إذا أحتسبنا، في الحلقة الأولى، الثالوث ( الجنس، الإقتصاد، المعتقد ) بذرة مقولة القمع، فإن هذه الأخيرة كي تحافظ على أنطولوجيتها في حال فاعلة تتجاوز مفهوم الفردي وهو ما سميناه، إدراكاً فقط، الإستبعاد بالقمع، ليتسنى لمفهوم الإستبعاد بالهيمنة، إعتماداً على المحتوى الإجتماعي الموازي، إن يخترق غشاء بكارة المحظور، لذلك يؤكد هوبز بحق

الدالة الفارغة ما بين هوبز وأفلاطون 1

ثمة، دائماً، توقع حدوث تحالفات، حتى لو غير منظمة، لقهر القوة الفردية مهما كانت عظيمة. من هذا القول البسيط نستشف أمرين، الأمر الأول: إقرار مبدأ الهيمنة مندمجاً إجتماعياً بمبدأ القمع، والأمر الثاني: هذه التحالفات ( قمع آخر، هيمنة جديدة ) هي تعبير صارخ عن إنجاب القمع لذاته في، ومن خلال ( شيء من التنظيم ndash; الإجتماعي ) الذي يضمر التخاذل والقوة ( يبدو ذلك جلياً لدى حكومات المنطقة، والأحزاب العربية والكوردية قاطبة) لإنه لايمكن أن يستمر على مبدأ المواجهة القمعية والتصادم الظاهري المبسط على غرار مقاومة الريحانة الرياح العاصفة حسب تعبير الشاعر الفرنسي أراغون، إنما يمكن أن يستمر على أساس مبدأ وشرط. المبدأ هو الربط ما بين محتوى إجتماعي معين وهذا الشيء من التنظيم - الإجتماعي. والشرط هو نزوع هذا المحتوى الإجتماعي المعين نحو الشمولية ( أي في الحقيقة، نحو القمع، الهيمنة، السياسة ). من هنا نجد أنفسنا إزاء ثنائية تتعلق بالهيمنة والسياسة، بعد أن كنا إزاء مفهوم إحادي عصامي: القمع، وتتعلق أيضاً بالجانب الحتمي في العلاقة ما بين المقولتين، أي إن الإرتقاء، الدحر الحاصل بالفعل يتضمن أمرين أثنين، الأمر الأول: يتلاشى القمع، في الجانب الزمني، نحو ولادة الهيمنة.

والأمر الثاني تتماهى الهيمنة في السياسة في الجانب الموضوعي لمؤشر القمع. لذلك فإن إعتقاد هيجل بشمولية الطبقة / الشريحة البيروقراطية ارتبط بإضمحلال الهيمنة في الوعي، وأعتقاد ماركس بشمولية الطبقة العاملة أرتبط بإضمحلال الهيمنة في التاريخ، وحتى تروتسكي الذي رأى ضرورة تعميم المفهوم القائل بالتطور المترابط والمتفاوت نتيجة إن الإمبريالية قد عممت شروطها الخاص في وسائل الإنتاج والقوى المنتجة، فقد رهن على إضمحلال الهيمنة في المفهوم، وهذا هو التناقض ( البارادوكس ) الأساسي في الفكر الإنساني، وإذا ما أدمجنا آراء هؤلاء السادة الكبار، هيجل، ماركس، تروتسكي، في لوحة تشكيلية رساموها أطفال قرية تائهة، لعثرنا على قمة التناقض في المعرفة البشرية، لإن هؤلاء الكبار، هيجل، ماركس، تروتسكي، يعممون، في الحقيقة، شرط السياسة ( الوعي، التاريخ، المفهوم ) في شمولية مبدأ الهيمنة المرتبط بالمضمون الإجتماعي الموازي تاركين مبدأ القمع مرتبطاً بالدالة الفارغة، لإن ذلك المضمون الإجتماعي يفتقر إلى إمتلاء في الكلي ( الأرسطوي ) والنسبي ( الأنشتايني )، وهذا هو مبعث الأسطورة في التاريخ البشري، وليس الحال العكسية، قوة الخير ضد قوة الشر. هنا قد يسأل أحدهم: إذا أنتفى ( هذا الشيء من التنظيم الإجتماعي ) وسادت الفوضى، وعمت حالة اللانظام الجذرية، فهل نكون قد تحررنا من مفهوم الهيمنة، في الحقيقة سنكون في هذه الحالة إزاء الدالة الفارغة، ليس لإننا تحررنا من مفهوم الهيمنة، كلا إنما لإننا إزاء حالة أسميها أفتقار إلى امتلاء، ولقد تحققت هذه الحالة في بدايات القرن العشرين في إيطاليا، على صعيد الفعل الإنساني، حيث يقول أرنست ماندل، ثمة أزمة حقيقية خانقة أجتاحت إيطاليا ما بين 1918 ndash; 1927 وعلى أثرها تقلد الفاشيون زمام السلطة، هذا يعني إن الفاشيين نجحوا حيث أخفق الشيوعيون. فأين مفهوم الدالة الفارغة في هذه الواقعة؟ في الواقع لو كان المجتمع الإيطالي ( ممتلئاً ) أي لم يكن بحاجة إلى أصلاح جذري، أو لو استطاع الشيوعيون أختراق هذا ( الفراغ الممتلىء الصارم )، وتم تحجيم القوة الفاشية من أستلام المبادرة في التاريخ السلبي ( كما هو الحال اليوم في سوريا وأيران )، لما كنا إزاء مفهوم الدالة الفارغة، لكن من منطلق إن المجتمع الإيطالي كان بأشد حاجة إلى تغيير وأصلاح راديكاليين فإن دالة الثورة ( الإمتلاء ) هي وحدها التي كانت تتطابق مع نوعية الإصلاح بالذات، لكن هذا الإصلاح لم يرتبط بدالة ثورية معينة لإن المجتمع الإيطالي، الذي أبتغى القطيعة مع الماضي، لم يكترث بطبيعة الدالة الثورية وركز على المنطوق المجرد ( ضرورة الإنقاذ )، دون أن يدرك كيفية ونوعية الإنقاذ، ولا من يمثله، وهكذا فإن المقولة السلبية ( ضرورة الإنقاذ ) هي التي أقمحت المجتمع الإيطالي في مستنقع الدالة الفارغة ( وهذا هو واقع حال المجتمعين العربي والكوردي على حد سواء ).

وأما على صعيد الفكر الإنساني، فإن مقولة الدالة الفارغة تبرز جلياً لدى كل من هوبز وأفلاطون، فهوبز يصيغ قاعدة عامة مفادها إذا ما أنتفت حالة النظام في وضعية الفطرة الطبيعية، وتوافرت حالة اللانظام الجذرية كضرورة إجتماعية، فإن الليفياثان ( الدولة الكلية القدرية) تؤلف وتؤسس النظام الوحيد المستقر في المجتمع. طبقاً لهذه القاعدة وأنسجاماً مع الفكر الهوبزي نرى: أولاً إن حالة الفطرة الطبيعية تتميز بحرب الجميع ضد الجميع، وثانياً إن الليفياثان ( الدولة الكلية القدرة ) تكون وحدها قادرة على منح النظام مفهومي المعنى والديمومة، وثالثاً في حالة أستشراء الفوضى لايهم نوعية النظام ولا تأصيلاته، إنما الذي يهم هو فرض النظام، ورابعاً إن فكرة السلطة لاتقتفي أثر نوعية النظام، إنما تنسحب إلى فكرة إقامة النظام. في الفعل، وإذا ما تجاوزنا الأخطاء القاتلة التي يرتكبها هوبز في ربط مجمل هذه المفاهيم قسرياً، فإنه لايرمي إلى نوع معين من النظام ولايصبو إلى دالة الأمتلاء، بل إن كل ما يهدف إليه هو فرض النظام الذي يتجلى في ثتاياه مفهوم الأستبعاد بالقمع. وطالما إن فرض النظام من قبل الليفياثان لاعلاقة له بمضمون ومحتوى النظام أبداً، فإن هذا يشكل أساس المحنة لديه التي تحتضن القطيعة مابين الفكر الهوبزي ومقولة الهيمنة، والتي على أثرها تبرز مقولة الدالة الفارغة. وإذا كان أفلاطون يقف على الطرف المعكوس من هوبز من زاوية إنه يطلب نظاماً ممتلئاً مقترناً بتحديد عدد سكان المدينة، لكنه لايعقله، ويطلق العنان للأمتلاء إلى حد إن الإطلاقية تتسرب إلى مضمون النظام نفسه، لإنه يميت كل أمكانية التباين فيه. أي أن الإطلاقية تفرغ النظام من كل محتوى له، ليغدو صندوقاً قد يحتوي على أي شيء ما خلا ( النظام ) نفسه، لنغدو نحن إزاء مفهوم أسميه ( النظام اللادال ) الذي يجاسد مدلول الدالة الفارغة.

لذا يمكننا بكل أبعاد المقاس أن نشابه مابين الفكر الأفلاطوني هذا ومدلول مبدأ الوجود لدى هيجل الذي جعله عاماً مطلقاً، ولإنه مطلق وعام فهو فارغ المحتوى على حسب تعبير يوسف كرم. وعلى النقيض من الدالة الفارغة، ثمت دالة الهيمنة التي تجلت جلواً صارخاً إبان الثورة الفرنسية، فالمجتمع الفرنسي الذي عزم على القطيعة مع الماضي، كان على بينة من تخصيص المستقبل في التواصل، وهذا التواصل هو الذي يحايث فكرة الإمتلاء المعياري، بل يولده على الأرجح، ويجعله يتقاطع بالضرورة مع المركز ويتطابق معه، تماماً مثلما يلج الذكر الأنثى ويتطابق معها، وإلا كنا ( وكان الذكر ) إزاء الدالة الفارغة، ولما أفضى ذلك بنا إلى مقولة دالة الهيمنة. تلك الدالة التي ركنها الأمتلاء المعياري وشرطها التقاطع والتطابق قد تبدو جنينياً كما هو الحال لدى أرسطو والقديس توماس الأكويني، وقد تبدو صارخاً كما هو الحال لدى كل من هيجل، ماركس، تروتسكي، غرامشي. ( الحلقة الثالثة ).