصري منه على وجه الخصوص سوى في عمق هذه التحولات سواء بفعل التأثيرات العالمية، أو بفعل الانفتاح الثقافي والمعلوماتي الذي شهدته الشعوب العربية في التداخل الشديد بين هوياتها، وقيام ما يشبه التحالفات الأدبية التي قاربت بين الوعي الجمالي على مستوى الأدباء ومنتجهم على نحو لم يكن متحققًا بالكيفية ذاتها من قبل، وذلك بفعل قوانين الخفة والسرعة والتواصل التي تنبأ بها إيتالو كالفينو في مؤلفه "ست وصايا للألفية القادمة".
&
ثانياً: التجاور
يشير الواقع إلى أن الأشكال الأدبية أصبحت تتجاور على مستوى التلقي، وتتعايش وإن كانت بدرجات متفاوتة في الحضور والهيمنة؛ إذ لم تعد هناك ذائقة واحدة. وإنما هناك تعدد وتفاوت في الأذواق، ليس بمفهوم التقسيم الكلاسيكي لقسمين فقط الأول يناصر القديم ويتشدد له، والثاني يناصر الجديد ويتشيع له، وإنما بمفهوم الشرائح المتجاورة أحيانًا والمتشابكة أحيانًا أخرى، والمتعارضة أحيانًا ثالثة. إلا أنها في نهاية الأمر يمثل كلٌّ منها ذائقة لم تعد تحتكم إلى مفهوم الذوق العام الذي يمثل المؤسسة الجماعية، وإنما إلى مفهوم الذوق الخاص الذي يمثل المؤسسات الصغيرة لجماعات نخبوية، وأحيانًا مؤسسة فردية، وفي هذا استجابة للواقع السياسي والاقتصادي العالمي. فعلى الرغم من فكر العولمة الذي يسعى إلى فرض هيمنة واحدة على العالم، فإن ذلك قد أيقظ وأكد على الهويات الفرعية والجماعات الصغيرة والمندثرة التي أشعلها الإحساس بالخطر أمام محاولة تذويب الفوارق لصالح الكل الأكبر.
لقد نتج عن ذلك أن تعايشت الأشكال الأدبية منذ أقدم حضورها حتى أكثرها حداثة وأصبح لكل منها ذائقته الجمالية التي تتواصل معه.
وهذا يعني في إجماله أن حركة الأدب ليست خطية في مسار واحد، بدأت مع الكلاسيكية ووصلت إلى التطور الحادث على نحو تقدمي، وإنما هي حركة دائرية، قد تعود للوراء لتستحضر من جديد أشكال الأدب العربي القديم (الشعر العمودي، والحكايات والأساطير، والمقامات، والتوقيعات)، وإن كان بأشكال مختلفة. وقد تعود إلى مرحلة وسيطة من التاريخ الأدبي (مثلاً مرحلة بداية التنوير في مطلع القرن الماضي: طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وأحمد حسن الزيات) وربما تجمع بينهما. ومن المحتمل كذلك أن تكون هذه الحركة لا خطية ولا دائرية، وإنما يحكمها قانون عدم الانتظام في انتقالها بين الأشكال، وهو الأمر الذي سيثري كثيرًا الأدب وأنواعه؛ إذ إن الالتزام بشكل واحد والإخلاص له لم يعد التزامًا أخلاقيًا، ولا يجب أن يكون كذلك، فالشعرية، مثلاً، كانت تصل لمنتهى قمتها في المراحل التي كانت تسعى فيها إلى التحرر من الالتزام المطلق للشكل، والإخلاص المطلق للقصيدة ذاتها.

ثالثًا: غواية التجريب
إن أهم ما يميز الأدب المصري منذ بداية الألفية الثالثة حتى الآن هو التجريب المستمر في بنية الأنواع الأدبية شكلاً وموضوعًا، ذلك التجريب الذي شهد انفتاحًا وصل به في بعض الأحيان إلى تجاوز الحدود والخروج بها إلى مناطق يحتمل عدم انتمائها إلى الأدب في الأساس. وربما يحدث ذلك لعدم وضوح معيار حاكم حاسم بشأن مفهوم الأدبي وغير الأدبي في الثقافة العربية، فعلى سبيل المثال الكتابة المعتمدة على مدونات؛ مثل مدونات «الساحرة الشريرة» لسهى زكي، «وعاوزة أتجوز لغادة عبد العال. وهما شكل من أشكال التجريب السردي، فهل تدخلان في سياق الأدب والأنواع الأدبية المتعارف عليها، أم أنهما ليستا من الأدب؟ ومن المعروف أن الثانية تحولت لمسلسل تليفزيوني بالعنوان ذاته.
وداخليًّا على مستوى النوع الواحد (الشعر، الرواية، القصة، المسرح) &يمكن تمييز ملامح التجريب في بنية العمل شكلاً وموضوعًا، فجرب الشعر في شكل القصيدة نتيجة للإمكانات التكنولوجية التي سمحت بها أشكال رسم الصفحة بالكلمات، وجرب في مضمونها بفتح أفقها من خلال استعارة تقنيات السرد القصصي التي وسعت من إمكانات التجريب في الموضوع كما سيرد في تحليل المشهد الشعري.

رابعاً: الحضور الشعري وشعرية الصورة
إن حضور الشعرية في النص لم يعد مقتصرًا على القصيدة، وإنما نتيجة لاتساع مفهوم الشعرية واعتماده على التكثيف والانحراف الدلاليين من جهة، وللمحاولات المستمرة لهدم الحدود بين الأنواع الأدبية من جهة أخرى، فقد غدا الحضور الشعري ممكنًا في النص الأدبي شعره ونثره، وإن كان بدرجات متفاوتة، يمكن الكشف عنها عبر وسائل عدة؛ منها: التكثيف الدلالي، وهيمنة غياب المرجع، وهدم البناء الزمني والتراتب والسببية، والإيقاع النغمي، والتلقي الذي يصنع جماليات النوع الأدبي.
وبالتالي لم تعد الشعرية عاملها الأوحد هو اللغة، أو الوزن العروضي، وإنما تدخل المشهد وبناء الصورة في خلق حالة الشعرية بأشكال متعددة. فالذاكرة البشرية المعاصرة، لم تعد تستقبل الصور على النحو الذي كانت تستقبله عليه مع الأسلاف، فحجم المتاح من الصور في الماضي لم يكن يتجاوز نسبة تذكر من حجم المتاح والمعروض من الصور في ذاكرة الإنسان المعاصر، بدءًا من لوحات الإعلانات والمجلات والصحف والواجهات في الشارع، وانتهاءً بشاشات العرض التي تنتهي بهاتفه المحمول، إضافة إلى مشاهداته لصور الحياة من حوله تبعًا لتنقله.
هذا الزخم من الصور لاشك أن له تأثيرات متعددة على صياغة المشهد الأدبي السردي والصورة الشعرية، التي غدت تواجه تحديًا أكبر في خلق الصورة غير العادية وغير المألوفة وغير المتوقعة. ولتحقيق ذلك عليها إحداث التكثيف والانحراف الدلاليين، وهدم البناء الزمني والتراتب السببي.
&
خامسًا: التحول إلى المؤسسة الفردية&
عاش الأديب عالميًّا وإقليميًّا منذ مطلع عصور النهضة في إطار جماعة ينتمي إليها، أخذت شكل المدارس الأدبية تارة (الكلاسيكية- الرومانسية- الواقعية- الفن للفن... إلخ)، وأخذت شكل الأجيال الأدبية تارة أخرى (جيل الخمسينيات، جيل الستينيات، جيل السبعينيات،...)، ثم تحولت إلى الجماعات الفردية، وتطور بها الحال إلى التحول لمفهوم المؤسسة الفردية، بمعنى احتكام الأديب لجمالياته الخاصة ووعيه الخاص وعدم الانتماء لجماعة لها اتفاقات ما على عدد من المرتكزات التي تتبعها في الكتابة.
والملاحظ عمومًا على هذا التحول أنه في كل خطوة كان يقترب من تحديد ملامح الهوية الخصوصية للفرد، والانتقال به من محاولة التشابه الفكري مع آخرين إلى محاولة الاحتكام إلى الذات الفردية. وهو ما تنبهت إليه الفلسفات الغربية منذ بدأت في تقويض البنية (هدم البنيوية) والاتجاه نحو التفكيك ومفهوم المجتمع المفتوح كما سعى إليه كارل بوبر.
إن هذه التحولات جميعها في المشهد الفكري والثقافي والأدبي كانت له امتداداته وتأثيراته في الوعي العربي والمصري على وجه الخصوص (ربما نتيجة لتعدد المبدعين كميًّا مما يخلق منافسة أعلى في التحقق)، ومن ثم فإن المشهد المصري المعاصر لا يمكن فهم راهنه إلا بالقراءة الثقافية لهذه التحولات، ورصد تأثيرها على الواقع الآني.
&