1:
في السنوات الاخيرة امتدت جغرافية العزاء الحسيني لمسافات عالمية كبيرة، فلم يعد هذا العزاء حكرا على مناطق شيعية بحتة، بل نجده في أوربا وأمريكا واسيا الصغرى وأواسط افريقيا ـ وهنا اذكر ذلك على سبيل المثال وليس الحصر ــ وذلك بصرف النظر عن طبيعة هذا العزاء، وهويته الإجرائية والطقوسية، بل إن هذا العزاء كـ(ذكرى) مؤلمة وجارحة للشعور الإنساني راح ينفذ برائحته الطقوسية الإنسانية الى الضمير السني من المسلمين، بل هناك دعوات لاحياءه على طريقة مستلهمة من المعطيات السنية المناقبية حول الصحابة رضي الله عنهم بشكل عام، وأهل البيت عليهم السلام بشكل خاص، ومن قيم فقهية سنية تتصل بكثير من المقتربات التي تخص الجسد وأحكامه في هذا الفقه، وأحدس أن الفرق الصوفية سيكون لها دور فاعل في هذا المجال، فهم يحبون عليا حبا جما، ويعتبرونه الأب الروحي لكل المدارس الصوفية، وينعكس هذا الحب على الموقف من استشهاد الحسين عليه السلام، ربما يتجسد في الاخير على شكل موقف أحتفائي بصورة أو غيرها.

2:
هناك دعوات لاعتبار الحسين قضية إسلامية، فهو ليس للشيعة فقط، بل هو لكل المسلمين، بل هناك كتابات جديدة تريد (عولمة) الحسين، فهو شهيد عالمي، وليس شهيدا اسلاميا على وجه الخصوص الحصري، ولعل قراءات تصدر قريبا أو على المدى المتوسط تكشف عن أن الحسين عليه السلام هو الجامع لقيم الشهادة، وكل ما عند هذا الشهيد أو ذاك هو عند الحسين ولكن ليس العكس صحيحا، ومهما كانت جدية هذه الدراسات من الناحية العلمية، فإن اتساع جغرافية العزاء الحسيني في العالم صارت أمرا واضحا، وهذه الجغرافية ليست أرضية بل مذهبية أيضا، فهناك على أقل تقدير بعض المشاركات السنية العلنية بالعزاءات التي يقيمها الشيعة هنا أو هناك، رغم إن المشاركة رمزية، فالسنة في هذه المشاركة لا يشجون رؤسهم بالسكاكين، ولا يضربون ظهورهم بالزناجيل، ولا يلطمون على صدورهم، بل هناك حزن ووجوم وتأسي، في أطار إيمان عام بمظلومية الحسين عليه السلام، وكونه شهيدا عظيما، وربما يستفيدون في ذلك من كتاب عباس محمود العقاد (أبو الشهداء) والعلايلي (سمو المعنى بسمو الذات)، والشرقاوي، وسيد عبد العزيز الا هل، وغيرهم من علماء السنة الدينيين والمدنيين حول عظمة الحسين وعظمة شهادته.

3:
كلامي الآن وفي هذه العجالة عن العزاء الحسيني في اوربا، ففي تصوري يمكن أن يكون مدخلا فسيحا للإسهام بعولمة العزاء الحسيني، بسبب نعمة الحرية في هذا الصقع من العالم، وبسبب إمكانية التعارف الحقيقي بين الناس بلدان الأفرنج، وبسبب إمكانية الاطلاع على الحقائق أكثر في هذه البلدان (الكافرة!!!) مما لو كنا في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، لا أقصد بالعولمة هنا اشتراك السنة من المسلمين وحسب، بل أهل الكتاب، خا صة وعيسى بن مريم سلام الله عليه عنوان التضحية في سبيل الانسان حسب معطيات المسيحية بشكل عام، وكثيرا ما كتب المسيحيون عن الحسين بلغة إنجيلية بديعة، بل بلغة لاهوتية سماوية، وهناك من يحسب استشهاد الحسين صدى لذبيح الصليب عليه سلام الله، وبالتالي، يمكن عولمة العزاء الحسيني في اوربا.

4:
لكن hellip;
هل شكل العزاء الحسيني الذي نشهده ونشاهده كل عام في أوربا يشجع على مثل هذه العولمة؟
أي العزاء على شكل لطم، وعويل، ونشر للشعور، وطبر للرؤوس، وحرق للأقدام، وتجريح للظهور، وسب وشتم، وتخوين وتهوين لهذا الصحابي أو ذاك، وتظهير غيبي صرف للحسين شخصا وموضوعا وقتالا وخطابا؟
لا بطبيعة الحالhellip;
العزاء على هذه الشاكلة يقلب المعادلة، يخرج الحسين من نكهته الربانية السامية السامقة الشفافة، أقصد في أوربا، لست معنيا بغير أوربا في كلامي هذا، فإن مثل هذه الأشكال العزائية تنفر الناس من الحسين، لا أريد أن اتحدث هنا عن اتباع الحسين مذهبيا، هذا شان آخر، ولي فيه كلام آخر في أوربا أيضا، حيث بدأت بعض الاصوات الشيعية في اوربا تنادي بتنزيه العزاء الحسيني في هذا القسم من العالم، بما يتناسب مع مكانة سيد الشهداء، عزيز الله، الحسين، سليل علي ونبتة فاطمة البتول، وبما يناسب مع فلسفة الشهادة من حيث هي، وما يناسب شهادة الحسين بحد ذاتها، هدفا، وغاية، واسبابا ونتائج hellip;
إن العزاء الحسيني في اوربا يجب أن يكون حضاريا بكل معنى الكلمة، نريد أن نعولم هذا العزاء، نحوله إلى عزاء إنساني، لان الشهيد، الحسين قضية إنسانية.
عولمة العزاء الحسيني في اوربا يعني أن يكون عزاء المسلمين والمسيحيين، عزاء المؤمنين بالله والمؤمنين بالحرية والضمير، عزاء الشعوب، عزاء الاديان والفلسفات التي تعمل من أجل الانسان، واوربا جاهزة لمثل هذه العولمة الحضارية الطيبةhellip;

5:
ما هي مفردات هذا العزاء الحسيني (العالمي) المرتقب، في أوربا أقصد كما هو أصل المشروع؟
ألف: تعريف بالقضية الحسينية من دون الايغال بتفاصيل الزمن الاسلامي السابق على الحسين عليه السلام، ونكتفي بالزمن الاسلامي الخاص بنهضته، يزيد على وجه التحديد، هناك ظلم، هناك دكتاتورية، هناك حرف لمباديء الاسلام الخالدة، والحسين أراد أن يعيد مسيرة القيم إلى دورها الأرضي الفاعل.
باء: التوكيد على شجاعة الحسين المعنوية في مواجهة تسلط العدوان والظلم والاستهتار بحقوق الانسان، من دون استعراض الصور البشعة لما جرى على الحسين والتي كثير منها لا أساس له من الصحة السندية ــ سبق وأن نشرت في ايلاف بعض هذه الصور وزيفتها سنديا في العام الماضي، ربما اعيد الكتابة في ذلك بمناسب أربعين الحسين عليه السلام ــ، وفيما كنا مضطرين لذلك فعلى نحو الاجمال وليس التفصيل.
جيم: ربط استشهاد الحسين عليه السلام باستشهاد العالميين، بطريقة فنية مبتكرة، وتحويل هذه الشهادة إلى لحمة ارتباط بين الناس، على أساس حب الخير، والرغبة في نشر الفضيلة، وترسيخ السلام العالمي، في مواجهة الارهاب بكل أشكاله وأنواعه، وعلى راسه الارهاب الديني والشوفيني والطائفي والعنصري.
دال: إشراك رموز من أهل الديانة المسيحية وغيرها في الاسهام الفكري والروحي في مجريات العزاء في نطاق طروحات فكرية عالمية، تنطلق أو تستشهد بالشهادة الحسينية الكريمة.
واو: القيام بنشاطات انسانية باسم الحسين، مثل التبرع بالدم، والقيام بحملة تبرعات ضخمة لبناء مساكن ودور أيتام للمجتاجين ومدارس، على أن تنظم بطريقة فنية ومضمونة.
هاء: إظهار الحزن بصدق وأمانة، مع ممارسات خفيفة تعبر عن هذا الحزن بشكل عملي، كالبكاء والضرب الخفيف على الصدر، في منظر مهيب، خاشع، يدل على جلالة الذكرى وعظمتها وطهرها وقدسها.
واو: استثمار الاستشهاد لشن حملة فكرية ضد الارهاب والارهابيين.
زاء: التعزية المنبرية تقتصر على سرد المفاصل المهمة من المأساة، مع التركيز على الاهداف الانسانية للثورة الحسينية، الاصلاح في المقدمة، بلا إي أشارة مذهبية أو طائفية.
هذه أهم النقاط التي جالت بخاطري وأنا اطرح مشروع (عولمة) العزاء الحسيني، وأتصور أننا بذلك نساهم حقا في عولمة الحسين عليه السلام، وتحويل العزاء الحسيني الى مشروع إنساني حضاري ينفع البشرية جميعا، والله من وراء القصد.