لم أستطع النوم تلك الليلة، فتفاصيل رواية lt;امرأة عند نقطة الصفرgt; التي طُلِب منّا تحليلها كواجب، وتفاصيل اليوم الأول مع نوال أصبنني بالأرق. ولا من خير جليس عند الأرق إلا الكتاب! أخذت أقرأ lt;مذكرات من سجن النساءgt; لنوال السعداوي حتى غفت عيناى لبضع سويعات.


أصبحنا على رائحة quot;اسبرسوquot; نوال، وجدائلها البيضاء، ونشاطها الذي فاق نشاط القاعة بأكملها. عجيب كيف لتلك المرأة التي تقارب عمر جدتي أن تملك طاقة الإلقاء وحماس النقاش لساعات متواصلة! أراها وأتذكر جدتي ودلّة قهوتها وتلك الأبيات التي ترددها على مسامعنا كلّما زرناها. وأتسائل يا ترى، لو حلّ لجدتي إكمال تعليمها، ماذا سيكون موقفها من كتابات نوال؟ ولو صحّ لها استغلال طاقاتها الأدبيّة، هل ستصدر كُتُباً تضاهي جمال الوصف في روايات نوال؟


امرأة عند نقطة الصفر: هي حكاية فردوس التي تيتمت على صغر، وانتقلت لرعاية عمّها القمعي في القاهره، وأجبرت على الزواج من شيخ طاعن في السنّ. فردوس هي الفتاة التي هربت من أسواط زوجها المستبد، إلى أسواط الفقر والبطالة، ثم إلى استبداد quot;القوّادquot; الذي جعل منها سلعة يتبادلها الرجال. فردوس هي التي فقدت ثقتها بالرجال جميعاً حتى أخذتها العزة بالإثم وقتلت quot;بائعهاquot; القوّاد، وسُجنت وأُعدمت إثر ذلك.

امرأة بدأت عند نقطة الصفر، وتعدّت حدود الأرقام، حتى عادت إلى الصفر، وكأنها لم تكن!


- quot;من منكم وجد نفسه في فردوس؟quot;


- عن ماذا تتحدّث نوال؟ أَجُنّت؟ كيف أجد نفسي في فردوس؟


- quot;حسناً، أريد كل واحد منكم أن يرسم جدولاً لأوجه الشبه بينه وبين فردوسquot;


- كيف أشبّه نفسي بفردوس؟ كيف أقارن نفسي بشخصية عاهرة وقاتلة ومضطربة نفسيّاً وعصبيّاً؟ ملأت خانة فردوس بكل ماهو سلبي، وتركت خانتي فارغة. فأنا لست بفردوس!


- quot;حكاية فردوس هي حكاية حقيقية، ورواية امرأة عند نقطة الصفر تروي أحداث حياتنا جميعاً! كلنا فردوس! ألسنا شعوباً تناضل؟ ألسنا مدناً تعاني الفقر الاقتصاديّ والثقافيّ والعاطفيّ؟ ألسنا نضطر إلى الهروب أحيانا من مواقف محرجة أو طرقاً مسدودة؟ ألسنا ننادي بالإنسانية في عصر اجتياح غزة واحتلال بغداد؟ ألسنا جميعاً نمر في رحلة البحث عن الحق والعدالة؟ ألسنا نحسّ؟ ألسنا نتألّم؟ إذن كلنا فردوس!quot;


عجباً! لم ترمش عيناي لوهلة من دهشتي. أنا فردوس؟!

ربما أنا فردوس التي أُرغمت على ترك بيتها ومدرستها وأحبائها للانتقال إلى ظلال عمّها في القاهرة، تماماً كما تركت الرياض ومدارس نجد وأقاربي وصديقاتي للانتقال إلى ظلال (أو ضباب) بريطانيا!

وquot;لويزاquot; تلك المرأة التي تعمل في مجال التسويق، هي فردوس التي حوّلت جسدها المصون إلى سلعة يتداولها الرجال، كما تحوّل هي الأفكار المبدعة إلى سلعاً يتداولها الشُرّاء. فيمر الوقت وتفقد فردوس احترامها، ويمر الوقت وتفقد الأفكار قيمتها!

ونوال السعداوي هي فردوس السجينة، التي رفضت توقيع طلب الطبيب بالعفو عنها، واختارت الإعدام لأنه أشرف، ولأن الموت حرية! قتلت فردوس رجلاً، كما قاتلت نوال نظام الحكم في مصر، وسجنت بسبب توجهها السياسي وتمرّدها على أنور السّادات. رفضت نوال توقيع طلب العفو عنها، وفضّلت إذلال السجن على رحمة السادات!

مُنعت من أبسط حقوقها في السجن، الكتابة! لكنها لم تستسلم، ولجأت إلى المحارم الورقية وقلم كحل تم تهريبه من الزنزانة المجاورة لتكتب الكتاب الذي جالسني في أرقي: lt;مذكرات من سجن النساءgt;!

هذا هو الإبداع: أن نفكر خارج نطاق الزمان والمكان، أن نستغل الوقت، ونستغل ذلك المبدع في دواخلنا!


علمتني نوال أن أقرأ بين الأسطر. علمتني أن أجد بعضاً من نفسي في كل كتاب أقرأه، وكل شخص ألتقي به، وكل عمل أقوم به، وكل تجربة أخوضها. علمتني نوال أنني نتاج ذلك كله. إذن أنا فردوس، وأنا quot;ياسمينquot; في lt;بيروت ٧٥gt; لـ غادة السمان، وأنا quot;مصطفى سعيدquot; في lt;موسم الهجرة إلى الشمالgt; لـ الطيب صالح، وأنا quot;اسماعيلquot; في lt;قنديل أم هاشمgt; لـ يحيى حقي. وربّما أنا أيضاً إشارة الجمع في كتاب الرياضيات، وحرف الجرّ في كتاب القواعد!


الإبداع هو الخروج عن المألوف، هو التفكير خارج المحيط! كل قرار شجاع هو قارب يأخذنا من شط البقاع إلى شط الإبداع!

اتخذت نوال الكثير من القرارات الشجاعة في حياتها، لست أؤيد الكثير منها، لكنني أكنّ لكفاحها كل الاحترام والتقدير. كان بإمكان نوال أن تزاول مهنة الطب والجراحة، وتجني أموالاً ومنحاً ودروعاً. لكنها اختارت أن تكرّس حياتها للدفاع عن قضية الحرية الفكرية.


- quot;لا أملك مالاً ولا جاهاً! لكنني أملك 'عقلاً'! وليس كل من له عقل، 'يمْلكُه' !quot;


فلنرفع الخمار عن عقولنا، ولنطلق مدافع السلام على أنفسنا، ولنؤمن بقدراتنا..

فمن هنا،.. ينبع الإبداع!


دمتم مبدعين!

رحلتي مع نوال السعداوي 1-3