ثقافة التدبير شائعة في فقه المسلمين، خاصة في فقه أئمة أهل البيت عليه السلام، فنحن نقرا وما أكثر ما نقرا عن فضل التُجار، وفضل الصنَّاع وفضل البنّاء، وفضل الخباز، وفضل النجار، وفضل الحداد، ونستشهد على ذلك بمهن الانبياء عليهم السلام، فهذا النبي كان حدادا، وذلك كان راعي غنم، وآخر كان نجارا، وقبل هذا وذاك نقرا كثيرا في تراثنا عن فضل العلماء، والعلم في الخطاب الاسلا مي بشكل عام مفهوم ينطبق على العلوم المتنوعة الموضوع، المتعددة الهددف، مادامت في خدمة الانسان، وفي طريق البناء الأئمة يسشتهدون بذلك، والاستشهاد في سبيل الحث على المُستشهَد به، أي يحثونا أن نمتهن النجارة والحدادة والتجارة، وأن نكون علماء من الطراز الرفيع، ولا نلتفت إلى ما تَصفُ به بعض الروايات بعض المهن، بتلك الأوصاف التي تتناقض مع شرف العمل، وشرف الإنتاج، فتلك روايات مكذوبة على هؤلاء الاشراف الطيبين، فمهنة (الحياكة) تقي جلود البشر حر الصيف وبرد الشتاء، وتقي عواراتنا من الفضيحة والقبح، فكيف يصف الإمام عليه السلام صاحبها ومبدعها بتلك النعوت السيئة اللفظ، المتدنيِّة الفكرة، ومثلها مهنة (القصابة)، تُرى من يقول أن القصابة تقسِّي القلب؟ هذه أفكار لا أتصور أنّ لها مصداقية من وحي الحياة، وليس لها من نصيب التجربة ما يؤيد أو يسدد، ومن قال أن معلم الأولاد رائد السفاهة وربيب التخلع والصبيانية في الفكر والمزاج، فهل هو غير المعلم يخرِّج الاجيال، ويحمي الضمائر من تخريب أهل السوء والبذاءة، وهل هو غير معلِّم الصبيان يرسم لهؤلاء الصبيان المستقبل؟! ومن قال أن مهنة الزرع دلالة العجز الفكري، وعلامة على تردي الإرادة صوب ما يشحن همتها بالمزيد من رقي العطاء، ومزيد من رقي المهنة والممارسة؟! هل نأكل إلاّ من يد الفلاح والزرّاع، وهل القرأن الكريم يحث على حرث الارض وزرعها أكثر من أي ممارسة أخرى؟
أن ثقافة التدبير تستوجب منا أن نحترم كل المهن، مادامت في نطاق الإذن الشرعي، وما دامت تؤمِّن كرامة اليد من شر ومهانة الاستجداء، وتصون وجه صاحبها من إبتذال التخنع والتصنع لهذا البرجوازي القذر أو ذاك، يتسكع أبواب الجوامع ينتظر يقظة ضمير في لحظة، ربما لن تعود فيما بعد أبد الآبدين.
لقد شكلت هذه الثقافة البائسة عقلا مسلما متكاسلا، لا يتفاعل مع مفردات الحياة بموضوعية وفاعلية ونشاط، وليس لأحد أن ينكر ما لهذه الثقافة الهابطة من أثار سلبية على العقل الاسلامي، فهذا أمر طبيعي وإن لم تظهر آثاره علنا.
وهذا اللون من التدمير، الذي يصب سلبيا وبشكل مباشر في صلب ثقافة التدبير، نجد إلى جانبه لونا آخر، أنه مكروهات الزمن المزعومة، فهذا اليوم يُكره فيه السفر، وذاك اليوم يُكره فيه العمل، وغيره يُكره فيه الزواج، وما إلى هنالك من أفكار وتصورات تجني على قدسية الزمن، وأهميته في الحياة، و الفلاسفة يقولون أن الزمن إحدى مشخِّصات الشيء، فيا له من حظ (اسلامي) تعيس!
هذه الأفكار تتعارض مع روح القرآن الكريم، وتتعارض مع روح الامام الكاظم الذي كان يتكيء على متني غلامين له يهرس الطين بقدمه لكي يعيش، ولا يتكسب ايادي الآخرين، والكاسب كما يقولون (حبيب الله) بل في رواية أن الله تعالى يغفر لمَن يكل متنه من الكسب في سبيل عياله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
تدمير ثقافة المعاش.... فكرة... وزمنا... وعضلة... وعقلا... وحاضرا... ومستقبلا... شخصا... عائلة... مجتمعا... طائفة... تدمير الحياة بكل معنى الكلمة.
ثقافة تدمير المعاش يجب أن تقابلها أو تواجهها ثقافة تدبير المعاش، نملك من الروايات والآيات التي تكسح هذه الثقافة التدميرية بشكل قاطع، فلماذا لا نربي عليها؟ نثقف عليها؟ نشحن بها إرادة المسلم؟ من على المنابر، في المساجد، في الكتب، في النشرات، في المحاضرات...
هناك تقصير هائل في نشر هذه الثقافة...
نعم، هناك نشر فوضوي مخيف لثقافة الدم، والدم وحده، مراجعة بسيطة لخطب الجمعة وهي الخطب التي يجب أن تعبر عن روح الجماهير وإرادتهم وطموحاتهم، سنرى أنها عبارة عن قطعة من (دم)، أو قطعة من (رثاء)، أو قطعة من استرجاع الماضي (التليد)، أو قطعة من المدائح والمناقب وكأننا لم نسمع عن منا قب النبي وآله الكرام!
ثقافة المعاش تكاد أن تكون مختفية في خطب الجمعة، خطبة الجمعة عبارة عن أخلاق مجردة، أو سياسة مشبعة بالوعد والوعيد والتحليل الذي كثيرا ما يخطئه الواقع، يخرج المصلي من خطبة الجمعة وهو لا يملك حماسا لتوسيع قطعة أرضه المزروعة، ولا لتطوير صناعته، ولا لحث ولده على إيجاد عمل يقيه شر البطالة وشرور نتائجها، ولا هو متحمس لتشغيل باقة من العاطلين في مشروع اقتصادي... يخرج إما خائفا من نار جهنم أم مسرعا إلى التفلفاز لعله يقع على خبر دموي جديد، أو يسمع عن اكتشاف مقبرة جماعية جديدة، لا أقول ذلك بالمطلق، ولكن هذه هي ثقافة منبر الجمعة بشكل عام، كذلك هي ثقافة المنبر الحسيني بشكل خاص، وكما قلت ليس على نحو المطلق بل على نحو النسبي.
إن ثقافة تدمير التدبير تحتاج إلى ثقافة التدبير حقا، نريد أن يحتل التذكر محل النسيان، ويحتل الامل محل الياس، ويحتل التطلع محل الفرار، وتحتل المسؤولية محل الهروب، تلك هي ثقافة التدبير، وما أكثر روايات اهل البيت التي تحثنا على أن نحترف حرفة التدبير، لأنها مدخل الحياة، وبدونها نكون عبيدا لغيرنا.
أن ثقافة التدبير ليست موعظة سريعة، بل تبنِّي، تعليم، تدريس، تمكين، محاورات، لقاءات، محاضرات، حث، متابعة، إ نها عملية تبني بكل ما يعني التبني من دلالة واسعة...
كيف؟
يجب أن نكوٍّن جمعيات وتجمعات لنثقف على ثقا فة التدبير، لابد أ ن يكون لدينا منهج بل مناهج حول ثقافة التدبير، ومن ثم، يجب أن تتحول هذه الثقافة إلى سلوك، ليس بإلقاء المسؤولية على الفرد، بل أن تكون هناك خطط لتحويل ثقا فة التدبير من أفقها النظري إلى أفقها العملي، ولكن قد يسال البعض ويقول: ــ
هل هذا ممكن؟
نعم ممكن، فيما اخذ أصحاب القرار الاسلامي ذلك على عاتقهم، بوضع الخطط العملية المباشرة، ولنا في المساجد، وفي الحسينيات فرص رائعة لمد الناس بثقافة التدبير عمليا، أو نفتتح لذلك النوادي والمقرات.
هناك (دكاين) لتلعيم اللطم، ولتعليم ضرب الزنجيل، ولتعليم ضرب (القامة)، دورات علنية، ومقابل مبالغ من المال، يتهافت عليها شباب الشيعة، بل أطفال الشيعة، فيما ليس هناك دورات لتعليم الاسعافات الاولية، وليس هناك نوادي لتعليم الخياطة السريعة، وليس هناك مدارس لتعليم الحاسوب بشكل واسع ومتميز وعملي ومنتِج تحت رقابة صارمة ووفق نظام تعليمي مسؤول، ليس هناك مشاريع لتعليم هؤلاء الشباب كيف يختارون المكان المناسب فيما إذا أرادوا فتح مشروع اقتصادي... نعم، هناك محاولات ولكنّها خجولة وخجولة جدا.
تدمير التدبير مقابل ثقافة التدبير، هناك مساحة كبرة من مسيرة التدمير، هناك محاولات خجولة في مجال ثقافة التدبير...
وهناك من يجني الثمار، من بعيد، من بعيد يجني الثمار...