&
بالنسبة للكاتب الفرنسي أنطونيو بيلو، كان الأدب قبل الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ينطلق من الواقع، ومنه يستوحي المواضيع التي يتطرّق اليها. فمالفيل مثلا يصوّر في روايته الشهيرة "موبي ديك" صيد أسماك القرش. وتولستوي يهتمّ بحروب بونابارت في "الحرب والسلام". وفلوبير يصف الحياة اليومية في مدينة صغيرة تخون فيها مدام بوفاري زوجها الطبيب. وراسين وجين اوستن يعالجان خفايا الحب اللامتناهية. ويحاول البير كامو أن يصف لنا مواقف الناس أمام كارثة الطاعون. وجويس يصف أحداث يوم كامل في دبلن. ومعنى هذا ان الواقع هو مادة الكاتب. أما خورخي لويس بورخيس فينطلق منذ البداية سابحا ضدّ التيّار. فالنصّ عنده هو مصدر، ومنبع كلّ شيء إذ أن الكلمة هي بداية كلّ شيء:”في البداية كانت الكتابة". والواقع كان قد كُتب قبل أن نكتبه. لذلك فإن الواقع هو الخيال. وفي قصته "الخرائب الدائرية" التي نشرها بورخيس في عام 1946، نحن نجد أنفسنا أمام رجل يحلم برجل آخر ليكون مثله تماما. وفي النهاية ينتبه هذا الرجل أنه مجرّد وهم، وأن هناك رجلا آخر يحلم به. ويقول بيلو بإن العالم بالنسبة لبورخيس هو في الحقيقة عوالم مختلفة ومتنوعة. وجميع هذه العوالم تخضع للغة. والأدب متفوّق على الحياة. ولأن الكاتب يتحكّم في الواقع فإنه يكون بمثابة الاله. وهذا ما يعبّر عنه بورخيس في واحدة من أجمل قصصه، وهي "مكتبة بابل"، وفيها يكتب قائلا:”الكون (الذي يسميه آخرون مكتبة) يتكون من عدد لا محدود ،وربما لانهائي من الأروقة المسقوفة، المسدّسة الزوايا، في وسطها آبار واسعة للتهوئة تحدها حواجز واطئة للغاية(...).وكلّ واحد من جدران المسدّس يحمل خمسة رفوف. وكلّ رفّ يحتوي على 32 كتابا. وجميع هذه الكتب لها نفس الشكل. وكلّ كتاب يضمّ 410 من الصفحات. وكل صفحة بها 40 سطرا. وكل سطر يتكون من 80 حرفا باللون ألأسود". ويعنى هذا أن بورخيس يريد أن يوحي لنا بأن المكتبة الهائلة التي يتحدث عنها هي الكون. وهي تحتوي على كلّ ما يحتويه الكون. وكلّ كائن، سواء كان واقعيّا ام خياليّا، يقابل كتابا يشرّع موهبته وأفكاره. ويعتقد بيلو أن فقدان البصر عند بورخيس قد يفسّر ميله لهذا الأدب الذي تكون فيه الكلمات بمثابة الرابط الوحيد بالعالم الخارجي. وفي قصته "الآخر" هو يكتب:”سوف أصبح أعمى. لكن لا تخش شيئا. فالأمر بمثابة نهاية طويلة لمساء صيفي جميل".
&