الأوضاع المتدهورة في وسط وجنوب العراق طيلة السنوات السبع المنصرمة التي أعقبت الإحتلال لأميركي للبلد قد حجبت الكثير من اخبار وصيغ محاور الصراع في شمال العراق أي في إقليم كردستان الذي يعيش هو الآخر متغيرات بنيوية كبرى للغاية، وحيث يعاني الشعب الكردي كشقيقه الشعب العربي في العراق من تسلط الزعامات العشائرية و من روايات وقصص الفساد الأسطورية و من تداعيات و تحالفات الماضي القريب جدا، و أوراقها المخفية و المعلنة، فليس سرا إن كردستان العراق في الوقت الحاضر لم تكن كما كانت في الماضي بعد أن عاش شعبها فترة تحرر و خلاص حقيقية من الحكم المركزي القوي و سياساته التعسفية التي سببت مآسي عميقة للغاية بحق الشعب الكردي نتيجة للحروب و الصراعات ورد الدولة المفرط و المبالغ به في إستعمال القوة و القمع و التهجير و حملات الإنتقام الجماعي فضلا عن الإعتقالات التعسفية الشاملة و ملفات المغيبين و المختفية آثارهم لم تزل تطرز الذاكرة الكردستانية المرهقة، ولكن بالمقابل فإن غالبية الشباب الكردي في العراق تعيش اليوم حقيقة أن القيادات الكردية من خلال إدارتها للسلطة لم تستطع أن تقدم الشيء الكثير للشعب، فالقمع و الإقصاء و ملفات الفساد أضحت من الظواهر اليومية المعاشة، فهنالك أكثر من عشرة آلاف معتقل سياسي، كما أن جهاز المخابرات الكردي يمتاز بنشاطاته المفرطة في تعقب و إعتقال المخالفين و المعارضين للقيادة الكردية التي تتقاسمها حكومتي أربيل وحيث عرين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني رئيس إقليم أو دولة كردستان العراق، و السليمانية التي هي حصن الإتحاد الوطني الكردستاني و رئيسه جلال طالباني الذي هو أيضا رئيس جمهورية العراق؟ وليس بخاف على أحد من أن الكراهية و النزاع بين الحزبين الكبيرين له خلفية و جذور تاريخية متأصلة منذ اعوام طويلة اي منذ إنشقاق طالباني عن قيادة برزاني الأب و سعي الأخير لقتله و إستئصاله و لم تستطع كل الإبتسامات الدبلوماسية و الحملات التوافقية لتقاسم السلطة من إخفائها!! و يكفينا أن نتذكر إن الرئيس الكردي مسعود بارزاني كان قد إستعان بقوات صدام حسين ( خصم الطرفين المفترض) و حرسه الجمهوري لطرد خصمه اللدود جلال طالباني من أربيل التي إحتلتها قواته صيف عام 1996 لتأتي جحافل الحرس الجمهوري و تسلم أربيل من جديد للقيادة البارزانية وطرد قوات حزب الطالباني حتى الحدود الإيرانية في واحدة من اعجب و أغرب صفحات الصراع الداخلي في العراق و بما يذكرنا بأيام دول الطوائف في الأندلس حيث كان الأمراء المتصارعون فيما بينهم يلجأوون لطلب مساعدة الأسبان لحرب أشقائهم و أولاد عمومتهم!!

و بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 تم التفاهم بين الحزبين المتصارعين على صيغة توافقية لتقاسم السلطة و الموارد في كردستان يضاف لذلك كله إن ميزانية الإقليم تمول أيضا من خزينة الدولة المركزية رغم أن الإقليم عمد أيضا لإستثمار آبار البترول في كردستان و تسليمها لشركات نفطية خاصة نرويجية و غيرها!

و حيث بدأ الشفط و اللهط و الفساد المالي المريع الذي جعل من كردستان رغم أمانها الأمني منطقة طاردة لسكانها و شبابها الذين إستمروا في طرق أبواب اللجوء لدول العالم دون توقف بسبب الأزمة الإقتصادية و الفساد الإقتصادي المستشري، و هيمنة أهل الحزبين الرئيسيين على السلطة و القرار و الموارد المالية، و في سبيل ذلك برزت الصراعات البينية من جديد خصوصا في جبهة حكم الرئيس جلال طالباني وحيث إنشق عته أحد أهم قيادات حزبه وهو السيد مصطفى أنوشروان الذي أعلن عن رفضه للفساد و تمرده على الفوضى الإدارية وعلى عدم إستلام موظفي الإقليم لرواتبهم رغم تحويل الدولة المركزية في بغداد المبالغ اللازمة لذلك إضافة لإستيقاط التناقضات الفكرية و السياسية و الخلاف في المنهج السياسي العام مما إستدعى أيضا فتح ملفات التاريخ القريبة جدا و خصوصا فتح ملف ( مأساة قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية عام 1988 ) في حملات الأنفال العسكرية، وحيث يتهم الطالباني نائبه السابق أنوشيروان ( زعيم حركة التغيير ) بأنه هو من أدخل قوات الحرس الثوري الإيراني لمدينة حلبجة لكي يقوم صدام بعد ذلك بقصفها بالأسلحة غير التقليدية ( الكيمياوية )!! فيما يرد أنوشروان على تلك الإدعاءات بقوله إن الطالباني كان يتاجر بمأساة حلبجة لأنها نقلت القضية الكردية لمسرح السياسة الدولية!!، و غني عن الذكر إن حزب الطالباني كان يقيم أرفع العلاقات مع إيران أيام الحرب العراقية/ الإيرانية حتى أنني أتذكر تصريح سابق أطلقه أنوشروان مصطفى عام 1987 كان يتفاخر فيه بعلاقات الإتحاد الوطني الكردستاني مع طهران بل و يدعو فيه صراحة لتقسيم العراق!!!؟ رغم أن جلال طالباني كان متذبذب في العلاقة مع صدام حسين فهو في أواخر عام 1983 تحالف مع نظام صدام حسين بالضد من حلفائه في المعارضة العراقية السابقة وجبهة ( جوقد ) تحديدا التي كانت تنطلق من دمشق وقتذاك، ثم إنقلب على نظام صدام قبل أن يعود لأحضانه مرة أخرى بعد حفلات القبل الشهيرة في ربيع 1991 و بعد إنتفاضة الشعب العراقي وقتئذ بعد الهزيمة في حرب تحرير الكويت.

و الواقع إن في صفحات الصراع الداخلي الكردي قضايا و ملفات عالقة و شائكة قد تفضح العديد من الأسرار التي كانت تقف خلف العديد من مآسي و ملفات الصراع في الشرق الأوسط!.. التغيير في كل مكان و لن تكون كردستان إستثناءً بأي حال من الأحوال.

[email protected]