وردت في النصوص السومرية والبابلية كثيرا من الاساطير التي تصف عودة تموز الى الحياة ثانية، فقد صورت اسطورة الخلق البابلية احتفالات رأس السنة الجديدة التي تقام سنويا في موسم الربيع حينما يتساوى الليل والنهار، حيث يؤخذ الآله بل ndash; مردخ (تموز) أسيرا الى العالم السفلي ويحجز هناك، غير ان عشتار تحرره من أسره بعد ايام من البكاء والنحيب وترتيل المراثي الحزينة، حتى انتصار ه في الاخير على قوى الشر والظلام.
وتعود الاحزان الجماعية في تاريخها الى العصر المعروف بفجر السلالات بحدود 3200 ق. م. ففي بابل كانت المواكب الدينية تخترق شارع الموكب سنويا لندب الاله تموز، إله الخصب والنماء، للنواح عليه اثر الفوضى والخراب الذي حل بالارض عند هبوط تموز الى العالم السفلي، ونواح عشتار عليه. وكان الكهان يقومون بتنظيم هذه المواكب التي كان الملك يشارك فيها ايضا، التي تخترق بوابة عشتار وتقيم مهرجانات تستمر اثنى عشر يوما. وفي اليوم السابع تقام دراما محزنة تمثل موت الإله تموز. وتنتهي هذه الاحتفالات في معبد مردخ الذي يقع قرب نهر الفرات، حيث تعاد فيه تمثيليةquot; قصة الخليقةquot;.
وقد فسر بعض المفكرين نشأة النواح الجماعي في الشرق باعتباره نتيجة للتحولات الفصلية التي تحل بالارض وتسبب الجدب والقحط، وهو ما يدفع الى القيام باحتفالات دينية تراجيدية لاستجلاب الخصب، في حين يذهب آخرون الى ان عادات الندب والبكاء التي تقام بعد موت ملك من الملوك وخلو الدولة من راع يرعى الدولة والعدالة فيها، وبهذا فهم لا يندبون الملك نفسه، بقدر ما يندبون العدالة التي فقدوها بموته. وفي الحالتين تقترن وفاة الملك وموت العدالة بموت الارض وجدبها عند حلول كل خريف. وهناك من يرى بان الاحتكاك مع الشعوب والحضارات والاديان يؤدي الى تقليد أو خلق مثل هذه الاحتفالات الطقسية التي تمثل انبعاثا جديدا. ويرجع آخرون الاحزان الجماعية الى الطوفان الذي ضرب بلاد ما بين النهرين وترك الناس يتذكرون ما حل بهم من كوارث ويتناقلونه على شكل قصص واساطير وملاحم شعبية، الى جانب عوامل سياسية اخرى، كهجوم الكوتيين الذي سبب دمارا ورعبا في اكد واور والوركاء وترك وراءه مآس وكوارث لا يمكن نسيانها.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن: هل هي صدفة ان يكون هناك تشابه، مع الفارق بين الغاية والهدف، بين انطلاقة مواكب العزاء الحسيني يوم عاشوراء من اطراف المدن وبخاصة كربلاء لتذهب الى المساجد والحسينيات والمراقد المقدسة لاستذكار يوم عاشوراء، وبين ما كان يجري في سومر واكد من مواكب واحتفالات باستذكار عودة تموز من العالم السفلي؟!!
يرى الاستاذ جاسم حسين بأن استشهاد الامام الحسين كان ايذانا ببعث الاحزان الجماعية من جديد عند المسلمين المعارضين لشكل الحكم القائم آنذاك، وان هذه الاحزان لم تظهر فجأة وبصيغة مشابه لما عهدناه لدى السومريين والبابليين، وانما لبست ثوبا اسلاميا يلائم مفاهيم العقيدة الاسلامية. ويعود ذلك في الواقع الى اسباب عديدة، منها فشل الثورات المتتالية في تحقيق أهدافها واستمرار غياب الشريعة عن المسرح السياسي وتفريغها من محتواها، وهو ما ادى بهذه الجماعات الى تبني رموز تموز في الندب والبكاء على فقدان العدالة، وبخاصة بعد ان حدث نوع من الانتعاش السياسي لهذه الافكار في عهد البويهيين. والى جانب ذلك فقد وجد العلويون في مجالس الوعظ والارشاد خير وسيلة لاحداث توعية فكرية وبخاصة ما تركه استشهاد الامام الحسين من آلام، وهو موضوع خصب ترك آثارا اجتماعية وسياسية ودينية عديدة.
ان العلاقة الميثولوجية بين احتفالات بل ndash; مردخ ndash;تموز، في بابل وبين احتفالات عاشوراء، من الممكن ان تشكل امكانية التشابه فكريا ووجدانيا كتعبير عن انتصار الخير على قوى الشر، وان نواح عشتار على تموز، سنة بعد اخرى، انما تمثل طاقة خلق وتجديد لمبدأ الارض ndash; الخصوبة ndash; الحياة، مثل الاحتفال بذكرى عاشوراء الذي يمثل تجديدا واحياءا لمبادئ الحسين في الرفض والتحدي والشهادة، التي بقيت حية في الوجدان الشيعي.
وهناك من يقول بامكانية انتقال طقوس البكاء من المسيحية الى الاسلام. ولكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو: لماذا يتاثر الاسلام بالمسيحية ولم يتأثر باليهودية التي اباحت طقوس البكاء امام حائط المبكى، كما هو معروف، وسمحت ايضا بالبكاء، وكذلك استخدام الالات الموسيقية في جنائز الموتى؟
ومع ان كثيرا من المستشرقين، ومنهم ايردمن وشتريك ومايسنر، اقاموا مقارنات بين طقوس العزاء الحسيني التي كانت تجري في القرن التاسع عشر وبين طقوس الموت والبكاء على الاله تموز (ادينوس)التي كانت تقام في سومر وبابل، فان مثل هذه الطقوس لم تكن معروفة في الجزيرة العربية، لا قبل الاسلام ولا بعده، ولانها كانت تعبيرا رمزيا عن التحول في فصول السنة، وعلى وجه التحديد من فصل الربيع الذي يمنح الخصوبة والحياة الى فصل الصيف الذي يؤدي الى التلف والدمار بسبب شمسه المحرقة التي تقتل quot;تموز quot; وتسرق منه قوة الخصب التي فيه.
مما مر اعلاه يبدو لنا ان هناك مؤشرات عديدة وبالغة الاهمية على التشابه بين مواكب العزاء الحسيني في عاشوراء وبين مواكب الندب على الاله تموز في سومر وبابل القديمة، التي من الممكن ان تقدم لنا مؤشرات وأدلة ولكنها غير كافية للبرهنة على هذه العلاقة، لان طقوس العزاء الحسيني هي في الحقيقة والواقع تقاليد شعبية عربية ndash; اسلامية استمدت شرعيتها واستمراريتها من حقيقة تاريخية موثقة هي واقعة كربلاء ومقتل الامام الحسين في يوم عاشوراء التي ما زالت آثارها حية في ذاكرة المسلمين.
والحال ان الحزن والبكاء هي عادات معروفة في المجتمعات الشرقية منذ اقدم العصور، وفي جميع الاديان السماوية والحضارات العليا القديمة. لانها من طبيعة الشرقيين الذين هم اكثر الشعوب انفعالا.
كما ان المراسيم والطقوس الدينية هي في الواقع ظواهر اجتماعية ذات محتوى ديني قبل ان تكون افكارا مجردة، والناس حين يتمسكون بها او يغالون فيها او يحورونها، انما يعملون ذلك بسبب ما يحيط بهم من ظروف وشروط اجتماعية ونفسية معينة.

المراجع
-1طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ص257 الجزء الاول، بغداد1955
-2ابراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي ص 322 وما بعدها بيروت 1999

-3جاسم حسين، دراسة في نشأة الاحزان الجماعية وتطورها عند الامامية، المجلة التاريخية، العدد 3، بغداد1973
-4
Ibrahim Al Haidari,Soziologie des Schiitischen chilismns, Freibung-Berlin,1974
Erdmans, B, Der Ursprung des Cermonien des Husainstes, Assyriologie, - 5

1894
Mez, A, Die Renaisanee des Islcems, Heideberg 1968 -6