مخطأ كل الخطأ من يعتقد أن (البعث) مجرد حزب أنتهى وأنطوت أيامه، وتلاشت ذكرياته مع الرياح والعواصف الهائلة التي تعصف بالشرق الأوسط؟ وساذج كل السذاجة من يتصور بأن ممارسات البعث وأهله القمعية والفاشية و التاريخية والتي رسمت ملامحها التدميرية على أشلاء العراق وحافات دول الجوار قد أضحت في ذمة التاريخ؟!، الحقيقة غير ذلك تماما في ظل الفوضى غير الخلاقة التي رسمها الإحتلال الأمريكي وهو يخدعنا بأحاديث التحرير والعراق الجديد ومعانقة رياح العصر والتغيير الحضاري الكبير القادم مع أحذية المارينز الثقيلة و التي سرعان ما تهاوت دعايتها البراقة و انهارت أمام إستحقاقات الواقع العراقي الصعبة و حالة الإهمال الأمريكي المقصودة و المتعمدة، نعم لقد أيدنا بكل جوارحنا عملية التغيير في العراق ولم نندم على شيء أو موقف، فنوايانا كانت سليمة وواضحة و لا تستهدف أبدا الصراع من أجل الكراسي و المناصب و السرقات، فلم نكن يوما من أتباع أجندة معينة حزبية أو طائفية أو عشائرية، وعندما أعلنا جهارا نهارا معارضتنا لنظام صدام البائد كان ذلك النظام في عز قوته العسكرية و الأمنية و المالية كما كانت تحالفاته الإقليمية و العربية أكبر من كل ماهو معهود و متوقع، فلم يكن هنالك أي نظام سياسي في تاريخ العراق الحديث بقوة نظام صدام حسين الذي أتفق الغرب و الشرق على دعمه ومده بكل وسائل الحياة و البقاء و الهيمنة، كان النظام البعثي اليميني يقتل الشيوعيين بسلاح رفاقهم في الكرملين، كما كان يحز رقاب اليمينيين و أهل الإسلام السياسي بسيوف الغرب و أمام عيونه، وكان يصرع الأكراد بالغارات الجوية و الغازات السامة أمام عيون العالم المتحضر، بل كان يقصف المدمرات الأمريكية في الخليج العربي و يقتل المارينز بالعشرات كما حدث في حادثة الفرقاطة الأميركية ( ستارك ) عام 1987 التي قدم فيها طارق عزيز وقتذاك الذي كان عزيز الغرب و عزيز الأليزيه بالذات إعتذاره بإختصار بقوله: ( لقد كان الأمر مجرد خطأ )!! وقبل ذلك الإعتذار الواهي ولم يخضع النظام العراقي وقتذاك لأية عقوبات لإستباحته دماء أهل المارينز لأنه كان في صلب عملية التخادم السياسي و العسكري للغرب! ولا يجب أن ننسى أيضا بأن نظام صدام قد فتحت الماكنة العسكرية الفرنسية كل مخازنها من الأسلحة المتطورة له مثل صواريخ أكزوسيت وطائرات سوبر أيتندارد وغيرها!! بل أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك لم يجد حرجا من تسليم رؤوس معارضين لنظام صدام!! وهي سابقة لم يفعلها الغرب مع أي نظام من العالم الثالث!!

ونظام بمثل تلك المواصفات الدولية و الدلال الكبير الذي يحظى به لم يكن يتصور أبعد المتشائمين بأنه سينتهي على يد الغرب الذي صنعه ونفخ فيه من آلته العسكرية و الإقتصادية! بعد أن إنتهى الغرض من إستخدامه؟، نقول ذلك ردا و تعليقا على من طالبنا بإعلان الإعتذار لمواقفنا التي كانت تدعو لتغيير النظام العراقي ولو عن طريق التدخل الدولي وهو ما أعلناه وقتها و نستمر في تبنيه لأن الفاشية التي أقامها نظام صدام حسين في العراق كانت القمة في التخلف و العدوانية و الشراسة و أوصلت العراق لحافات الإندثار التام في ظل غياب القوى الداخلية الطليعية القادرة على التغيير و التي شلتها أحوال الحصار الدولي المطبق الذي كان يحيط بالعراق و أهله و الذي هشم كل القواعد المجتمعية و الأخلاقية و القيمية للمجتمع العراقي و أفرز تخلفا لا نظير له عبر عن نفسه بوضوح بعد سقوط الفاشية و إزاحة الغطاء القمعي فظهرت الأمراض المختزنة دفعة واحدة وبرزت خزين الروايات الخرافية التي صقلتها الحملة الإيمانية العبثية والتدميرية للنظام في سنواته الأخيرة بعد هزيمته الشاملة وإفلاسه التام وإنكفائه على ذاته.

لقد كانت المعارضة العراقية السابقة للأسف هي أحد أهم أدوات بقاء و إستمرار النظام العراقي لكونها عاجزة و مرتبطة بولاءات مرجعية خارجية معلومة وواضحة، كما إن إمكانيات تحركها إقليميا كانت شبه معدومة في المرحلة التي سبقت غزو الكويت عام 1990 خصوصا و أن الساحة الداخلية في العراق كانت تشهد فراغا سياسيا كبيرا من قوى المعارضة الوطنية وحيث لم تنشأ في ظل النظام سوى معارضة دينية كانت تتصاعد نيرانها بسبب العزلة القاتلة التي كان يعانيها العراق ورفض النظام فتح المجال لأي قوة معارضة وطنية للعمل في ظل إحتكار السلطة وممارستها بشكل متوحش حتى تحول العراق لدولة العشيرة الذهبية بعد أن تلاشى الوجود الحقيقي لحزب البعث منذ تصفية قياداته عام 1979 وهمشت الأحزاب الوطنية وأقصيت الأفكار الحضارية والتقدمية وخلت الساحة تماما إلا من الخائفين والمطبلين والجهلة والمنافقين الذين تصدروا الساحة في ظل حالة الخوف الشاملة والمطبقة لذلك كان منظر الفوضى الشاملة و (الفرهود) الجماعي الذي حل بالشارع العراقي بعد إنهيار النظام نهائيا وإحتلال العراق وسقوط بغداد في التاسع من نيسان/ إبريل عام 2003 ونهب وتدمير مؤسسات الدولة من قبل الغوغاء الذين هم أنفسهم كانوا جزءا من آلة النظام القمعية، لم يكن هنالك من ثقافة سياسية أو حزبية لأهل حزب البعث، فالبعث كسلوك وممارسة وثقافة هو حالة شمولية لا ينظم وتيرتها سوى الخوف والإفراط في القمع وعندما إنهارت المؤسسة القمعية إنهار المجتمع لأن ذلك الحزب الفاشي كان قد حكم العراق لما يقارب أربعة عقود ترعرعت فيها أجيال كثيرة كانت المعارضة العراقية وحكام العراق الحاليين أحد نتاجاتها وإفرازاتها، لذلك كان طريفا وصف حالة النفاق السياسي والإنقلاب والتحول القيمي السريع الذي عم المجتمع العراقي بيت الشعر الشعبي التالي:

عمامة بسبع لفات وأربع محابس

قبل السقوط بيوم زيتوني لابس!

أي أن الجميع كان في بوتقة البعث ثم بدل ولاءاته بسرعة للإنسجام مع المرحلة الجديدة وهذا التبدل السريع في الولاءات قابله بالمقابل إستمرار للعقليات والأساليب السابقة في إدارة الحياة والسلطة، فالعراق بعد 2003 لم يستورد شعبه من الخارج بل أن كل ماحصل من تداعيات وإرهاب وفوضى وعودة للتخلف وتكريس للعنف كان منشأه داخلي أساسا وبدعم من قنوات الخارج وتدخلات دول الإقليم وأجهزتها.. لذلك فإن فضيحة سيادة التعذيب في السجون العراقية والتي تكررت كثيرا هي واحدة من بين مخلفات الفكر البعثي الشمولي إضافة لحالة التخلف الفكري والسياسي الشديدة السائدة في العراق والتي لم يضف الإحتلال ألأمريكي إلا مشاهد قسوة مضافة لها.. ومجتمع في ظل هذه الأوضاع لا ينتج في النهاية سوى جلادين!!. إذ يظل العراق مصنعا للجلادين والقتلة.. ووطنا لأهل النفاق الشامل!! تلك هي الحقيقة العارية والمؤسفة...! فملفات وقائع سنوات الجمر والرصاص العراقية لم تعرض كل أوراقها بعد.

[email protected]