المعتقلون من مسؤولي النظام السابق في العراق و القابعون خلف أسوار السجن منذ أكثر من سبعة أعوام يشكل بعضهم دون شك ثروة معلوماتية و إرشيفية هائلة لم ينتبه لها النظام العراقي الحالي و المتسم بالهرجلة و الفوضى و التنازع و التصارع على المناصب و الأعطيات و الإمتيازات!!

إنه دون شك أشبه بنظام (مخروش و طاح بكروش)!، فالمستولين على السلطة في العراق اليوم لايدركون أبدا بأن الذاكرة التاريخية لأهم صفحات التاريخ العراقي الأسود خلال حقب السبعينيات و الثمانينيات و التسعينيات من القرن الماضي هي اليوم في خطر التلاشي و الضياع بسبب عدم الحرص على تدوين و أرشفة و تسجيل مذكرات و معلومات من العناصر القيادية العراقية السابقة المقيمة في السجون و التي تحاكم على خلفية إتهامات جنائية و قضايا إنتهاكات لحقوق الإنسان حدثت في الثمانينيات تحديدا وهي ذات جوانب سياسية مرتبطة بأحداث و إشكاليات الحرب العراقية / الإيرانية أو المرحلة التي مهدت لها من تهجير و حملات مطاردة و إعدام و غيرها، وقد أصدرت المحكمة الجنائية العراقية الخاصة قبل أيام كالعادة أحكاما جديدة بالإعدام شنقا بحق عدد من القادة العراقيين السابقين كان من أبرزهم سعدون شاكر محمود وهو واحد من أبرز رجال التنظيم السري لحزب البعث العراقي المنحل، كما لعب خلال العقود الماضية دورا سريا مؤثرا في أحداث العراق و العالم أيضا، فهو لم يكن وزيرا للداخلية فقط إعتبارا من عام 1979 بعد هيمنة صدام حسين على السلطة الأولى في العراق بل كان عضوا نشيطا وفاعلا في الجهاز السري لحزب البعث ( تنظيم حنين )! و كان من عناصر الحرس القومي او ميليشيا البعث في عام 1963 بعد الإنقلاب الدموي على نظام اللواء عبد الكريم قاسم بل أن هنالك شهادات كانت تؤكد على أن سعدون شاكر كان يقتل الشيوعيين بدم بارد ومن ثم يلقي جثثهم في القبور المحفورة و المعدة لهم سلفا!!

وهذه الحقيقة يعرفها الجيل القديم من الشيوعيين و لكن الحزب الشيوعي العراقي لم يطرح أبدا هذا الموضوع في أدبياته و تجاهل تماما دماء مناضليه و أحداث تلك الفترة العصيبة!!، كما أن سعدون شاكر كان أحد أفراد العصابة التي نجحت في إختطاف صدام حسين من أيدي سجانيه أيام كان معتقلا عام 1966 وحيث تم تهريبه من مطعم ( تاجران ) في شارع السعدون في بغداد!!، لذلك فقد عين سعدون شاكر بعد إنقلاب البعث عام 1968 في منظمة الحزب السرية و في جهاز العلاقات العامة الذي كان البداية الحقيقية لرئاسة المخابرات العامة و التي تأسست تحديدا و توسع نشاطها بعد القضاء على تمرد مدير الأمن العام اللواء ناظم كزار عام 1973 فنشط جهاز المخابرات العراقي الجديد برئاسة سعدون شاكر محمود يساعده في المهمة أخ صدام غير الشقيق و المعدوم قبل عامين ( برزان التكريتي ) وحيث تكفل هذا الجهاز بتعزيز سلطة حزب البعث و توسع و تضخم كثيرا حتى تحول لأقوى جهاز مخابرات في الشرق الأوسط و لربما بمستوى أفضل من مستوى جهاو ( الموساد ) الإسرائيلي لإمكانياته المادية الواسعة و لحريته في التصرف وفق ميزانيات مفتوحة فقد إستطاع ذلك الجهاز وقتها من شراء العديد من المسؤولين الأمنيين في أوروبا الغربية من السويد وحتى إيطاليا، كما كانت شبكة جواسيسه واسعة للغاية و كانت أياديه طويلة تطال من تشاء في الوقت الذي تشاء، فلقد إغتالوا عبد الرزاق النايف رئيس الوزراء الأسبق في قلب لندن عام 1978 و أستطاعوا تجنيد شبكة واسعة جدا من المتعاونين عبر العالم بل أنهم إخترقوا منظمة التحرير الفلسطينية و ساعدوا التنظيمات المنشقة و شغلوا العديد من المنظمات الإرهابية لحسابهم مثل جماعة فتح المجلس الثوري ( أبو نضال ) و جماعة الجبهة الشعبية عمليات الخارج بقيادة الدكتور وديع حداد و التي مارست عمليات الإغتيال و خطف الطائرات و حتى قتل المعارضين العراقيين في الخارج كما حصل مع الدكتور توفيق رشدي الذي قتل في عدن أيام اليمن الجنوبي السابق عام 1978 و كذلك قتل مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت علي ياسين نفس العام السابق و غيرها من العمليات الإرهابية الكبرى و جميع مفاتيح تلك القضايا يمتلكها المعتقل الحالي سعدون شاكر بإعتباره كان وقتها رئيسا لجهاز المخابرات العامة، بل أن الموت المفاجيء و السريع للفلسطيني وديع حداد كان بتدبير من سعدون شاكر شخصيا حيث دسوا له سم الثاليوم في الشاي مما أدى لتدهور حالته الصحية ووفاته بعد شهر من تسميمه أوائل عام 1978 أيضا وحيث تحول لقطعة لحم مشوهة بعد أن قصر طوله و تضاءل حجمه!!

و لم يسمح لأحد بفتح التابوت و مشاهدة الجثمان قبل أن يدفن على وجه السرعة في بغداد كرسالة واضحة للإدارة الأميركية وقتها و كعربون و مقدمة على التعاون المستقبلي، لقد كانت المخابرات العراقية تدفع لجماعة الفلسطيني وديع حداد مبلغ ربع مليون دينار عراقي شهريا أيام كان الدينار يساوي ثلاثة دولارات و نصف أمريكي أي ما يقارب المليون دولار!! من أجل تنفيذ الخدمات الخاصة جدا لصالح النظام العراقي كما دفعت المخابرات العراقية لعدد من المسؤولين في إفريقيا دون تحديد الأسماء لأن المقال لن ينشر فيما لوذكرت تلك الأسماء!! مبالغا وصلت لسبعة ملايين دولار مقابل الحصول على الإرشيف المخابراتي لإحدى الدول، فقد كانت فترة رئاسة سعدون شاكر للمخابرات العامة بمثابة العصر الذهبي لتلك المخابرات إنه دون تردد أشبه بدور السيد صلاح نصر في المخابرات المصرية حتى عام 1967، و مع كل ذلك الدور التاريخي و العملي فإن أحدا من النظام العراقي الحالي لم ينتبه لذلك ولم تتم عملية عصر و إستخراج المعلومات الخاصة جدا و التاريخية و التي تنير درب من يريد أن يؤرخ لتلك المرحلة العراقية الحاسمة و الشديدة الخصوصية، القوم في بغداد لا يعبأون بالتاريخ و لا بالذاكرة الوطنية و لا بتحليل المعلومات بل أن كل مايهمهم هو فوضى الإنتقام و الثأر إستجابة لرغبات غرائزية لا علاقة لها بفن بناء الدولة و لا إدارتها و لا أي شيء آخر.. سعدون شاكر محمود ثروة مخابراتية ثرية بالمعلومات تفضح عن عصر كامل أحيطت بعض ملفاته بالغموض و ينبغي الإستفادة الكاملة من بقايا التاريخ قبل أن يباد القوم و تباد معهم أسرار الشعب و الأمة و ملفات المصائب التي تسببوا بها أو شاركوا في صنعها وهي مصائب أممية و ليست عراقية محضة.. أعلم إن ندائي سيذهب في الفراغ.. لأنه في بغداد اليوم لا أحد يقرأ أو يكتب فضلا عن أن يستوعب!

لقد إستوطن الجهل السلطوي حتى فرط بذاكرة الأمة و الشعب... و للحديث صلة بكل تأكيد.


[email protected]