بقلم خالد بريش
&
عن دار "لارماتان" الباريسية (L'Harmattan) صدر مؤخرًا للشاعر المصري شريف الشافعي ديوان جديد، هو الثامن له، بعنوان "رسائل يحملها الدخان" (MESSAGES PORTÉES PAR LA FUMÉE)، وقد ترافق النص العربي مع ترجمة بالفرنسية، أنجزتها المصرية المقيمة في كندا منى لطيف.&
يعتبر هذا الديوان في حد ذاته تجربة جديدة في عوالم الشعر الحديث، من حيث التساؤلات التي يطرحها، ومن حيث المضمون الذي أتى محملا بدفق روحاني متميز، وأنوار تخترق الحُجُبَ فتنيرُ شموعا في طريق المستقبل، واضعة علامات استفهام على كثير من المُعْضلات التي يشكو منها الإنسان وتُؤرِّق كيانه. بل يذهب بعيدا فيضع إصبعه على مشكلات تعاني منها مجتمعاتنا من دون أن يسميها أو يدخل في تفاصيلها، طارحا مجموعة تساؤلات جوهرية حول كنه الأشياء ومضمونها وجوهرها وقشورها وأغلفتها.
هذا الديوان، الذي أتى باللغتين العربية والفرنسية معا ضمن كتاب واحد، هو تحد للشاعر نفسه، لكونه يخاطب في آن معا عقليتين ومجتمعين وثقافتين يعلم تمام العلم أن لكل منهما منطقه وخلفياته التي تشكل مفاتيحه لفهم النص. وتحَدٍّ أيضا للقارئ، الباحث عن عمق الأشياء وأدوات فهمها، لأنه سيكون أمام وجهين لكلمة واحدة إن لم يكن عدة وجوه. وبالتالي فإن وقْع كلمات اللغتين على القارئ ليس في نفس المستوى ولا يؤدي أيضا نفس المعنى، فلكل لغة مفاتيحها وترانيمها وموسيقاها، بالإضافة إلى أبعادها ومدلولاتها. فالكلمات والتعابير عندما تتحول من لغة إلى أخرى، وتُقرأ بحروف ولغة أخرى، فإنه يتبدل لون عيونها ونبضات قلبها، وبالتالي يصبح للمصطلح والكلمة بعد بل أبعاد أخرى جديدة.
من هذا المنطلق، فنحن أمام نصين متكاملين مستقلين، كل ما يربطهما ببعضهما البعض هو العنوان والشاعر نفسه، مما يجعل الديوان ثنائي الأبعاد. بل نستطيع القول إنه ثلاثي الأبعاد، إذا ما أضفنا البعد الذي يسافر فيه عقل القارئ وفكره وفهمه خلال عملية الغوص في النص وكيفية استيحائه للمعاني، وإعادة صياغتها وتركيبها بعدما يُلبسها الثوب الذي يُريده وباللون الذي يختاره.
تتنقل كلمات الديوان، الذي هو رسائل مشفرة وبرقيات لمن يهمه الأمر، ما بين حديث مباشر مع الحبيبة، ومخاطبة للحياة بهمومها وكل أثقالها وصخبها وضجيجها، وبين نهار يُصوره شاعرنا سارقا الشمس كالحبيب الذي يسرق من الزمن والوجود نظرات لعينيّ حبيبه وابتساماته فيصنع منها مسبحته.&
وبالرغم من احترافية لصوصية نهاره وليله، فإنهما لا يستطيعان إخفاء وجهها، لكون مصابيحه لا تنطفئ حين يريد النوم كبقية المصابيح. ويتوه بين الخرائط بحثا عن الحقيقة ووجهها متسائلا: أين العالم؟ فلا يجدُ إلا عينيها سلالم لكي تحمله إلى النجوم البعيدة، حيث مستقر الحلم وحيث وطنه وأمان روحه. أما طبيعة ليله فهي نار سوداء تعني في قاموسه الخاص غيابها.&
يدخل شاعرنا مدينة الإنسان، فيصرخ كالأنبياء بعدما وضع إنسانيته في مقدمة الأشياء والقضايا، معطيا أمانا لكل من اختلف معهم في الرأي والكلمة، صارخا في وجه الجميع مرددا عهد أمانه. يقول:
(لا أبالي بمن يقولون للشعراء: "وداعا"
هم في بيتي جميعا، أصافحهم كل ليلة
أحتضن قصائدهم،
وأنام مطمئا)
وعلى منوال الأنبياء والمتصوفة الباحثين عن الحقائق، يطرح الأسئلة حول القمر والشمس والسماء والوجود والوقت والزمن والحياة الخ... فينقاد لتساؤلاته الحبيب الذي يعاني وجدا وهياما إلى السباحة في عالم الملكوت، خصوصا بعدما تخلع الأشياء أقنعتها، فيراها كما يجب أن يراها، فيغرق في بحار دموعها مع أنه ألف السباحة فيها وتعودها... فيفضل حينئذ "أن يتحرك القطار مسرعا". وهل أسرع من قطار الحياة؟ فالمخلوق الذي يحس الساعة في أيام طفولته دهرا، لا تلبث أن تصبح الساعات بالنسبة له كالدقائق، والأيام كالساعات، لتدور عقارب الحياة مسرعة كمرور السحاب، وتنقضي أسرع من لمح البصر، فتنتهي به الرحلة إلى مستقر.
إن إشكالية الوقت والزمن قصرا وطولا، والإنسان وجودا وعدما، حبا وعاطفة، حاضرة في الديوان بقوة. أوليست هي إشكالية الإنسان التي لم تتبدل منذ أن عرف المواقيت والأوقات وأعطاها بعدا ومكانا ومعنى في حياته؟
وإذا كانت آخر الكلمات في القصائد والدواوين عادة للتأكيد على بداياتها، فقد كنت أخاله في لحظة من اللحظات سوف يصرخ في وجهها مرددا مقولة ديك الجن الحمصي: "قولي لطيفك ينثني عن مضجعي عند المنام"، لكنه لا يفعل، ذاهبا إلى أبعد من ذلك، مستظلا بآية قرآنية، معتبرا طيفها وذكرياتها كرجوم للشياطين. يقول الشافعي:
(الغرق ثمنٌ ضئيلٌ
لشقّ بحرٍ في الضمير
يكفي أن أسماكه الصغيرة
قد تكون نجوما
ورجومًا)&
وختاما، فإن في تتابع كلمات وألفاظ وإيقاعات الديوان، وأسلوب طرقها لأبواب دواخل القارئ لتسكنها، لهي رجوم بحد ذاتها، لكونها تهز روحه وكيانه في آن معا، وتتبعه أينما ذهب كظل حبيب وطيف حقيقة. بل إن كل ذكريات الحبيب الصغيرة التي وردت عبر السطور لتهز الكيان وتنيره وتزيد من ألقه كشهب السماء.
من أجواء الديوان، نقرأ:
افعلْ أي شيء
غير أن تقبّلها في السر
المرأة الضاحكة التي تصافح العالم علانية
بلا خجل
المرأة التي تقول عند كل زلزال:
"الأرض ترقص"
* * *
من آثار قدميها على الأرض
سيحكون عنها طويلاً
التي لم تعبر من هنا أصلاً
لكنْ قفزتْ من ذاكرتي
مثل فكرة ناضجة
فارتشفتها جذورُ الأشجار
* * *
لا يليق بك
دور المايسترو
أيها المزدان برابطة العنق
وروحك العارية مربوطة
في ذيل نغمة شاردة
* * *
لا أصدق أنني لن أراه مرة أخرى
وأنه لن يرسم من جديد
بعدما دَهَستْه بقسوة
الأفيالُ الغاضبة التي اخترَعَها
في لوحته الأخيرة
& &