&
يحتلّ النقد في رؤية الشاعر الكبير تي.آس.إليوت الشعرية منزلة بارزة حتى أن بعض النقاد يرون أنّ تغييب هذا الجانب-أعني النقد- يجعل الإقتراب من صاحب"الأرض الخراب"أمرا صعبا ومحفوفا بالمخاطر. وحتى وإن تمّ، فإنه يظلّ دون الاكتمال، ودون الإفادة المرتجاة. ولا يقتصر النقد عند إليوت على إضاءة عالمه الشعريّ، بل يتعدّى ذلك ليشمل تمكين القارئ من فهم أسلوبه، وفلسفته، والتعرّف على خفايا علاقته بالكلمات، وباللغة، وبالتراث الشعري القديم والحديث على حدّ السواء. فعقب قراءة مُعمّقة لشعراء الإاغريق، ولشعراء أنجلو- سكسونيين وفرنسيين بالخصوص، أدرك إليوت، وهو على عتبات الشباب، أن الشعر لا يمكن أن يكون مجانيّا، ولا معزولا عن روح العصر، ولا عن حركة المجتمع اللذين ينتمي إليهما الشاعر. وهكذا راح النقد والشعر يَنْموان عنده في تناسق بديع.
وفي المرحلة التي كان فيها إليوت قد شرع يهيئ نفسه لخوض مغامرته الشعرية والنقدية على حد السواء، لم يكن النقد الأنجلو-سكسوني يُوفّر غير أدوات محدودة لفهم الشعر، والإحاطة بعالم الشاعر. وأغلب النقاد كانوا يُجْهدون أنفسهم للبحث في السيرة الذاتية للشاعر، أو في عصره ومجتمعه، عن العناصر التي يعتقدون أنها قادرة وحدها على توضيح ما غمض، والكشف عن ما خَفي في العمل الشعري، أو في الرؤية الشعرية للمعنيّ بالأمر. وقد عَارضَ إليوت هذا الإتجاه النقدي مستندا في ذلك إلى أن الشاعرلا يعبّر من خلال شعره عن شخصيته فقط، بل أيضا عن ماهية خاصّة في روحه تمتزج فيها التجارب بالأحاسيس. ولكي يمنح معارضته وَهْجا خاصا، طرح إليوت فكرة جديدة تقول بإن الشاعر لا يمكن أن يفهم فهما جيّد وعميقا الاّ من خلال علاقته ب"الموتى"، أي من خلال من سبقه من الشعراء. وهكذا أصبح الماضي بالنسبة له معيارا أساسيّا في العمليّة النقديّة. وعلى هذا الأساس، أقرّ إليوت في أكثر من مناسبة، بالعلاقة المتينة التي تربطه بشعراء سابقين له مثل جون دُنْ، وإدغار الن بو، وشعراء الرمزية من الفرنسيين مثل كريستيان كوربيار، وجيل لافورغ. ولعلّ ما يبهره في تجارب هؤلاء هو الإمتزاج الرائع بين الذكاء والخيال، والذي شكّل عنصرا أساسيّا في عمليّة اثراء القصيدة الغنائيّة، وإعطائها أبعادا لا حدود لها من خلال تحويل الأفكار نفسها إلى تجارب روحيّة عميقة تتغذّى من تناقضات العالم المعقّد.
إستنادا إلى هذا المعطى، يوضحُ إليوت تجربة جون دنْ على الشكل التالي: ”ان الفكرة بالنسبة لجون دنْ هي التجربة ذلك أنها تحدث تغييرا في إدراكه وحساسيته. وعندما يكون فكر الشاعر مرتّبا على الوجه الأكمل بالنسبة لعمله، فإنه يكون دائم الإنشغال بدمج المعطيات المتنافرة، والمتباينة لتجربته. إنّ مُعْطيات الرجل العادي مشوّشة ومجزأة وغير منتظمة. عنده تتساوى تجربة العشق، وقراءة سبينوزا، وضجيج الآلة الكاتبة وروائح المطبخ. أمّا في فكر الشاعر، فإن جميع هذه المعطيات تتجمّع دائما لكي تكوّن تآلفا جديدا". ومعلّقا على هذا الإستنتاج، يقول الناقد الفرنسي هنري فلوشير: ”القصيدة عند جون دنْ، كما عند الكثيرين من الشعراء الميتافيزيقيين، تبرز كما لو أنها استدلال. بل تكاد تكون نوعا من الإثبات. ودائما نحن نَخْلُص من خلالها إلى خاتمة، وإلى شرح، وألى إيضاح لحقيقة مرضيّة أو غير مكتملة يكون الشاعر قد بذل جهدا فكريّاشاقّا في سبيل بلورتها. وعادة ما يكون هذا الجهد مدعوما وملوّنا بذلك الإنفعال الذي فجّره، وجعله ضروريّا، مُجْبرا الفكر على أن يسلك الطرق الأكثر غرابة بهدف توفير الأدوات التي تساعد على التعبير عن ذلك الانفعال".
أمّا الناحية الأخرى التي تميّز بها إليوت في مجال النقد فهي تتمثّل في أنّ الشاعر لابدّ أن يكون مُدركا إدراكا تامّا ل"روح عصره"على حدّ تعبيره. ومعنى ذلك أنه -أي الشاعر- لابدّ أن يعمل دائما على أن يتعدّى المظاهر ليلامس، ويداعب واقعا عميق الغور، وبعيد المنال. عندئذ فقط يمكنه أن يدرك خصائص عصره، وأن يلمّ بمعطياته من دون أن يفقد ذاتيّته، أو يتحوّل إلى "واعظ" يعلّم الناس الفضائل والأخلاق، ويرشدهم إلى الطريق الصواب. وإذا ما كان دانتي قد حاول من خلال "الكوميديا الإلهيّة، أن يعكس عقيدة القرن الثالث عشر، وشكسبير قد ركّز في جلّ أعماله المسرحيّة على الصراع بين العالم العادي والعالم المثالي السائد في عصره، وبودلير قد آهتمّ اهتماما خاصّا بوصف القلق والوحدة والضياع في المدينة الحديثة، فإن إليوت سعى منذ قصائده الأولى وحتى في "لأرض الخراب"، إلى التعبير عن يبس القلب، وترهّل الجسد، وقلق الروح، وَروْع الكائن أمام أهوال الحضارة الحديثة ومعضلاتها. و لكي ندرك سرّ العمليّة النقديّة عند إليوت، يمكننا أن نستند إلى نموذجين من الدراسات التي خصّصها للشعراء الذين أثّروا عن قرب، أو عن بعد في تجربته الشعرية: الأولى حول ويليام بليك. وقد صدرت عام 1920. أما الثانية فعن بودلير. وقد صدرت عام 1930.
في بداية دراسته عن ويليام بليك، لايتردّد إليوت في وضع هذا الشاعر الذي يبدو للبعض "ساذجا ومتوحشا"، في مصافّ الشعراء والمبدعين العظام من أمثال هوميروس، ودانتي، وسبينوزا، وشكسبير، ومونتاني. ثم يضيف قائلا: ”إنّ شعر بليك كريه وبشع مثل كلّ شعرعظيم. لاشيئ مما يمكن أن نسمّيه مرضيّا أو شاذّا أو غير طبيعي. ولاشيئ من تلك الأشياء التي تَشْهدُ على مرض عصر أو موضة يملك مثل هذه الخاصية، وهذه الميزة. وحدها تلك الأشياء التي تخضع لجهود خارقة في مجال التبسيط والإختصار، قادرة على أن تكشف سرّ المرض الأساسيّ، أو قوّة النفس البشريّة". وتكْمنُ عبقرية بليك بحسب إليوت، في قدرته الفائقة على تحاشي ما يمكن أن يحيد به عن هدفع الأساسيّ، أو يفسد ذوقه. وهو لم يعرْ اهتماما يذكر لا لطموحات والديه، أو زوجته، ولا للقواعد الإجتماعية، ولا لبريق النجاح السهل والسريع. إلى جانب ذلك، كان بليك محدود التكوين. وبما أنه اهتمّ في البداية بتعلّم مهنة يدويّة، فإنه لم يحاول أن يكتسب تكوينا أدبيّا غير الذي ارتآه صالحا للتعبير عن ما كان يعتمل في نفسه في فترات الوجع الأولى. وعوض أن يعيقه، ويَحُول بينه وبين الوصول إلى ما كان يروم الوصول اليه، تحوّل إلى مصدر الهام وتوهّج. وهكذا تمكّن هذا الشاعر في قصائده الأولى "من أن يكشف عن ما يمكن أن تشي به قصائد صبيّ عبقريّ يمتلك قدرة فائقة على التمثّل". ومع مرور الزمن، اكتسب بليك دراية باللغة وبموسيقى الكلمات، وازداد غوْصا في تلك العوالم البكر التي آستهوته منذ البداية. وقد ظلّ يزداد توغّلا فيها حتى فاضت نفسه بذلك الشعر الطفولي العظيم الذي لا يزال يأسر قلوبنا وأرواحنا فى زمننا هذا.
وعن مجموعة بليك:”أناشيد البراءة والتجربة"، كتب إليوت يقول: ”إنّ قصائد هذه المجموعة، قصائد رجل يولي اهتماما عميقا للإنفعالات الانسانيّة، وعنها يمتلك معرفة قوية. وهذه الإنفعالات تبرز في شكل مبسط للغاية، وغامض للغاية. وهذا الشكل هو تجسيد لصراع الفن الأبديّ ضدّ الثقافة، وأيضا لصراع الفنان ضدّ الإنحلال المتواصل للغة ". ويرى إليوت أن البساطة التي برزت بشكل واضح وجليّ في المجموعة المذكورة هي وحدها التي تفسّر عبقريّته وفرادته إذ أنها أبعدت من طريقه ومن ذهنه كلّ البهرج البلاغي، وكلّ التزويق اللفظي، وجميع تلك الأشياء الأخرى التي تحوّل الشعر إلى لعبة خادعة، وإلى عبث لا هدف له سوى توسيع دائرة الفراغ المروّعة. مع ذلك، يقرّ إليوت بوجود "ضعف" مّا يتجلّى هنا وهناك، خصوصا في قصائد بليك الطويلة. ويعود هذا "الضعف"في نظره إلى عدم قدرة هذا الشاعر على صياغة قصائده ضمن أطر صلبة، متآلفة مع مضمون ما يطمح إلى قوله. غير أن إليوت سرعان ما يستدرك، ويُعلق على هذه الإشارة قائلا بإن ضعف الشكل الملائم في الأدب الانجليزي يعود بالأساس إلى آفتقار بريطانيا، وجميع البلدان الأوروبية إلى تاريخ ديني ثريّ ومتواصل.
وفي مطلع دراسته عن بودلير، يشير إليوت إلى أنّ الهدف الأساسيّ هو التأكيد على الأهمّية التي تتمتّع بها النصوص النثريّة التي أبدعها صاحب "أزهار الشر"، والتي بدا من خلالها مستوعبا لروح عصره، مُصغيا إلى رعب الإنسان في جحيم المدينة الحديثة، ومُدْركا لمستجدّات المستقبل القريب والبعيد على حدّ السّواء. لكن قبل التطرّق إلى هذه الناحية بشكل مستفيض، يلاحظ إليوت أنه يفضّل مقارنة بودلير بغوته عوضا عن مقارنته بدانتي. وفي هذا الشأن يكتب قائلا: ”صحيح أن من يتذوّقون دانتي، يتذوقون بودلير بالدرجة نفسها. غير أنني أرى أن الفروقات أكثر من نقاط التشابه. إن جحيم بودلير مختلف عن جحيم دانتي في النوعية وفي المعنى آختلافا تامّا. وأعتقد أن تلك المقارنة التي تجعل من بودلير غوته مستأخرا، وأكثر محدوديّة هي الأصح في نظري". وبعد أن بتعرّض لعلاقة بودلير بالمسيحيّة، يعود إليوت مجدّدا إلى موضوع "المرضانيّة"مشيرا إلى انها شكّلت حجر الزاوية في جميع ما أبدع هذا الشاعر القلق طوال الوقت، والذي كان سيئ السلوك، صعب المعاشرة، مُبددا للمال وللأصدقاء. لكن هل تكفي القصائد لتوضيح المعنى العميق لهذه "المرضانيّة"، ولعالم بودلير الفلسفي والشعري؟ لا، أبدا، يجيب إليوت. ثم يضيف قائلا بإنه يستحسن مع شعراء مثل بودلير، إن نحن رُمْنا آكتساب معرفة وافية ودقيقة بما يطمحون للتعبير عنه، وادراك خفايا تجاربهم، أن نعتمد على آثارهم النثريّة، وعلى مذكراتهم، وحتى على دمائهم الحميمة لكي "نتمكّن عندئذ من فكّ رموز الفروق بين القلب والرأس، الغاية والوسيلة، الأدوات والأفكار". مع ذلك لا يبخل علينا إليوت بآرائه الواضحة والصريحة بخصوص شعر بودلير. وفي هذا المضمار هو يقرّ بروعة آكتمال الشكل عند هذا الشاعر، وبعذوبة أسلوبه، وبقدرته التقنية الفائقة الاتقان، والتي جعلت منه نبعا لاينضب بالنسبة لجميع الشعراء اللاحقين له. إلى جانب كلّ هذا، عمل بودلير على صياغة وابتكار صور جديدة لم تكن مألوفة لا في الشعرالفرنسي، ولا في الشعر الأوروبي بصفة عامّة. ويعود هذا الأمر بحسب إليوت إلى الاستفادة الجمة التي حصل عليها بودلير من خلال قراءاته المعمقة والذكيّة للشعر الانجلو-سكسوني، ولأدغارالن بو تحديدا. كما يعود إلى إلمامه بالمظاهر الجديدة التي كانت قد بدأت ترتسم في أفق المدينة الحديثة(باريس). ولكن ما عيب بودلير بعد كلّ هذا المديح؟ عن هذا السؤال يجيب إليوت قائلابإن مخزون الصّور عند بودلير برغم جودته وفرادته، محدود وبال في العديد من المواضيع والإستعمالات. وعندما نقارن هذه الصور مع مخزون الصور عند دانتي وعند الشعراء الرومانسيين، نلاحظ من دون أن نبذل جهدا كبيرا، علامات الشيخوخة والوهن على البعض منها، وعلى الأخرى غبار القدم، وشحوب الزمن