لا يدخّر الأتراك جهداً لأجل نشر لغتهم في كل بقاع العالم، وفي هذا حقٌ مشروعٌ لهم، كما لغيرهم. نشر اللغة التركية، وتعليم الآخرين بها، يتم رسمياً من خلال ما تصرفه الدولة من أموال طائلة. وهو يتم، في الوقت نفسه، على الصعيد الفردي، كما في حالة رجل الدين الأصولي، الملياردير التركي فتح الله غولان، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية. هذا الرجل ينفق من ثروته، بلا حساب، على مدارس لتعليم ونشر التركية، تكاد تكون منتشرة في جميع دول العالم. نذكر هنا، وعلى سبيل المثال، امتلاكه 19 من هذه المدارس في جنوب أفريقيا وحدها.

إلى جانب هذه الحوافز والتسهيلات المقدّمة لغير الأتراك بهدف تعليمهم اللغة التركية، يبدو أن هناك توجهاً رسمياً في الدولة التركية لتعليم الأتراك المنسيين، أو أولئك الذين يتم اكتشافهم، بلغتهم الأم، وإعادة ربطهم بالثقافة التركية، وخطفهم من مجتمعاتهم الجديدة القديمة التي يعيشون فيها منذ مئات السنين. قرية quot;الكواشرةquot; اللبنانية التي يقطنها قرابة ثلاثة آلاف شخص من أصل تركي، اكتشفهم، حسب بعض المصادر، السفير التركي في لبنان، في العام 1988، إبراهيم ديشليلي. ومنذ ذلك الحين تنهال عليهم المساعدات المالية، وأتمّ العديد من شباب القرية دراستهم في الجامعات التركية، كما أُرسل العديد من المدرسين إلى القرية لتعليم أبنائها باللغة التركية الحديثة، إضافة إلى عدد لا يحصى من الخدمات والمشاريع الإنمائية يضيق المجال لذكرها هنا. ولعلّ تلويح الكواشريين الأتراك بالأعلام التركية خلال استقبالهم وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو؛ هو الذي دفع بعضهم للقول بأن الأتراك اكتسبوا موطىء قدم في هذه البقعة من المشرق.

هذا العشق والاهتمام المتزايد للمسؤولين الأتراك بلغتهم الأم يقابله بغض وتهميش للّغة الكردية. لن نخوض كثيراً في تفاصيل استهداف الكردية منذ تأسيس الجمهورية التركية، فهي إضافة إلى كونها لغة ممنوعة وفقاً لدستور الدولة، فقد جرّت، هذه اللغة، الويلات على المتحدثين بها على مدى عقود من الزمن. المستغرب، هنا، هو مواصلة استهداف اللغة الكردية، والناطقين بها، في زمن حكومة حزب العدالة والتنمية التي تدّعي الانفتاح على الكرد ولغتهم.

لا يحتاج المرء إلى عناء كبير لاستشفاف حقيقة نوايا المسؤولين في الحكومة التركية الحالية إزاء القضية الكردية. ليست هناك حاجة للغور في دواخلهم وسبرها، حيث تكفي المرء قراءة سريعة في تصريحاتهم وأفعالهم ليصطدم بتناقض عجيب غريب، ويتعرّف على جوهر ومآرب هذه الحكومة. ففي الوقت الذي سمحت فيه بإطلاق قناة فضائية ناطقة باللغة الكردية في تركيا، للدعاية والترويج لخطابها، وهذا ما يبدو جلياً، إلى هذه اللحظة، من خلال برامجها والقائمين عليها، فإنها في الوقت عينه تساوم الحكومة الدنماركية لإغلاق الفضائية الكردية المستقلة quot;روج تيفيquot;، التي تبث برامجها من بروكسل برخصة ممنوحة من جهة دنماركية. هناك عشرات القنوات التلفزيونية في تركيا، بعض الإحصائيات تشير إلى وجود 200 قناة، ما بين فضائية وأرضية، ولا يروق لرئيس وزرائها رجب طيب أردوغان أن يكون لأكراد تركيا قناة، وحيدة، قائمة على كدّهم، وما ينفقونه عليها من عرق جبينهم هذا ما أثبتته المحكمة الدنماركية بالقول إن quot;روج تيفيquot; تستمدّ الدعم المادي من الشعب الكردي إنه يريدها قناة تابعة مثل quot;ترت 6quot; الناطقة بالكردية، والتي افتتحها لتكون لسان حاله. أسألكم بالله العلي القدير: أليس في هذا ظلم ما بعده ظلم؟ أوليس الإسلام، الذي يختبىء أردوغان تحت عباءته، بريء من هذا الجور والإجحاف بحق الشعب الكردي المسلم؟.

أردوغان يواصل مناشدته ودعوته للمهاجرين الأتراك في ألمانيا، وغيرها من الدول بطبيعة الحال، برفض الانصهار في المجتمع الألماني والحفاظ على لغتهم وثقافتهم الخاصة، معتبراً أن محاولة ألمانيا تذويب الأتراك ونزع هويتهم التركية عنهم quot;جريمة بحق الإنسانيةquot;، هكذا كشف أردوغان عن نزعته القومية الطورانية في الخطاب الذي ألقاه أمام المهاجرين الأتراك في مدينة كولن الألمانية.

يقدّر عدد الأتراك في ألمانيا بحوالي ثلاثة ملايين، وهذا العدد يشمل أيضاً المهاجرين الأكراد القادمين من تركيا، ولا تتم الإشارة إلى ذلك غالباً؛ لأن الكردي، غير بقية خلق الله، يُحسب على الدولة التي قدم منها.

يا للعجب العجاب! أردوغان يدعو ثلاثة ملايين مهاجر تركي للحفاظ على لغتهم وتراثهم. يحدّثهم في البلد المستقبل لهم وبلغتهم الأم، لكنه لا يجد حرجاً في المجاهرة بأنه لن يسمح، أبداً، بالاعتراف باللغة الكردية لغة رسمية في تركيا! هذه اللغة التي يتحدث بها ما بين 30 ndash; 40 بالمئة من عموم سكان تركيا.
تجري، في هذه الأثناء، محاكمة عشرات الساسة الكرد، هؤلاء جميعاً اعتقلوا بأمر من الحكومة الحالية، منذ أكثر من عام ونصف، بتهمة العضوية في حزب العمال الكردستاني، وهناك العديد من الهيئات الدولية المتوافدة إلى تركيا لمتابعة سير وقائع المحاكمة، الكلّ منصعق ومذهول أمام تعنت وإصرار القضاء التركي، الذي أصبح مفتاحاً في جيب أردوغان في ظل الدستور التركي الجديد، في منع الساسة الكرد من الدفاع عن أنفسهم بلغتهم الأم.

أمام هذا الواقع المرير، وفي ظل هذا التهميش المتعمد للشعب الكردي، وإنكار هويته ووجوده، لا يمكن التماس أي فرق بين الحكومة التركية الحالية وما سبقها من حكومات. كيف يمكن الوثوق بأن هذه الحكومة ليست على شاكلة غيرها في ظل وجود أحكام بالسجن بحق الكرد تصل إلى 166 عاماً!، كما في حالة الصحفي quot;فيدات كورشنquot; المتهم بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني.

شعار أردوغان منذ مجيئه إلى سدة الحكم في العام 2002 هو quot;علم واحد، لغة واحدة، دولة واحدةquot;، هذا الكلام كرّره أردوغان غير مرّة، وهو خطاب قوموي طوراني اقصائي يتعارض مع الكثير من الحقوق التي يطالب بها الأكراد، وأولها اللغوية.

[email protected]