غادة أسعد من الناصرة: ممرٌ ضيّق يأخذنا إلى سراديب الحكاية، ذكرياتٌ تعيدنا إلى الماضي، يومَ كان quot;سوق الناصرةquot; المكان يعجُ بالزائرين من كل مكانٍ، من أقصى شمال فلسطين إلى أقصى الجنوب، فكانت الناصرة، مركزًا للوافدين، وكان سوقها محطُ الأنظار.

كانت الوفود تأتي سوق الناصرة من كل حدبٍ وصوب، هنا زاوية للصاغة، وهنا زاوية للصباغة، والى جانبه محمصٌ، وسوق خضار، وسوق للنجارين، وسوق للملابس ما هبّ ودب، وسوق آخر لأجود الأسماك وأطيبها، وهنا يركزّ الاسكافي في عمله، حيثُ لا وقتَ لديه حتى لدعوة الآخرين.

تدخل من المنفذ العتيق، حيثُ يستقبلك باعة الملابس والأحذية، بالترحاب، وتصعد العتبة الأولى لتستقبلك ام كلثوم، حيثُ تتكدس الاسطوانات بالأغاني الطربية القديمة والأغاني السريعة والأجنبية، متجاوزًا هذا الممر، تجد فتحة هي مصلى شهاب الدين المعروف، تتابع سيرك نحو الفضاء الرحب، عابرًا شارع السوق، باتجاه كنيسة البشارة المعروفة، تتجاوزها، لتدخل مرّة اخرى الى السوق الضيّق، زقاق مُبلّط، ومحلاتٌ تجارية تقابل بعضها البعض، ملابس، وتحف وأحذية، وأثريات، وباعة أسماك، وصاغة.

تتابع مسارك متجاوزًا سراديب وممراتٍ ضيّقة، منتقلاً الى ساحة شكّلها التجار بصناديق الخضراوات المتناثرة، وإلى جانبها مخابز ومقاهي السوق، فإذا نويت الخروج من المكان ينتهي بك المطاف الى منطقة quot;العينquot; أو ساحة العذراء، حيثُ المكان التاريخي الذي يؤمه السواح من جميع بقاع العالم، للتبرك ببلد السيد المسيح عليه السلام، الذي قيل أنه ولد أو مرّ منها، فسميت المدينة بـ quot;الناصرةquot;، وهي تسمية مشتقة من quot;النصارىquot;(معجم ياقوت الحموي)، بينما وصل عدد سكان المدينة الى نحو 80 الف نسمة.

حالُ تجار السوق ليس بأحسن حال!!

أضرّ الوضع الاقتصادي الصعب بحال التجار في كل مكانٍ، وبخاصة التجار في سوق الناصرة، كونهم تعرضوا في العام 2000، إلى شبه اخلاء من قبل بلدية الناصرة، عندما بدأت بترميم المكان وتبليط أرضية السوق وتغيير أبواب المحال التجارية وإضاءة السوق، وترميم الأماكن الأثرية، هذه الحال جعلت جمهوراً كبيرًا من القاصدين يغيّرون وجهتهم الى أماكنَ أخرى، لتخف حركة الوافدين، لتعود وتنتعش في أيام رمضان وفترة الأعياد، وأيام الصيف عندما تكثر زيارات السياح الأجانب.

وفي هذا الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك، يعود الزائرون الى المكان، فهم يبحثون عن الأسعار المناسبة، ويحملون لأطفالهم فوانيس رمضان، وحاجيات الزينة، كما يستهويهم شراء اللحوم والأسماك والهدايا، ولأنّ المدرسة ما زالت في بدايتها، فهناك عائلاتٌ كثيرة لم تكمل شراء الحاجيات والملابس المدرسية، فتستكمل ما تبقى من احتياجات.

رمضان بين الأمس واليوم!!

يلتقي تجار السوق على اختلاف صنعتهم، على همٍ واحد وذكرياتٍ مشتركة، فجميعهم يحتفظ بدكانه الذي تركه له والده وجده، أطفالاً كانوا قبل أكثر من أربعين وخمسين عامًا، اليوم أصبحوا تجاوزتهم السنين، وتجاوزهم الكثيرون ممن كانوا يفدون إليهم في كل مناسبةٍ سعيدة، تغيّر الحال عليهم ولم يتغيروا، ضاق الحال بهم ولم يضيقوا بالمكان، فللسوق رائحة ذكية في نظرهم، لا يضيرهم رائحة الأسماك ولا اللحوم المعلّقة، ولا حب الاستطلاع المثير لبعض المشترين، الذين لا يحلو لهم سوى لمس الحاجيات وبعثرة كل ما هو مرتّب.

وفي رمضان تحديدًا، يطيبُ للمارة من الأطفال لمس التحف الصغيرة والاستمتاع بصوت الموسيقى الصادرة من الفوانيس، والتحديق في الزينة، والجري وراء بعضهم البعض لخطف الجميل من ألعاب الأطفال.

quot;أعشق هذا المكان، الذي ورثته عن والدي، وورثت منه أيضًا حبه للجيران من التجارquot;، يقول ادوار عزام ويضيف: quot;أجواءُ رمضان تغيرت بعض الشيء، كما تغير الحالُ في السوق، لطالما عايشتُ المسلمون من أكثر من أربعين عامًا، كانت سيماهم في طيبتهم وفي بساطتهم، وفي تواضعهم، أما اليوم، فقد اقتصرت العلاقات بينهم على الأسرة الواحدة، لم يعد الأخ يقلق لحال ابن عمه البعيد، وهي طبيعة لدى الجميع، لا فرق في ذلك بين المسلم والمسيحي، فالذي تغيّر هو عامل الزمن، الذي فرض على الإنسان أن يسير بخطواتٍ سريعة نحو التقدم والحضارة، بينما عاداتٌ قديمة جميلة في طريقها للزوالquot;.

وعزام الذي يملك حانوت بقالة وسط السوق، يرى أنّ أكثر ما أضر بالتجار هو المجمعات التجارية المتفرقة في منطقة الناصرة، وعندما كانت أماكن الوقوف مجانًا كان يسهل على الزائر أن يوقف سيارته قريبًا من السوق ويتناول حاجياته ويترك المكان، أما اليوم، فبمجرد أن يضع سيارته أصبح يُخالف بـ 100 شاقل، وهو أجرة يومٍ لعاملٍ بسيط، يقرر بعدها أنه لن يطأ المكان quot;نكايةً بالمخالفينquot;، فيضرب التجارة النصراوية في الأعماق.

يعود عزام ليتحدث عن أجمل العادات الرمضانية، وهي الكرم والعطاء واحتضان الغني للفقير، ودعوته الى العشاء المشترك، هذه العادات التي قلّت في هذه الأيام، لكنها كانت مصدر إسعاد لكثيرٍ من المحتاجين. أما أجمل ما يراه من عاداتٍ لا تزال تُمارس في رمضان فهي quot;صلاة التراويحquot; اليومية التي تعطي طابعًا دينيًا جميلاً وتقوي حركة الوافدين الى الناصرة ليلاً.

quot;وراء هجر السوق القديم في الناصرة لعبة سياسيةquot;!

يعتقد كثيرون من أصحاب المحال التجارية في السوق، أنّ سياسة عليا تقف وراء شلّ حركة الوافدين الى السوق، فمن جهة لا يستطيع الزائر للمدينة إيجاد مكانٍ قريب للسوق، ومن جهةٍ أخرى نُقل كبار التجار من السوق الى مجمعات كبيرة في منطقة الناصرة وضواحيها، وفوق هذا وذاك، فإنّ المشاكل المحلية بين فئةٍ وأخرى، تضر بحال التجار، فإن اختلف المسيحي والمسلم quot;بفعل سياسةٍ خارجيةquot;، كما يقول أصحاب السوق، فإنّ الزائر يغيّر وجهته، ولا يسلك طريق السوق، ثم إنّ هناك مشروع التواصل مع الضفة والقطاع، أضرّ بالتجار فلسطينيي الداخل، والنتيجة ضربة قاسمة في ظهرهم، رغم الأسعار المعقولة التي يسعّرها النصرويون... quot;صحيح أن الرزق على اللهquot;، يقول أبو خالد السوري، لكن هناك سياسةٍ عليا، تهدف الى ضرب التجارة في الناصرة، وإماتة المدينة وإحياء المدن اليهودية المحيطة بالبلدة.

quot;سوق الناصرة موروثٌ حضاري لا يستهان بهquot;

كثيرون من أصحاب المحال التجارية في قلب السوق، يرون في وجودهم ثباتًا في الأرض، وحفاظًا على موروث حضاري وفلسطيني لا يمكن التفريط فيه، حتى لو كانت الظروف الاقتصادية الحالية سببًا في سوء الحال، ويرى أمين محمد علي أبو عرب، (عمره من عمر النكبة)، أنّ وجود السوق بشكله الحالي وموروثه الحضاري وتاريخه العريق هو تأكيدٌ على الأرض والهوية الفلسطينية وعلى صمود الفلسطيني فوق أرضه. فلقد عملت إسرائيل وعلى مدار أكثر من 61 عامًا على تفريق الفلسطينيين وتحويلهم الى مجرد ملل ومجموعات: عربي، مسلم، مسيحي، درزي، شركسي، بدوي، لكنّ الفلسطيني استطاعَ أن يحافظ على تربته الفلسطينية الخصبة، ليخرج بأقل ضررٍ ممكن، إذ كان بالإمكان خسارة الهوية والأرض لولا صمود الفلسطيني وحفاظه على ثوابته.

ومن أبرز الموروثات الفلسطينية دبكة quot;الحاولوماquot;، والتي تنمّ عن تراثٍ فلسطيني أصيل، إضافة الى طقوس الفرح بكامله، وكذلك الحال بالنسبة quot;لأيام الترحquot;، إذ يتضامن أبناء البلدة الواحدة مع عائلة الفقيد، ولا يتركونهم في عزائهم، يشركونهم في الأحاديث وتخفيف الوجع، وفنجان القهوة العربية.

أما عادات رمضان، فقد تناقلها الفلسطيني وما زال يحافظ عليها، فاحترام الصائم واجبٌ تمليه علينا جميع الديانات، ولرمضان احترامه وتقديره في نظر الجميع، كما أنّ هناك جمالية في المحافظة على صلة الرحم، وعلى التزاور العائلي، وعلى تبادل الاحترام ونبذ الخلافات في أيام رمضان.
ويصف أبو عرب رمضان بـ quot;النكهة الخاصةquot; غير الموجودة في أشهرٍ أخرى.

quot;الاتكال على اللهquot;

نهلة ارسلان (ام ارسلان) وهي صاحبة محل للتحف والهدايا والأشغال اليدوية، تتحسر على الأيام الخوالي من رمضان، حيثُ كانت الحياة أبسط وأجمل بكثير، لم تكن الظروف المادية بهذه القسوة، ففي هذه الأيام الرمضانية يتوافد الزائرون الى السوق وقلّ ما يشترون بأثمانٍ جيدة، بل يكتفون بانتقاء الضروري، بسبب ما آل اليه وضعهم الاقتصادي.

وتؤكد ارسلان أنه لولا أنّ المحل ملكاً خاصًا لها لكانت تركت السوق منذ زمن، لكن quot;قلة الحيلة وظروف الفلسطينيين في هذه البلادquot;، تجعل التجار يرضون بحالهم ويتأملون خيرًا في الأيام المقبلة من رمضان، عشية عيد الفطر المبارك.

ام ارسلان تعزو الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمرُ به الأهل إلى دخول الطلاب الى مدارسهم ومصاريف شهر رمضان المبارك، مما زاد الحمل حمليْن وضاعف الحال سوءًا في سوق الناصرة.

وترى أنّ الناصرة خسرت مكانتها التاريخية بسبب التغيير في الاحتياجات، ففي السابق استفاد التجار من الصناعات المحلية، صناعة quot;الحلواةquot; وquot;الصابونquot; وquot;الكبريتquot;، وبفضل هذه المنتوجات المحلية ارتفع شأن السوق وازدهرت حال التجار، إضافة الى تلبية احتياجات العرائس من الكسوة ومستلزماتها، أما اليوم ففي كل بلدةٍ مجمعًا تجاريًا فيه الحلو والمر، ولم يعد من حاجة للتنقل من بلدةٍ لأخرى للحصول على ما يمكن نيله في وقتٍ أقل وبسعرٍ يضاهي سعر السوق.

كما ترى ام رسلان أنّ العلاقات الاجتماعية خفّت بصورة بارزة بارز، فالعائلات التي كانت تلمّ حولها أكثر من 10 أو حتى 20 نفرًا، بالكاد يجتمع أفراد العائلة الوحيدة، وقلّ عددهم الى النصف بفعل المحافظة على مستوىً عائلي جيّد بأقل عدد من الأطفال.

وتعترف ام ارسلان أنها تتناول وجبة الافطار مع ابنها وزوجها، وعندما تشتهي اللمة العائلية تدعو أشقائها وأبنائهم لمشاركتها افطار رمضان، ومعًا بالكاد يشكلّون العشرة أشخاص.