ما الذي يدفع الهندوس إلى تقديس البقر وتجنب الاستفادة من لحمها وهم الذين يعانون من فقر شديد؟ وما الذي يجمع اليهود والمسلمين في الامتناع عن لحم الخنزير؟ وهل هناك ما يربط هذا الرفض بالإفراط الرهيب في تناول لحم الخنزير عند سكان جزر نيو غينيا؟ وماذا عن نوبات الكرم الشديد التي تقترب من السفة والتي تصيب زعماء قبائل؟ وكيف يستقيم وأد الفتيات مع حاجة المجتمعات البشرية لكلا من الذكور والنساء لضمان الاستمرار؟ كذلك كيف نفسر الحروب الطاحنة بين القبائل البدائية؟ وهل هناك ما يربط المسيحية بمقاومة الاستعمار؟ وهل هناك تعليل لظاهرة تعذيب الساحرات وقتلهن التي شهدها العالم الغربي في العصور الوسطى؟


تبدو محاولة التوصل إلى أجوبة وتفسيرات عقلانية لتلك الأسئلة مهمة ليست باليسيرة، لكن عالم الأنثروبولجيا الثقافية الأمريكي مارفين هاريس قرر التصدي لذلك التحدي في كتابة quot; أبقار، وخنازير، وحروب، وساحرات. ألغاز الثقافات.quot; الصادر عام 1974. ويحاول هاريس، الذي شعل منصب أستاذ الانثربولجيا بجامعة كولومبيا، إيجاد تفسيرات عقلانية لظواهر إنسانية تبدو مستعصية على العقل معتمدا على المادية الثقافية التي ظل من أشد المدافعين عنها حتى وفاته عام 2006. فهاريس يرفض التفسيرات الدينية والميتافزيقية للظواهر الإنسانية ويرى انه من الممكن تحليلها بالنظر إلى الظروف المادية التي خرجت فيها تلك الظواهر للنور، مثل طبيعة البيئة الجغرافية والنشاط الاقتصادي والعلاقة مع المجتمعات المجاورة.


ويبدأ هاريس كتابه بتناول قضية إمتناع الهندوس عن تناول لحوم البقر على الرغم من الفقر المدقع والمجاعات التي يعانون منها. ويسرد الإحصائيات التي تتحدث عن وضع الهند الاقتصادي ومستوى معيشة سكانها المتدهور وكيف أن الأرقام تكاد تصرخ مطالبة الهندوس بالتخلي عن معتقاداتهم الدينية والبدء بتقنين تناول لحوم البقر وهو الأمر الذي قد يمثل حلا لأزمة سوء التغذية التي يعاني منها ذلك البلد ذو الكثافة السكانية الكبيرة. ومما يزيد الأمور تعقيدا أن تقديس الهندوس للبقر تسبب في أحداث شغب وقتال بينهم وبين أبناء وطنهم من المسلمين الذين لا يعارضون تناول لحوم البقر وهو الأمر الذي راح ضحيته الالاف. لكن هاريس ينظر للأمر من زاوية مختلفة حيث يرى أن امتناع الهندوس عن تناول لحوم البقر يمثل استجابة للظروف البيئية والمناخية والاقتصادية التي يعيشون فيها. حيث يشير إلى أن الهند تعاني من نقص حاد في عدد الثيران، وهو الأمر الذي يعد في غاية الخطورة حيث أن الثور يمثل أحد العناصر الأساسية في عملية حرث الأرض في الهند وهي البلد التي تعتبر الزراعة النشاط الأول فيه.وهكذا فإن الحفاظ على الأبقار يعد غاية في الأهمية حيث أنها هي التي تلد الثيران. كذلك فإن مخلفات البقر تعد مصدر للطاقة حيث تستخدم في إعداد النار للطهي. كما أن مواسم الجفاف الطويلة التي تتعرض لها الهند قد تكون واحدة من الأسباب التي تدفع الهندوس لتقديس البقر. فإن أقدم المزارعون على قتل أبقارهم فإن هذا يعني التخلي عن ألبانها التي ستكون في غاية الأهمية أثناء مواسم الجفاف كما يعني أيضا الاستغناء عن الثيران التي ستنجبها الأبقار وهي التي ستكون في غاية الأهمية بعد انتهاء مواسم الجفاف.


ومثلما يتجاوز هاريس التفسيرات الدينية لتقديس الهندوس للبقر فإنه يسلك الدرب ذاته في تناوله لتجنب اليهود والمسلمين لحوم الخنازير وهو الامر الذي يرى أنه يمثل موقفا غير عقلانيا حيث أن الخنازير تستطيع تحويل الحبوب والبذور النباتية إلى دهون وبروتين حيواني أكثر من غيرها من الحيوانات.


ويستعرض هاريس للتفسيرات التي طرحت لتفسير تجنب الخنازير بداية من وصمها بالكائنات القذرة حيث تغتسل في بولها كما تتناول فضلاتها، وهو التفسير الذي لا يراه مقنعا. حيث يشير إلى أن الأبقار التي تعيش في مساحات ضيقة تقوم بالشيء ذاته كما انها تتناول فضلات البشر في حالة ما مسها الجوع وهو نفس حال الكلاب والطيور الداجنة. ثم يتطرق الكتاب إلى محاولة عالم اللاهوت والفيلسوف اليهودي موسى بن ميون إرجاع الأمر إلى التأثير الضار الذي تحدثه لحوم الخنازير في الأجساد البشرية. لكن هاريس يناقش هذا الرأي الذي يرى أنه يغفل حقيقة أن أي نوع من اللحوم الأخري قد يتسبب في أضرار صحية في حال ما لم يتم طهية جيدا وأن الأمر غير قاصر على لحوم الخنازير. ويقدم هاريس تفسيرا للأمر يربط بين التحريم وطبيعة البيئة التي شهدت خروج النهي الديني إلى النور. فكلا من اليهودية والإسلام قد ظهرتا في مجتمعات رعوية يندر بها هطول الأمطار وتبدو الكائنات الأكثر ملائمة لتلك البيئة هي الحيوانات المجترة ndash; التي تقوم بهضم الطعام عبر عمليتين ndash; مثل الأبقار والأغنام التي يمكن أن تعتمد على غذائها على العشب وغيره من النباتات ذات النسبة العالية من مادة السيليلوز. وهنا تختلف الخنازير، حيث أنها لا تقوم باجترار الطعام وبالتالي فإنه من الصعوبة أن تعيش على العشب و يتكون غذائها في أغلبه من النباتات ذات نسب منخفضة من مادة السيليلوز مثل البذور والحبوب وهي المواد التي يعتمد عليها البشر في غذائهم بصورة اساسية، وهو ما يعني أن الخنازير تنافس البشر على الطعام. وعلاوة على كون الخنازير لا تنتج ألبان بنفس الحجم الذي تقدمه غيرها من حيوانات الماشية فإنها لا تتأقلم بسهولة مع المناخ شديد الحرارة. لهذا فإن التحريم الألهي الخاص بلحوم الخنازير جاء ليضع حدا للأغواء التي تقدمه الأخيرة للسكان. فقد تمثل لحومها مصدرا هاما للبروتين الحيواني إلا أن تربية الخنازير سيكون لها أثارا ضارة على المدي البعيد.


ويتطرق هاريس إلى الظاهرة المعاكسة تماما والتي يطلق عليها عشق الخنازير في العديد من قبائل المارينج بنيو غينيا والتي تصل إلى اعتبار الخنازير من ضمن أفراد العائلة. لكن ذلك العشق لا يقف عائقا أمام المذابح التي يقوم بها أفراد القبائل للخنازير والتي تتخذ شكل عيدا يقام كل عقد من الزمان ويشهد التضحية بمعظم الخنازير وتناول لحومها. ويعقب تلك الاحتفالات حروبا عنيفة مع القبائل المجاورة. وبعد أن تضع الحرب أوزارها يعاود أهل القبائل تربية الخنازير حتى موعد العيد المقبل. وتبدو تلك الممارسة عصية على التفسير المنطقي، فلماذا يقبل سكان القبائل على لحم الخنازير بتلك الطريقة؟ ولماذا هذا الطقس الغريب في التضحية بكل الخنازير ثم معاودة تربيتها؟ يرفض هاريس الرؤية المتعالية التي تنظر لسلوك الجماعات البدائية بوصفه غير مبرر عقليا ويؤكد على أهمية الخنازير بالنسبة لسكان غينيا الاستوائية حيث أنها تمثل المصدر الوحيد والأساسي للبروتين الحيواني كما أن الطبيعة الجغرافية للجزر تجعلها مثالية لتربية الخنازير. ويبرر هاريس تقليد عيد ذبح الخنازير بالحمل الثقيل الذي تمثله تربية الخنازير على نساء القبائل وهو الحمل الذي يتزايد بزيادة أعداد الخنازير وهكذا يأتي التخلص من الخنازير لرفع الحمل الثقيل من على كاهل نساء القبائل. كما أن العيد يشهد ايضا دعوة أعضاء من القبائل المجاورة الذين يقيمون ثروة القبيلة بحجم الخنازير التي يتم التضحية بها وكلما زادت الخنازير كلما زادت ثروة القبيلة وقوتها وبالتالي تزايد الخوف منها وزادت الرغبة في التحالف معها.


ويواصل عالم الأنثروبولجيا الأمريكي مارفين هاريس محاولاته لتقديم تفسيرات لظواهر بشرية تبدو غير عقلانية. فهو يحاول أن يجيب عن التساؤل حول السبب الذي يدفع القبائل البدائية إلى الدخول في حروب مع جيرانها رافضا وجهة النظر التي ترى في الإنسان كائنا يميل في طبيعته إلى الحرب وسفك الدماء. ويرى هاريس أن الحروب بين القبائل البدائية تكون استجابة لما يسميه quot; الضغط السكانيquot; أي أن معدل الزيادة السكانية يشكل تهديدا للموارد الغذائية وهنا تأتي الحروب كألية للحد من الزيادة السكانية التي تعرض المجتمع البدائي للخطر بجانب أنها تتيح للمنتصر موارد غذائية اضافية.


ويربط هاريس بين تفسيره للحروب في المجتمعات البدائية وبين ظاهرة أخرى تبدو غير متسقة مع الواقع وهي وأد الفتيات الصغيرات. فقتل الرضيعات يثير الكثير من التساؤلات حول مدى عقلانية تلك المجتمعات التي تقر تعدد الزوجات وغالبا ما يكون أسر نساء الأعداء هو الغاية الأساسية للكثير من الحروب، فكيف يستقيم هذا مع ظاهرة وأد الفتيات؟ يحاول هاريس تقديم إجابة تتسق مع ماديته الثقافية مستشهدا بنموذج قبائل اليانومامو التي تعيش في منطقة غابات الأمازون بأمريكا الجنوبية. ويشير هاريس إلى أن صيد الحيوانات من الغابة هو النشاط الوحيد الذي يوفر لقبائل اليانومامو البروتين الحيواني في غذائهم. هذا وتجدر الإشارة إلى أن الذكور هم المنوط بهم ممارسة القنص. وهنا يقدم هاريس الأسباب التي تدفع قبائل اليانومامو لوئد الفتيات والتي تتلخص في أن زيادة نسبة الذكور عن النساء تعني ارتفاع نسبة البروتين الحيواني الخاصة بالفرد حيث أن الذكور هم الذين يقوموم بالقنص. كذلك فإن وئد الفتيات يحد من خطر الزيادة السكانية التي تعرض المجتمع للخطر، وأخيرا فإن تلك الممارسة ستؤدي إلى إشعال الحروب والتي يحصل فيها المنتصر على الموارد الغذائية للفريق المنهزم بجانب نساءه أيضا.


ويعرج هاريس على ظاهرة نوبات الكرم الشديد التي تصيب زعماء بعض القبائل البدائية والتي تصل أحيانا إلى حد السفه والتي يرى أنها تمثل نوع من العلاج للتفاوت الكبير في القدرات الأقتصادية بين القبائل بحيث يحصل أفراد القبائل ذات الموارد الأقتصادية المحدودة على ما يكفيهم من موارد غذائية.


ثم يعود هاريس ويتناول قضايا دينية وبالأخص علاقة الديانة اليهودية بالمسيحية. حيث يناقش فكرة المسيح أو المخلص في العقيدة اليهودبة التي يرى أنها تمثل رد فعل على الاستعمار اليوناني الروماني الذي عايشته فلسطين منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادي. فعقيدة المسيح المخلص من وجه نظر هاريس هي مذهب سياسي يرتدي مسوح الدين ويهدف إلى مكافحة الاستعمار وتبعاته الاجتماعية والاقتصادية والتي تتمثل في اتساع التفاوت الطبقي بين الرومان وحلفائهم من جهة وباقي الشعب اليهودي من جهة اخري. فالمسيح المخلص سيأتي ليسطر نهاية لذلك الفصل المظلم من التاريخ ويؤسس عهدا جديدا قائم على العدل. ثم يربط هاريس بين وجهة نظره حول عقيدة المسيح المخلص والعقيدة المسيحية. حيث يشير إلى أن المسيحية قد ظهرت في زمن كانت البلاد تشهد فيه الكثير من الحركات اليهودية المسلحة ضد الرومان وهي الحركات التي يقول أن المسيحية كانت بمثابة امتدادا لها. حيث يرى هاريس أن المسيحية لم تكن سوى حركة عصيان يهودية تعارض الحكم الروماني والمتعاونين معه. ويحاول هاريس تقديم أدلة من الأنجيل والتوراة لتدعيم وجه نظره كذلك يقوم بتأويل احداث وروايات تاريخية تأويلا يتفق مع رأيه ومنها إشارته إلى حادثة دخول المسيح القدس على ظهر حمار والتي لا يرى أنها ترمز للتواضع والزهد بقدر ما تمثل لفتة سياسية تتلخص في أن المسيح لم يمتطي ظهور الخيل مثلما يفعل الرومان المحتلين بل فعل مثلما يفعل الثوار اليهود.


لكن ماذا عن ما تحتويه الأناجيل من الكثير من الأيات التي تدعو للسلم؟ يبرر هاريس الأمر بالقول أن فترة تدوين الأناجيل في القرن الأول الميلادي قد شهدت مواجهات عنيفة بين الدولة الرومانية وحركات المعارضة اليهودية انتهت بهزيمة الأخيرة ولهذا كان لابد أن يتخلى كاتبي الأناجيل عن لغة المعارضة والمقاومة ويستبدلوها بلغة سلمية لا تعادي الدولة المنتصرة.


ولا يترك هاريس عالم المسيحية دون أن يحاول العثور على تفسير لظاهرة الساحرات التي شهدتها أوروبا في العصور الوسطى. فكتب التاريخ الأوربي الوسيط تمتلئ بروايات عن مشاهدات لساحرات يسبحن في الفضاء ويقمن بأفعال خارقة للطبيعة وهو ما يرجعه هاريس إلى تأثير أنواع من الأعشاب المخدرة التي تحدث تأثير أشبه بحبوب الهلوسة. لكن هاريس يشدد على أن ظاهرة الساحرات هي في أصلها من اختلاق الكنيسة الكاثوليكية كرد فعل على الكثير من الحركات الاحتجاجية الأجتماعية.


ويسير هاريس على الدرب نفسه في تفسيرة للكثير من الظواهر البشرية التي تبدو غير عقلانية مثل اعتقاد بعض القبائل البدائية في ألوهية طائرات النقل التجاري وصعود نجم الحركات الروحانية في القرن العشرين.


أخيرا تجدر الإشارة أنه وعلى الرغم من النزعة المادية المتطرفة التي يظهرها هاريس في كتاباته إلا أنه يمثل واحد من أبرز علماء الأنثربولجيا الثقافية في الولايات المتحدة ولا يزال له الكثير من المريدين في الجامعات الأمريكية الذين لا يقل تحمسهم له ولمنهجه عن تحمسه هو للمادية الثقافية.