حتي وقت قريب كان الفرنسيون يؤكدون بأن quot;نيتشهquot; فيلسوف فرنسي كتب باللغة الألمانية! ما بدد هذا الزعم هو الفيلسوف الألماني المعاصر quot;بيتر سلوتردايكquot;، العدو اللدود للكانطية الجديدة المتمثلة في أعمال بلدياته أيضا، quot;يورجن هابرماسquot; الملقب بشيخ الفلاسفة والمدافع الأكبر عن الحداثة في الغرب.
quot;نيتشهquot; (1844 - 1900).. الأب الروحي لما بعد الحداثة، رفض مفهوم quot;التجاوز الجدليquot; - Aufhebung الذي احتل مكانة بالغة في الفلسفة الغربية، ودشن مفهومًا ألمانيًا آخر هو - Verwindung، يشير، حسب جياني فاتيمو، إلى (تخط يحتفظ في ذاته بملامح القبول والتعمق)، وبالتالي لم يعد من مهمة للفكر أو موضوع له ndash; بعد نيتشه - سوى أن يجوب متاهات الميتافيزيقا، ليس من أجل تجاوزها، فهي أفق لا يتجاوز، وهي مثل ظلنا الملازم لنا، وإنما من أجل البحث عن مكان كائن في quot; الما بعد ndash; Post quot;، وهو ما يقوم به فلاسفة ما بعد الحداثة اليوم، أمثال: ميشيل فوكو، جيل دولوز، جاك دريدا، وبيتر سلوتردايك، وغيرهم.
ولد quot; بيتر سلوترديك quot; في 26 يونيو عام 1947 في quot; كارلسروه quot; ndash; Karlsruhe. ودرس الفلسفة والتاريخ في جامعة quot; ميونخ quot; ndash; Munich، وحصل علي الدكتوراة من جامعة quot; هامبورج quot; ndash; Hamburg عام 1975. ومنذ العام 1980 وهو ينشر مؤلفاته الفلسفية، وأهمها كتاب quot; نقد العقل الساخر quot; عام 1983، الأكثر مبيعا في اللغة الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية (ترجم إلي اللغة الإنجليزية عام 1987).
وإلي جانب عمله أستاذا للفلسفة وعلم الجمال في جامعة كارلسروه، سلوتردايك من أبرز أعلام النقد الثقافي في أوروبا، ونجح في نقل الفلسفة إلي التليفزيون (ساحة أثينا الجديدة) منذ العام 2002 من خلال قناة (ZDF) الألمانية، التي تستضيف أصحاب الفكر والرأي لمناقشة قضايا المجتمع والعالم برؤية فلسفية ابداعية في برنامجه الشهير quot; المربع الفلسفي quot;.
والنقد الثقافي هو عملية مزدوجة للذات والموضوع معا، وأصبح من أهم مقومات ما بعد الحداثة اليوم، التي أنهت quot; الثنائية quot; الديكارتية بين الروح والجسد، الثقافة والطبيعة، الفكر والواقع، وفتحت آفاق جديدة للتواصل والتفاعل ليس بين البشر فقط وإنما بين الكائنات والآلات جميعا.
في ثلاثيته الشهيرة (Spheres)، وصدرت تباعا أعوام: 1998 و1999 و2004، يدعو سلوتردايك إلي اكتشاف فضاءات جديدة (مهملة) وخفية، لأن وظيفة العلم والفلسفة والدين هي البحث عن هذه اليوتوبيا المفقودة بالكشف عن quot; الحبل السري quot; الذي يربط بين الكائنات المختلفة والمشيمة داخل رحم quot; الوجود quot;، وأيضا داخل العلاقات السياسية بين الدول جميعا، ومن هنا يريط بين quot; الأزمات في الطبيعة والاقتصاد quot; وأزمة التواصل بين البشر والمجتمعات والثقافات.
وأثارت محاضرته التي ألقاها في عام 1997 والمعنونة بquot; قواعد لحظيرة النوع البشري quot; في الاحتفال بفلسفة quot; هيدجر quot;، العديد من الانتقادات القاسية، حيث قال: quot; أن الثقافات والحضارات أشبه بصوب اصطناعية ومزارع بشرية، وكما أنشأنا محميات لحفظ الحياة البرية والكائنات من الانقراض، يجب علينا الحفاظ علي (حبوان أرسطو) الذي أصبح مهددا اليوم بالانقراض.
والتقنيات الجديدة هي التي ستأتي بالإنسان الأعلي (السوبر مان) الذي تنبأ به نيتشه في كتابه quot; هكذا تكلم زرادشت quot;، خصوصا الاستنساخ الجيني عبر quot;الانتقاءquot;، حيث سينتقل الإنسان من قدرية الولادة، إلى حرية اختيار المولود (جنسه، شكله وطبيعته)، وهي الأفكار التي أتهم بسببها بالنازية والعنصرية.
الخروج عن المألوف، بوجه عام، هو أهم ما يميز فلسفة سلوتردايك، وربما كان اختياره للسخرية أسلوبا منذ كتابه الأول quot; نقد العقل الساخر quot; وحتي كتابه الأخير الذي نعرض له، أكثر من دلالة ومعني، فالعقل الساخر هو العقل الذي يسخر من ذاته أولا، كما أنه نقيض العقل الجاد (عقل التنوير) الواثق من نفسه، والمطمئن إلى صواب منطقه ونتائجه.
والسخرية هي quot; تمارين quot; فلسفية على قضايا ومشكلات اجتماعية وانسانية، تصدع التناقضات والمفارقات، و تثير الدهشة والتساؤل، في اللا مفكر فيه وما لا يراد التفكير فيه. وهي تعبير عن الإرادة الفردية الحرة الواعية، حين تمارس قدراتها في (تغيير ما هو قائم بالفعل)، وربما كانت دعوته إلي quot; تغيير حياتنا quot; هي شحذ واستنفار لهذه الإرادة الإنسانية، وأن نأخذ قصب السبق بدلا من أن نصبح مفعولا بنا، بفعل الأزمات الجديدة والأمواج المتلاطمة، فنحن في عصر quot; يهمل quot; وquot; لا يمهل quot;، شعاره الكبير (تجدد أو تبدد).

وكلما مارسنا quot; النقد quot;، كلما تراجعت مساحة الكذب والزيف والوهم ليس داخل المجتمع أو العالم فقط وإنما داخل أنفسنا أيضا، ذلك لأن نتيجة الفعل تؤثر على الفاعل بالمثل، quot; والأفكار لا تترك أثرها علي الأشياء فقط ولكن على من يفكر فيها quot;.

وquot; التمرين quot; ndash; كما يقول سلوتردايك - هو الذي سيمكننا من اكتشاف أنفسنا والطرق البكر، داخل دهاليز الميتافيزيقا وشعابها. وهو الذي يربط لحظات الزمن الثلاث الحاضر والماضي والمستقبل، ويجعلها تتعاصر في لحظة واحدة، لذا تجده في هذا الكتاب الجديد (700 صفحة) منقبا في الطبقات الجيولوجية لتاريخ البشرية والآفاق البعيد لمستقبلها، بحثا عن أسرار بقائها على quot; قيد الحياة quot;، رغم ما مرت به من كوارث طبيعية وإنسانية.
سلوتردايك يدعونا إلي اكتشاف المهارات والملكات الكامنة فينا، مؤكدا علي قدرة الإنسان على الخروج من الأزمة الاقتصادية والإيكولوجية والنووية، وتجاوز مشكلات الغذاء والمياة والطاقة وغيرها. ومصدر هذا التفاؤل هو ان الإنسان يمتلك القدرة علي (تخط) ذاته دائما بالمعني النيتشوي، صحيح أنه (أسير) العادة والمألوف والمبتذل، لكنه في الوقت نفسه (ينتهك) quot;حدودquot; الطقوس اليومية غالبا، وهذا أبلغ دليل علي أننا نصنع مستقبلنا كما نصنع داخله بالمثل.
يقول نيتشه في كتابه quot; هكذا تكلم زرادشت quot;: quot; علينا أن نضع أنفسنا دائما في حالات لا يُقبل فيها امتلاك فضائل مزيفة، لكن، كما البهلوان على الحبل حيث لا يمكن إلا أن نقع أو نتماسك quot;.
لقد كان (زرادشت) يخاطب البهلوان الراقص علي الحبل الذي سقط منه ومات قائلا: (أيها الراقص علي الحبل سأدفنك بيدي، لان حياتك كانت حافلة بالأخطار وأنا أدعو إلى حياة المخاطر وأقدر البطولة وأقول: عش في خطر... quot;.
سلوتردايك يستخدم أيضا رمز quot; البهلوان quot; للدلالة على السعي الدائم لدى نخبة من البشر، إلي تجاوز حدودها الجسدية والفكرية، عبر quot; التمرين quot; حتي تصل إلي الإبداع، ذلك لأن الإنسان يملك دائما قدرة الخروج من محدوديته الطبيعية، الى آفاق أرحب وأكبر وأعمق تشكلها قدرته الذاتية علي الإبداع.
أن الهدف من quot;التمرينquot; هو quot; الإبداع quot;، وهو أشبه quot; بمناعة إنسانية عامة quot;، تجعلنا قادرين على مواجهة مخاطر الحياة وتقلباتها، والتنبؤ بكوارثها مقدما والتعامل معها بكفاءة، خاصة وأن الإنسانية علي اختلاف ثقافاتها ومعتقداتها تواجه اليوم سؤالا وجوديا حاسما، هو: هل نترك الأمور تسير على ما هي عليه، هل نظل جالسين في مقاعد المتفرجين، وكأن الأمر لا يعنينا، أم أن نغير quot; رؤيتنا، مفاهيمنا، آلياتنا، وبإختصار.. نغير حياتنا..؟.

[email protected]