بدأت الألعاب الاولمبية في نسختها السادسة والعشرين في اتلانتا، وفي الذكرى المئوية لانطلاقتها في أثينا.

في هذه المناسبة تحطمت الأرقام القياسية كلها بالنسبة لعدد الدول المشاركة الذي بلغ 197 دولة. وتبارى من 19 تموز/يوليو إلى 4 آب/أغسطس 10320 رياضيا بينهم 3523 امرأة في 271 مسابقة ضمن 27 لعبة، وتوج في النهاية 842 رياضيا ورياضية في المراكز الثلاث الأولى.

واستعادت الولايات المتحدة المركز الأول في الترتيب العام برصيد 101 ميدالية بينها 44 ذهبية، تلتها روسيا ب63 ميدالية (26) ثم ألمانيا ب65 ميدالية (20). واستقرت الصين في المركز الرابع بـ50 ميدالية (16).

 مرسلي يعوض اخفاق برشلونة 

والمحصلة العربية كانت الأوفر حتى تاريخه، وبلغت ثلاث ذهبيات بفضل العداء الجزائري نور الدين مرسلي (1500 م) والسورية غادة شعاع بطلة العالم في المسابقة السباعية، والملاكم الجزائري حسين سلطاني في الوزن الخفيف، فضلا عن أربع برونزيات حققها المغربيان خالد بولامي (سباق 5 ألاف م) وصلاح حيسو (10 ألاف م)، والملاكمان الجزائري محمد بحاري (75 كلغ) والتونسي فتحي الميساوي (5ر63 كلغ).

وعلى غرار ما حصل في سيول وبرشلونة، إنحصرت الميداليات العربية في ألعاب ألقوى والملاكمة وكان المغربي هشام الكروج أبرز المرشحين لإحراز المركز الأول في سباق 1500 م وكان يجري خلف مرسلي، وعندما حاول تجاوزه قبل نحو 400 م من خط النهاية اصطدم بكاحل قدم مورسلي ووقع أرضا، في حين تابع الجزائري طريقه نحو حصد اللقب معوضا إخفاقه في دورة برشلونة.

وكان اللافت فشل المغاربة في حصد الذهب للمرة الأولى منذ أولمبياد لوس انجليس، وسرقت شعاع الأضواء بانتزاعها ذهبية السباعية من الاميركية جاكي جوينر كيرسي معوضة بذلك إخفاق الجزائرية حسيبة بولمرقة بطلة سباق 1500 م في برشلونة.

ويلاحظ ان 79 دولة أحرزت ميداليات في "الدورة الاميركية الجديدة" بينها 53 ذهبا.

ومقارنة مع برشلونة، تقدمت فرنسا من المركز التاسع إلى الخامس، وايطاليا من الحادي عشر إلى السادس، أما إنكلترا فكانت المفاجأة باحتلالها مركزا متأخرا جدا وعدم حصولها على أكثر من ذهبية واحدة في مقابل 5 ذهبيات في برشلونة.

أما الألعاب ال27 فكانت: ألعاب القوى والتجذيف وكرة السلة والبادمنتون والبيسبول والملاكمة والكانوي-كاياك والدراجات والفرنسية والمبارزة وكرة القدم والجمباز ورفع الأثقال وكرة اليد والهوكي على العشب والجودو والمصارعة والسباحة والخماسي الحديث، والكرة الطائرة، (ومن ضمنها الكرة الطائرة الشاطئية) والرماية والقوس والسهم والألواح الشراعية.

وفتح المجال أمام مشاركة الدراجين المحترفين ما منح الفرنسية جاني لونغو والأسباني ميغيل اندورين تتويجا أولمبيا في النهاية.

وعدلت أنظمة كرة القدم إذ سمح لكل منتخب بإشراك ثلاثة لاعبين فوق 23 عاما.

والى الكرة الطائرة الشاطئية، أعتمدت ضمن المسابقات سباقات الدراجات للضاحية (في تي تي) وكرة القدم النسائية وجاء لقبها اميركيا، والسوفت بول.

 تجمع بشري كبير 

بعد 12 عاما على ألعاب لوس انجليس المبتورة بسبب المقاطعة الشرقية ردا على "الموق " من ألعاب موسكو 1980، عادت المباريات الاولمبية إلى الحضن الاميركي الرحب. ومثل اختيار اتلانتا غايات تتعدى النطاق الاميركي والإرث الاولمبي، فالمدينة معقل شركة كوكا كولا احد المؤسسات الكبيرة الراعية للألعاب واللجنة الاولمبية الدولية، وشركة "سي بي اس" التلفزيونية التي دفعت 456 مليون دولار من حقوق النقل التلفزيوني للمسابقات والبالغة نحو 898 مليونا.

لذا فضلت اتلانتا على أثينا التي كانت تطمح باستضافة المئوية " لتكرر التاريخ " وبلغراد ومانشستر وملبورن وتورنتو.

المهم ان خطوة عملاقة تحققت في اتلانتا حين تناسى الجميع قصص المقاطعة كلها بوجود 197 دولة، والمتاعب المادية بفضل الوفر المحقق من خلال عائدات النقل التلفزيوني.

ولا شك ان محيي الألعاب الاولمبية الحديثة البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان، لن يتعرف على مولوده في "نسخته المئوية" لو تسنى له العيش حتى يومنا، لأنه أصبح عملاقا يضم أكثر من 10 الاف رياضي و 6000 مدرب و 15 الف صحافي و 103 الاف فرد لحفظ الامن، بينهم 42 ألف متطوع. وكانت الالعاب الاولى في أثينا عام 1896 انطلقت بمشاركة 241 رياضيا من 14 دولة.

شكلت الدورة أكبر تجمع إنساني في القرن العشرين، باعتبار ان الألعاب الاولمبية لا تزال ذات طابع أسطوري رمزي موحد، ولان اللجنة الاولمبية ألغت التمييز بين الاحتراف والهواية ما زاد من حماسة المشاركة. فشاهدنا في المباريات عمالقة من اللاعبين المحترفين، أمثال البرازيلي بيبيتو في كرة القدم، والاميركي أندريه أغاسي في كرة المضرب الذي اعتبر انه دخل التاريخ بميداليته الذهبية، والأسباني اندورين في الدراجات.

أما الطابع التجاري والإغراءات المادية فقد جعلت كثيرين يتهافتون للاستفادة لان هذه الألعاب البالغة تكاليفها 1،7 مليار دولار، درت على منظميها أكثر بكثير، ويبقى القاسم المشترك لمعظم المشاركين ما ردده ابن المدينة مارتن لوثر كينغ "عندي حلم" وذلك في 27 آب/أغسطس 1963، حين عبر عن حلمه بان يجلس أبناء المستعبدين وأبناء المستبعدين معا وراء طاولة الحرية.

ففي أتلانتا التي يشكل السود نسبة 70 في المئة من سكانها، أقسمت لاعبة كرة السلة السمراء تيريزا ادواردز القسم الاولمبي، أما الذي أضرم النار موقدا الشعلة الاولمبية، فهو بطل العالم السابق في الملاكمة محمد علي كلاي الذي طلب المنظمون من السباحة البيضاء البطلة الاولمبية جانيت إيفانز أن تبقى مستعدة لتقديم المساعدة له، في حال دعت الحاجة وواجه صعوبة بعدما سلمت الشعلة له كون "الأسطورة" مصاب بمرض باركنسون. وتقدمت منه لاعبة كرة المضرب الاميركية مونيكا سيليش وقالت له: " إننا نحبك ونحن سعداء بوجودك معنا".

أما رئيس اللجنة الاولمبية الدولية خوان انطونيو سامارانش فقد سلم محمد علي ميدالية ذهبية عوضا عن تلك التي أحرزها في دورة روما عام 1960، ورماها في نهر أوهايو استياء لطرده من مطعم ومطاردته من قبل عصابة من البيض.

كما شهدت أتلانتا بعض مظاهر التآلف والسلام. وقال الرئيس الاميركي الأسبق جيمي كارتر ان وجود رياضيين كوريين شماليين وفلسطينيين في الدورة، برهان على ان المسابقات الرياضية تحطم الحواجز كلها...

على ان سلبيات عدة حصلت ولم يستطع المنظمون تحاشيها، وقد بدأت المشكلات المرتبطة بالتنظيم والاستضافة تظهر مباشرة بعد حفلة الافتتاح، إذ تبين لعدد كبير من الحضور، انه من المستحيل الوصول إلى الباصات والحافلات المخصصة لنقلهم إلى فنادقهم، ما اضطر بعضهم إلى "اجتياح" الباصات الموجودة، وقد دخلها أيضا البعض من الشبابيك في أجواء متوترة، فيما آثر ذوو الأعصاب الباردة العودة مشيا مهما طالت المسافة.

وتبين أن سمعة المدينة إزاء تمتعها بشكبة مواصلات متطورة بعيدة جدا عن الواقع، واعترف سامارانش انه خدع حين صدق ما قيل عن تجهيزات أتلانتا في المواصلات، وبدا ان سكان المدينة أنفسهم مخدوعون بقدراتها، وان الاهتمام المفرط بالأمن والخوف من الإرهاب أدى إلى الإخلال بتأمين الشروط المطلوبة في المواصلات، ولكن مع ذلك حصلت خروقات للستار الحديدي الأمني، فاعتقلت الشرطة رجلا مسلحا بمسدس و 11 طلقة، دخل الملعب بزي رجل أمن قبيل وصول الرئيس بيل كلينتون لحضور حفلة الافتتاح.

انفجار المنتزه 

كما ان الانفجار الذي هز المنتزه المئوي الاولمبي، كشف أيضا عن وجود ثغرات مخيفة في جهاز الأمن، وشكل نقطة سوداء كبيرة.

وقع الانفجار عند الواحدة و20 دقيقة صباح 27 تموز/يوليو، وأدى إلى سقوط قتيلين وإصابة أكثر من 110 أشخاص بعضهم إصابات بالغة.

وقبل ساعات قليلة من الانفجار، أعلن شخص من خلال كشك للهاتف ان قنبلة ما وضعت في مكان ما، ووجه الاتهام في الوهلة الأولى رسميا إلى ريتشارد جويل الذي كان أعلن أنه شاهد حقيبة مشتبه فيها وابلغ أجهزة الأمن، لكن تمت تبرئته من قبل مكتب التحقيقات الفيدارلي (اف بي أي) في تشرين الأول/أكتوبر 1996.

وفي نهاية عام 1998، وجه الاتهام إلى اريك رودولف المعروف بأفكار اليمين المتطرف، وثلاثة أشخاص آخرين.

ومن السلبيات أيضا ان أجهزة الكومبيوتر التي يتغنى بها الاميركيون، والتي كان يفترض ان تعكس فكرة عن التطور المرتقب والمذهل في القرن الحادي والعشرين، سببت أخطاء أربكت القيمين على المباريات وإصدار النتائج.

وطبعا لا يمكن ان تكون الأمور سيئة كلها في أتلانتا، إذ طور مختبر فحص المنشطات، ولم تكشف حالات ايجابية عند النجوم المميزين، ومع ان الفحص الذي خضعت له الكوبية استيلا رودريغيز اثبت أنها منشطة، لكنها لم تنل سوى إنذار وبالتالي احتفظت بميداليتها الفضية في الجودو (وزن فوق 78 كلغ) لان مادة "فوروسيميد" المدرة للبول التي تناولتها عير مدرجة على لائحة المحظورات.

والسلبيات كلها في أتلانتا لم تطغ على الإنجازات التي حققها الإبطال المشاركون، إذ حفلت الدورة بتحطيم 21 رقما قياسيا عالميا حقق الرباعون معظمها، وأبرزها الرقم الاعجازي الذي حققه العداء الاميركي مايكل جونسون في سباق 200 م والذي سيبقى معمرا لسنوات عدة (32ر19 ث) معززا أيضا بفارق 0ر34 ث رقمه العالمي الذي سجله قبل نحو شهر من خلال منتخب بلاده،.

وكذلك الرقم العالمي الأخر الذي حققه الكندي دونافان بايلي في 100 م (84ر9 ث) فهزم الاميركيين في اختصاصهم وبيض صفحة بلاده بعد فضيحة بن جونسون في سيول 1988.

وتأخر إطلاق السباق نحو سبع دقائق بسبب استبعاد حامل اللقب البريطاني لينفورد كريستي لارتكابه خطأين. واللافت ان الثلاثة الأوائل في سباقي 100 و200 م كسروا حاجزي ال10 وال20 ثانية، ما اعتبر أسرع سباقين أولمبيين حتى تاريخه.

وأضاف جونسون صاحب الأسلوب الخاص في الجري إلى الفوز في 200 م، ذهبية 400 م. وحذت حذوه الفرنسية ماري جوزيه بيريك في 400 م، وعادلت رقم الاميركية فاليري بريسكو هوكس (لوس انجليس 1984)، وباتت أول رياضية بين الرجال والسيدات تحافظ على لقب السباق، في أولمبيادين متتاليين.

واحتفظ الاميركي كارل لويس باللقب الاولمبي في الوثب الطويل للمرة الرابعة على التوالي، وحصد ميداليته الذهبية التاسعة منذ 1984.

وحقق الرباع التركي نعيم سليمان اوغلو ذهبيته الثالثة على التوالي وحطم ثلاثة أرقام عالمية في وزن 60 كلغ. وحصدت السباحة المجرية كريستينا ايغرتشيغي ميداليتها الذهبية الخامسة. وبرزت نجمة جديدة في الحوض الاولمبي هي الايرلندية ميشيل سميث الذي فازت بثلاث ذهبيات وبرونزية (400 م حرة و 200 م متنوعة و400 م متنوعة و200 م فراشة).

وبات الروسي ألكسندر بوبوف أول سباح منذ الاميركي جوني فايسمولر عام 1928، يحرز ذهبية سباق 100 م حرة للمرة الثالثة على التوالي.

وخاض النمسوي هوبرت روادا سشال أولمبياده التاسع في الألواح الشراعية منذ 1964، وهو أنجاز غير مسبوق.

ووصل نجوم عالميون إلى نهاية سعيدة لأحلامهم بحصولهم على أول لقب اولمبي ينقص سجلاتهم الحافلة بالإنجازات العالمية، من أبرزهم الكندي بايلي والاميركي اغاسي والجزائري مرسلي والأسباني اندورين والفرنسية لونغو، وبطلة الوثب العالي البلغارية ستيفكا كوستادينوفا.

في المقابل، فشل أبطال عالميون وأولمبيون في المحافظة على ألقابهم بسبب الإصابة أو الخسائر، وأبرزهم البيلاروسي فيتالي شيربو (الجمباز)، والاوكراني سيرغي بوبكا الذي فشل للمرة الثانية في القفز بالزانة، والعداء البريطاني كريستي، والعداءة الجامايكية مارلين اوتي، والجزائرية بولمرقة، وبطل الوثب العالي الكوبي خافيير سوتومايور، وبطلة المسابقة السباعية الاميركية كيرسي، وبطل الوثبة الثلاثية حامل الرقم القياسي العالمي البريطاني جوناثان ادواردز (29ر18 م)، وعداء السرعة الناميبي فرانكي فريدريكس.

وقلبت نيجيريا التوقعات في مسابقة كرة القدم فأخرجت البرازيل في نصف النهائي (4-3 بالهدف الذهبي)، ثم تغلبت على الأرجنتين في النهائي (3-2) لتصبح أول دولة أفريقية تحرز الذهب.

ويبقى القول ان دورة أتلانتا شهدت أحداثا رياضية هامة، ولكنها لم ترتق إلى مصاف الدورات التاريخية، وهذا ما يفسر وصف سامارانش لها بعبارة "أتلانتا حسنا فعلت".