كما يفعل الكثيرون، اعود من وقت لآخر الى استعراض الذكريات وأتوقف بالصدفة عند هذه اللحظة او تلك...&

اقول بالصدفة، أي دون سابق اختبار من تلك اللحظات التي تعود لي ذكرياتها اكثر من مرة في العام، لقائي مع الوالد بالجواهري في مطعم بدمشق بعد عودتنا من مصحات لبنان حيث كان يعالج شقيقي الكبير عبد الامير . الجواهري كان صديق الوالد منذ ألثلاثينيات وحين دخلنا قام الجواهري لمعانقته، وجلسنا الى مائدته. رأيت أمامه علبة سجاير وعليها كلمات متفرقة لم اعرف ماهي. كان ذلك عام 1944 على ما أتذكر حين جرى بعد اللقاء احتفال مهيب بذكرى آبي العلاء المعري، كلمات علبة السجاير كانت بدايات أبيات القصيدة التي كان يعدها للمهرجان.. هذا مافهمته فيما بعد من اكثر من مصدر عن طريقة نظمه للقصائد..
في قصيدته الجميلة التي كان مطلعها:
&قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِباواستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
وردت آبيات تدين الحب وتعتبره انحلالاً ترفضه(الرسالات المقدسة) قال الجواهري:
عانَى لَظَى الحُبِّ " بشَّارٌ " وعُصبتُه فهل سوى أنَّهم كانوا له حَطبا
وهل سوى أنهم راحوا وقد نذرواللحبِّ ما لم يجب منهم وما وَجبا
هل كنتَ تخلدُ إذ ذابوا وإذ غَبرُوالو لم ترُضْ منِ جِماحِ النفس ما صَعُبا
تأبى انحلالاً رسالاتٌ مقدَّسةٌجاءت تقوِمُ هذا العالَمً الخَربا
في براغ الستينيات، كنت على دائم الصلة بالجواهري، الذي لجأ الى هناك. وذات مساء ونحن في المقهى، قلت له (لماذا إعتبرت الحب انحلالاً وانت من شعراء الغزل؟ آلست من كتب :
جرّبيني منْ قبلِ انْ تزدَرينيوإذا ما ذممتِني فاهجرِيِني
و
هُزِّي لهم رِدفاً إذا رغِبواودعي لنا ما جاورَ الرِّدفا
نظر الىّ بصفاء وابتسم، وانطلقنا ضاحكين.. &وتشاء الايام ان اذهب عام 1945 الى القاهرة حاملاً معي مسودة مذكرات عاطفية لطبعها هناك... عدت وقد وعدوني بالنشر، وكانت كلية دار المعلمين عهد ذاك حيث كنت أدرس من معاقل الحزب الشيوعي العراقي .. وسرعان ما انجذبت الى الحركة ألشيوعية، فإذا اجد نفسي متأثر ببعض الروايات التي كانت تحرّم الحب على المناضلين(لا اتذكر عناوينها) فأبرقت الى دار النشر طالبا عدم طبع المخطوطة .. وتغيرت نظراتي فيما بعد، وحين نقلوني الى سجن نقرة السلمان الصحراوي وجدت أمامي مناضلين ينشدون اناشيد ثورية وبينهم من يغني لأسمهان على انغم العود ..
ومرت الايام لندخل في ازمة تطرف وتزمت يساريين كان من مظاهره عدم الترحيب بالأغاني العاطفية. وحين نقلوني الى سجن الكوت لمرضي عام 1950، وصرت مسؤولاً للسجناء السياسيين هناك، كنت ومن معي لا نزال تحت حمىّ التزمت العاطفي .. كانت لنا سّماعة راديو تنقل لنا الاخبار وما ان تصل الى الاغاني حتى نغلقه. وذات يوم كان احد المناضلين يغني في المطبخ فأسرع إليه رفيق آخر وقال له: ( اسكت قبل ان يأتي عزيز ويغلقك) حين اتذكر ذلك انطلق ضاحكا ومستغرباً .. ومن حسن الحظ ان فترات التزمت تلك كانت قصيرة .. ومع ذلك، فحين اتذكر ذلك، وأخطاء اكبر منها، ومواقف سياسية او شخصية، اشعر بالندم واقول ( آه لو كنت أكثر نضوجاً وتبصراً وواقعية) ولكن هذا الــلو لا يصحح شيئاً والعراقيون يقولون (لو زرعنا لو لما حصدنا شيئاً). ومثل ذلك أيضا مغامرة هروبنا من سجن الكوت بعد عامين، عبر نفق طويل. خرجنا (10مناضلين او11) لا أتذكر العدد.. فلم نجد السيارة التي ننتظرها، فسرنا دون خارطة ولا بوصلة في اراض جرداء تحت ألظلام وسرنا ساعات، فتعب احدنا وقال اتركوني سأدبر أمري، وبعد مسيرة أميال انفصل عنا عدد منا منهم المرحوم زكي خيري والمناضل كاظم فرهود، وبقيت مع ثلاثة منهم المرحومان حميد عثمان ومهدي حميد . وبعد اميال اخرى شعرت بمنتهى التعب، فقلت اتركوني، فرفضوا، وسرت معهم متحاملاً عليهم حتى سمعنا نقيق الضفادع واذا بنا امام مقهى، تبين انه قريب جداً من مدينة الكوت التي هربنا منها. دخلنا وقال رفاقي لصاحب المقهى، هذا صديقنا متعب، فقد عطبت سيارتنا بسبب الامطار ونحن ذاهبون لتصليحها، وسوف نعود، وخرجوا في الصباح ناديت صاحب المقهى وقلت له (انا طالب اللجوء عندكم، فانا سجين سياسي هارب) قال: لا استطيع التصرف لوحدي وسأذهب لاستشارة رئيس عشيرتي الشيخ بريز، وخرج بعد ان وضعني في التنور وغطاه نصفياً. قصة طويلة، اذ عاد مع الشيخ الذي اركبني حصاناً باتجاه مسكنه حيث قضيت الليلة، وقد طلبت عونه للوصول لبغداد، وقلت ان والدي غني وسوف يكافئه بسخاء.. في الصباح البسوني ملابس الفلاحين وسرنا نحو الطريق العام وأوقفنا اول سيارة أجرة ذاهبة الى بغداد، وركبنا...، وبعد مغامرات طويلة وصلنا بغداد في زورق، وركبنا باصاً عموميا ونزلنا في الكرادة، وهي الكرادة التي وقعت فيها مأساة شاحنة الموت منذ اسابيع. نزلنا وكنت اقصد دار قريب في المنطقة، تبين انه كان قد انتقل الى دار اخرى. وهنا تأتي (لو). آه لو ذهبت مع بريز مباشرة الى قلب بغداد والى دارنا مباشرة، او الى دار أي قريب في الرصافة او الكرخ. لكنني ظللت أسير وأسير حتى رأيت على باب بيت ذي حديقة واسعة اسم كتبيّ كنت اتعامل معه لسنوات وكان يعرف الوالد. النتيجة انه بدل حمايتي سلمني لمركز الشرطة، والتفاصيل كثيرة. وفد قال لي مسؤول الشرطة وأقسم (انني لو لجأت الى داره لحماني ولما قال لأحد). آجل .. آه لو ذهبت مباشرة الى دارنا او دار قريبة بدل البحث عن المجهول.. ولكن ماذا يجدي ترداد (لو) (لو)... هذا عن (لو) الماضويّ، ان صح التعبير. وهناك لو المستقبلي، الى التمنيات والآمال، وفيها ما قد يتحقق، وغالبا لانحصد غير الصدمة والحزن، لاسيما حين الحديث عن خروج العراق قريباً من مآزقه المرعب الى واحة الامن والصفاء والحرية. عراق بلا احتقان طائفي ولا لصوص السياسة والبرلمان..
&
&