مصطلح المجتمع المدني يرادف في سوق الثقافة الشعبية بل والعلمية أحياناً (كيانات) ذات أسماء محدّدة لها هويتها التي تتميز بها عن غيرها، وذلك مثل النقابة والمنظّمة والحزب والجمعية والفريق والنادي وما إلى هنالك من تسميات تتسع وتضيق تبعاً لمدى سعة وضيق العملي الديمقراطية، وتبعاً لمدى سعة وضيق الثقافة الاجتماعية والأعراف والتقاليد.
هذه الكيانات هي روح المجتمع المدني، ولا مجتمع مدني بلا تنظيمات، بل يتجسّد المجتمع المدني مادّة ووسيلة بهذه التنظيمات.
هذه التنظيمات تمتّد بين كيانين أساسيين هما الأُسرة من جهة والدولة من جهة أخرى، فالأسرة هي أصغر وحدة اجتماعية في سياق مكونات المجتمع المدني، والدولة هي أعقد مكوّن في هذا السياق رغم أن هناك خلافاً حول تسمية الدولة بهذه الصفة.
نظرة وصفية بسيطة نلقيها على هذه الكيانات أو المكوّنات ( الحزب، المنظّمة، النقابة، الجمعية hellip; ) نكتشف بأنها خارج سلطة الحكومة، ليس بالمعنى القانوني، بل بمعنى أنها غير حكومية، وفارق كبير بين التصورين كما هو واضح، فهي تنظيمات ليست حكومية، حتى أذا كان القائمون عليها من العاملين في أعلى مناصب الحكومة بطيعة الحال، وهي قد تدخل في صراع مع الحكومة وقد تدخل في تحالف، قد تدافع عنها وقد تنقدها، ولكنّها في النتيجة ليست حكومية، ومن هنا يجب أن لا نفهم بان هذه التنظيمات ضد الدولة بالضرورة، لان هناك فارق متميّز بين الدولة والحكومة.
هذه التنظيمات ليست مورثة، أي لم تستمد وجودها وهويتها وحركتها من قبيلة أو عشيرة أو أسرة، بل هي بنية اجتماعية تنبثق من داخل المجتمع على اختلاف أطيافه الاجتماعية والمهنية والدينية، وبأدوات اجتماعية ولغايات اجتماعية بصرف النظر عن طموحات إرثية محصورة بأُسرة أو بعشيرة مثلا.
أن المسافة بين الأسرة والدولة مسافة كبيرة مخيفة، مرعبة، ولكن هذا الفراغ الشاسع الذي يبعث على الخوف أحيانا، يمكن ملؤه بمكونات المجمع المدني، والحقيقة لا نعني بالمليء هنا مجرد وجود هياكل كارتونية على قارعة الطريق الممتدة بين الأسرة والدولة، بل نعني بذلك وجود الممكنات القادرة على حماية الفرد من سلطان وطغيان الحكومة، بل وحماية حقوق المواطن من عنت المجتمع واستبداد الأكثرية واستهتار الديكتاتوريات بشتّى ألوانها، والطغيان الطائفي البغيض، كذلك الطغيان الديني، والعرقي وما شابه ذلك، ومن هنا نشدّد على هذه الفكرة، لان كثيراً من الباحثين والمنظّرين يركزون على وظيفة المجتمع المدني في مواجهة إرهاب الحكومة واستبدادها وتفرّدها، فيما هناك استبداد اجتماعي بحدود ما، و هناك استبداد طائفي بغيض في كثير من المجتعات، واستبداد ديني كما هو الحال لما يتعرض له أخواننا المسيحيون هنا وهناك hellip; فهل تتعطّل وظيفة المجتمع المدني في التعامل مع هذه الحقائق المرّة؟ ونعتقد بان مفهوم ومصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن توظيفها على صعيد توسيع مهمات ووظائف وأهداف المجتمع المدني، وقد أهتم الفقهاء الشيعة والفقه الشيعي بهذه الفريضة الجميلة، ولكن باشتراطات تحول دون تحولها إلى آليات إرهاب وضغط وحذف وقمع، لعل من أهمها عدم وجوب ذلك فيما أحرز عدم الاستجابة من الطرف المقابل، ذلك أن القضية تتصل بحرية الاختيار في الدرجة الأولى.
هذه التنظيمات أو المكونات تتأسس بالإرادة الحرّة، ليس بالإكراه والقهر والغلبة، بل ترجع العملية بكل حركتها إلى الإرادة، أرادة المؤسسين وإرادة المشاركين وإرادة المناصرين، وسواء الانطلاق بهذه النقطة من وعي فلسفي وتفكير تحليلي لأصالة الإرادة أم أن ذلك عائد لشعورنا الوجداني بالإرادة، تبقى الإرادة عنصر أساسي في شرعية انضمام هذا التنظيم أو ذاك إلى مكونات المجتمع المدني. وبهذا يمكن القول بأنّ تنظيمات المجتمع المدني هي تنظيمات غير حكومية وليست أرثيّة.
هذه التنظيمات (الحزب، المنظمة، المؤسسة، الجمعية، النقابة hellip; ) تتأسس بإرادة حرّة من أجل قضية أو هدف أو مصلحة أو مهمة، كأن تكون تربوية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، لا يمكن أن يكون الهدف عائماً، يجب تحديد الهدف، هي ليست تنظيماً للهو البريء، أو التسامر أو التلاقي على ذمّة الصدفة، بل تنظيم مؤسَّس للتعبير عن مشاعر وأفكار وتصورات وأهداف، تتصل بالمؤسسين، صلة تأسيس وأيمان وتبني وعمل وسعي، وبهذا تكون بمثابة ورشة عمل، ورشة أنتاج حقائق على الأرض، ورشة تخريج المشاعر والأحاسيس والتصورات والأهداف من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعل، وتكون وفيّة لعنوانها بقدر وفائها لدورها وقدراتها على تحقيق الأهداف والتصورات والمشاعر المختزنة في ضمائر وأذهان المؤسسين والمنتمين والمؤيدين والمناصرين.
ولكن هناك معايير يجب أن تتقيّد بها هذه المنظّمات، ومن أبرز هذه المعايير هي الالتزام، الالتزام تجاه الهدف الذي تأسست من اجله، والأفكار التي قامت عليها، والتزام المؤسسين والمنتمين بعضهم تجاه البعض وفق روح المشروع وفلسفته، وهناك قيمة أخرى مهمة تتوازى مع الالتزام، هي التسامح تجاه الأخر، هذه القيمة جزء لا يتجزأ من فلسفة المجتمع المدني، فأن الحزب الذي لا يحترم الحزب المنافس يكون قد أفسد هوية المجتمع المدني، ويكون قد شرع قانون نقض الحياة المدنية القائمة على التعددية من أساسها، يقمع نفسه جوهريَّاً، يكتب على حقه بالوجود بالفناء والحذف، المجتمع المدني يعني التعايش بين التناقضات والمفارقات، تعايش قائم على التنافس وليس على الاستسلام، فأن التعايش لا يعني بالضرورة الهدوء والسكون والروتين، تلك مفاهيم خاطئة تسبّبت بالكثير من المآسي الفكرية للشعوب، بل التعايش الحقيقي هو التنافس بين المصالح والأفكار والتصورات في جو من احترام الأخر، بل وحمايته من العنت والقمع والاضطهاد، وهي كلمة رائعة تلك التي تقول لست مستعدا أن أسير بجانبك ولا ورائك ولا أمامك، ولكن مستعد أن أدافع عن حريتك في الفكر و الاجتماع والعمل. والقيمة الثالثة هنا هو الإرادة السلمية في التعبير عن الرأي، وفي السعي نحو الهدف وفي التنافس مع الأخر، وفي المطالبة بالحقوق، وفي التعبير عن الرفض، العنف مرفوض في فضاء المجتمع المدني، سواء على صعيد الاصطلاح لأنه مدني، مأخوذ من الحياة في المدينة، ممّا يشيع قيم التواجد المتوازي بين الناس والقوى والمصالح، ولا على صعيد الهوية لان المجتمع المدني يهدف إلى صيانة الحقوق وإرساء الواجبات على مشرعة العدل والحق، وأخيرا، إن المجتمع المدني هو مجتمع التنوّع والاختلاف، التنوّع والاختلاف في الفكر والهدف والوسائل شريطة عدم جرحها كرامة الإنسان وخدشها القيم العامة للمجتمع، وبهذا نفهم المجتمع المدني عبارة عن صيرورة حيّة تقوم على جدل الحياة وجدل الكون وجدل التاريخ.