في المحاورات ثمة تواجد كثيف للميثولوجيا بصفتها الأداة المعرفية لإدراك الحقائق الكبرى أو الاقتراب من كل ما هو جوهري أو الارتقاء إلى عالم المثل، وهو عالم لا يمكن سبر أغواره إلا بمجاز تنتجه الأسطورة، فالأسطورة تقنية تفسيرية تنتقل بنا من الفن إلى الطبيعة إلى الماورائيات حيث تربض الحقيقة في عرشها المتعالي جنبا إلى جنب الآلهة، تلك النفوس المجنحة المتحركة بذاتها.

الانتقال من الفن إلى الشبيه أو الظل وصولا إلى الأصل هو ما يسعى إليه التفلسف عند افلاطون مستعينا بالمنهج الديالكتيكي والأسطورة في تداخل وتشابك ينتهي بانحياز كامل لما تقوله الأسطورة التي هي وحدها القادرة على التعبير عن المطلقات أو المثل الافلاطونية. quot;فصدق المحاكاة يتلخص في التعبير عن الأصلquot;.
وللأسطورة مكان في محاورة فايدروس، فالحوذي والمركبة المجنحة هي أداة لمعرفة النفس والحب والجمال، النفس التي هي مبدأ الحركة، والحب الذي هو استنبات للأجنحة للتعالي والسمو إلى حيث تتحقق مكانة الفيلسوف العاشق والفيلسوف الخطيب والفيلسوف الحكيم.


تتمثل النفس في محاورة الجمهورية في صورة quot;خيميراquot; أو quot;سولاquot; وهو كائن خرافي متعدد الوجوه تضيف إليه مخيلة افلاطون صورة ثانية هي الأسد وصورة ثالثة لإنسان لتعكس النفس بأجزائها الثلاث: الشهوية في صورة الخيميرا، والغضبية في صورة أسد، والعاقلة في صورة الإنسان الذي يصور في فايدروس على هيئة حوذي يقود عربة يجرها حصانان أحدهما طيع والآخر شرس، ولهذه العربة جناحان: الحدس، أو المعرفة المباشرة، أو الإلهام أو الصوت الشيطاني الداخلي للفيلسوف الذي يمارس المعرفة بوصفها تذكرا ناتجا عن نشاط ديالكتيكي يمارسه العقل، الجناح الآخر.


وهنا تقترب الأفلاطونية أكثر من صيغتها المحدثة المطعمة بتأثيرات مورفية، إلا أن لأفلاطون ميزة الفيلسوف المتفرد المنحاز دائما إلى ذاته كمفكر مستقل يفحص الأشياء بطريقة الجدل، ليصل بجهده الذاتي إلى الداخل، إلى الذات المتعالية التي تشكل جمالا باطنيا خالدا.

quot;أيا أبان العزيز، يا آلهة هذا المكان جميعا، أنعموا علي بجمال النفس الباطنيquot; بهذه العبارة يبدأ افلاطون مناقشته في محاورة فايدروس، لأنه سيتناول فكرة الحب الجديرة بربات الشعر، quot;متى مس الحب من كان بعيدا عن إلهام ربات الشعر فإنه يحوله فناناquot;، من هنا كان الموضوع الأساسي في المحاورة إلى جانب فلسفة الجمال هو دراسة الخطابة كفن وأداة معرفية وكل فعل كتابي أو شفهي يقتصر على تمجيد الأسلوب أو الشكل أو اللغة دون إدراك حقائق وكنه الأشياء، ولذلك فإن من أبرز شروط العمل الفني هو التعبير عن الأصل الذي لا يتأتى إلا لمن أتقن فن الديالكتيك بجانبيه معا: التركيب والتحليل، أو التعريف والقسمة، فافلاطون يتجه إلى نقد فن الخطابة وتحديدا من خلال هجومه على الاهتمام بالشكل والمراوحة الأسلوبية والبلاغية التي كانت شائعة عند الخصوم السفسفطائين، ولما كانت الخطابة عند افلاطون هي فن قيادة النفوس فإن الفلسفة بمفهوما الافلاطوني هي الشرط الأبرز لأي عمل فني، فمن دونها يصبح الفن تقليدا مبتذلا أو محاكاة لشيء يحاكي أو يشبه الأصل.

يقول افلاطون في محاورة الجمهورية: quot;الأفكار لدى العامة عن الجمال أو عن الصفات تحلق في فراغ بين الوجود واللاوجودquot; أو لنقل حتى نتموضع أكثر في محاورة فايدروس، إن الجمال في الحس المشترك يحلق في فراغ بين الجمال واللاجمال، فهو اندماج النفي أو المحو والإثبات، أو مراوحة بين الجمال في وحدته والذي يظل دائما في هوية مع ذاته وبين الجمال في كثرته، والحب هو خاصية الفن بصفته تعبيرا عن الجمال، لكن الحب في فايدروس هوس، شيء مقدس، إلهام من الآلهة كما في المقدمة الممتازة للدكتورة أميرة حلمي مطر، والهوس هو هوس النبوءة لكاهنات أبوللو، أو هوس الصوفي في الطقوس الديونيسوسية، أو هوس ناجم عن إلهام ربات الشعر للشعراء والفنانين، أو هوس الحب وهو أعظمها.

في ساعة الظهيرة ابتهل افلاطون إلى ربات الشعر ذوات الصوت الرخيم لكي يبدأ المناقشة، وقد بدأ مغطى الرأس خجلا حيث سيذم الحب ويهاجم العشاق، الحب والعشق الحسي والأفلاطوني معا، لكنه وقد تراجع ليمتدح الحب فقد كشف عن رأسه تحت الشمس في ذروة الحقيقة حيث لا مكان للظلال الباهتة كالتي تحدث عنها في quot;أسطورة الكهفquot;.
ولدى انتقاله في الحب من الجمال الحسي إلى العالم المتعالي في سماء المثل والآلهة يقع افلاطون في رعشة الحب والعشق ويسرح في آفاقه البعيدة، فالجسد في الحب الأفلاطوني مجاز لحقيقة أسمى، رمز يشير إلى حالة عشقية تتجاوز الجسد لتصل بنا إلى الشوق الذي يستعيره الدين والفن من الفلسفة حيث يؤسس عليه المشائي والمثالي في آن معا تصوره الميتافيزيقي، فالشوق أو الحب أو القبلة هي رموز تتراوح في حالة واحدة هي الإتحاد بشيء يتجاوز حتى الآلهة.

من هنا تبدو القبلة كما لو كانت ممارسة تعبدية أو اتصال بإله ليس نكدا أو كئيبا يوزع البؤس على العالم، إن تقبيل الثغر الرطب النقي بمادته المائية تقود إلى إدراك شعري بأصل العالم، القبلة هي أصل العالم، أصل من ماء كما تبدى لطاليس الذي قال بأن الماء هو الأصل والينبوع، القبلة والماء والعشق هو ثالوث التكوين، والإله ههنا يتخذ شكل نشوة، سيولة وتمدد أزلي، مثل زيوس الفحل ذو الريش والمحب دائما، والحب هو ابن الإلهة افروديت، أو هو قرينها الأيروس الذي يصنع الجمال، لكن quot;أيروس ليس إلها ولا بشرا، إنه روح متوسط بين ما هو فان وما هو إلهيquot; أيروس قيد لكنه يهب الأجنحة للتحليق في فضاء الحقيقة والمثل والحب.

يقول صاحب المأدبة منتشيا: quot;الرجل حين يرى وجها ذا سمة إلهية، أو جسما حسن التكوين، تنتابه الرجفة ويعتريه شعور غامض، فإذا به يوجه بصره في اتجاه الموضوع الجميل فيقدسه تقديس إله، وإذا لم يخش أن يوصف بأنه في ذروة الهوس فقد يقدم قرابين إلى المحبوب، كما لو يقدمها لوثن مقدس لإله. وقد يحدث تغير أثناء إبصاره له نتيجة للرجفة التي تنتابه فيكسوه العرق والحرارة غير الطبيعية لأنه بمجرد أن يتلقى فيض الجمال عن طريق عينيه ينبعث فيه الدفء وينشط نمو الريش فتلين منابته لأن الحرارة تصهر ما كان صلبا يمنع الريش من البزوغ. ذلك إذن هو حال من يتجه ببصره نحو جمال الفتية فمن ذلك الجمال يصدر فيض من الجزيئات الصغيرة يسمى من أجل هذا بالاشتهاء، وحين تتلقاه النفس تنشط فتدفأ وتستريح من عذابها ويغمرها الفرح والبهجةquot;.

هذا هو الحب عند الناس، ولكنه عند هوميروس والآلهة يصبح مدعاة لضحك الفتى الصغير والجميل والذي كان يخاطبه افلاطون في نشوة شيطانية باخية، فالحب quot;اسمه عند البشر هو الحب ذو الأجنحة، ولكن صدقني إن اسمه عند الخالدين هو المريش بسبب قدرته على إنبات الريشquot;!
الحب إذن هوعند افلاطون انبات للريش quot;فالنفس في سالف الأزمان يكسوها الريشquot; ولكنه عند الفتى صورة معكوسة للحب، إنه يرى نفسه في عاشقه شأن من ينظر إلى المرآة، وربما سنبتسم مع الفتى الصغير حين يكون الحب هو احتكاك الشفاه ومقصا للأجنحة