ان حديث الناس في موضوع التغيير شائع جدا ً، وذلك بسبب التراجع المخيف لمجتمعاتنا في جميع المجالات وعلى جميع الاصعدة والمستويات. أن ذلك يبدو واضحا ً إبتدائا ً من تآكل المنظومة القيمية، وخاصة الأخلاقية (لاحظ أزدياد حالة التحرش الجنسي في الكثير من المجتمعات العربية)، وليس إنتهائا ً بواقعنا الثقافي في كل الدول العربية التي لاتطبع كتبا ً أكثر مما تطبعه أصغر دولة أوربية، أو ذلك التردي في المستوى والذوق الفني مما يعرض من على شاشات فضائياتنا العربية، وليس إنتهائا ً بواقعنا الرياضي الذي لانستطيع مقارنته ببعض الدول الأفريقية أو دول أمريكا اللاتينية التي وجدت لها مكان في مونديال جنوب أفريقيا.

فهناك من يدعي بإننا مجرد أدوات تتلاعب بنا الإنظمة السياسية التي تمسك بزمام الأمور في كل شيء في مجتمعاتنا. فكل شي بيد النخب السياسية بصورة عامة والنخب الأمنية بصورة خاصة، فهي تتحكم بمقدراتا لإنها وحدها التي تمسك بمصادر الدولة من أموال وماكنة أعلامية، غير مستقلة طبعا ً، وتبتلع المؤسسات بكل أنواعها. فترى المواطن العربي دائم اللوم لحكوماته بعدم توفير مايلزم له أو التقصير في أدائها أو عدم المساواة في توزيع الفرص والعطائات على مواطنيها. أو يلقي اللوم على باقي المؤسسات في المجتمع، كالعائلة أو القبيلة أو المؤسسة الدينية أو المؤسسات الثقافة التي لها الدور الحاسم في صناعة تفكير الإنسان ومن ثم يصبح فريسة سهلة يقوم بإلتهامها النطام السياسي ويستخدمها لديمومته. لا أريد أن اطيل في مقدمتي للموضوع فالقارئ ذكي بما يكفي ليفهم مقصدي. لكني قبل أن أعطي رأيي في الموضوع أطلب من القارئ القليل من الصبر لإني أريد أن أطرح رأيي من خلال نظريات علم الإجتماع التي سأقوم بإختصارها لما ينفع هذا الموضوع.

ففي علم الإجتماع الكلاسيكي هناك تصورين لفهم طبيعة حركة وسلوك الإنسان وعلاقته بمؤسسات المجتمع. ففي التصور الأول الذي يقوده عالم الإجتماع الفرنسي أيميل دوركهايم (Eacute;mile Durkheim) يكون فعل الإنسان وحركته نتيجة طبيعية أو قل حتمية لطبيعة البناء الإجتماعي (Structure). فالإنسان ليس إلا قطعة صغيرة في ماكنة كبيرة أسمها المجتمع ومؤسساته، فتقوم تلك المؤسسات بصناعة تفكير الإنسان ومن ثم فعله. لقد قام دوركهايم بدراسة ظاهرة الإنتحار في باريس في بداية القرن العشرين فوجد أن خلفية المنتحر الدينية والطبقية والإقتصادية لها دور كبير في أزدياد حالة الإنتحار، أو نقصانها. من هنا أستنتج دوركهايم أن المؤسسة هي التي تصنع تفكيرنا ومن ثم أفعالنا، فليس الإنسان إلا مجرد وكيل (Agent) لغيره ومفعول به (Object)، وكل أفعاله هي عبارة عن سلوك (Behaviors) وليس تصرف (Action). وعلى هذا الأساس يكون التغيير نتيجة حتمية لنشاط وتحول المؤسسات في بنية المجتمع (Macro-level)، وليس للإنسان إلا أن يتقبل نتائجها. فالأصل هو المجتمع ومن ثم يأتي الفرد، والتغيير يبدأ من فوق ألى تحت.

في المقابل، أي في التصور الثاني الذي يقوده عالم الإجتماع الالماني ماكس فيبر (Max Weber)، يكون البناء الإجتماعي (Structure) ليس إلا نتيجة لفعل وحركة الإنسان (Action). وهذا يعني أن أفكارنا وتصرفاتنا تقوم بتشكيل وصناعة المؤسسات بكل مستوياتها، ومن خلال تلك التصرفات، وعلى هذا الأساس يكون الإنسان الفاعل الأول(Actor) من خلال ذاته (Subject) وتصرفاته. لقد قام فيبر بدراسة أفكار وسلوك أفراد الطوائف البروتستانية ليصل إلى نتيجة مفادها أن تلك الأفكار والتصرفات التقت بعوامل اقتصادية محددة تحت ظرف زمني محدد لتؤدي لظهور الرأسمالية وبالتالي لتغيير المجتمع الغربي وتحوله إلى مجتمع صناعي. وعلى هذا الأساس أستنتج فيبر أن حركة الإنسان وأفكاره، في المستوى الفردي (Micro-level)، تعطي البناء الإجتماعي شكله الحقيقي، أي التغيير يبدأ من الإنسان وينتهي بالمجتمع وليس العكس.

أما في علم اللإجتماع الحديث، فقد حاول الكثير من علماء الإجتماع التوفيق بين هذين الإتجاهين، فأبرز من تناول هذا الموضوع هو عالم الإجتماع البريطاني أنتوني جيدنس (Anthony Giddens) من خلال نظريته (Actor/structure dualism)والتي يؤكد فيها أن لا أسبقية للبناء الإجتماعي أو لفعل الفرد في عملية التغيير، بل هما وجهان لعملة واحدة، فأحدهما بالضرورة ينتج الآخر. أي نحن كبشر محكومون بإفعالنا من قبل المؤسسات، لكن وفي نفس الوقت توجد هناك مساحة للحركة الذاتية (Autonomy) عند الإفراد في تغيير هذا البناء وأعادة إنتاجه بشكل واعي ومحسوب.

أذا ً، في أغلب الأحول وفي أغلب الإتجاهات، توجد هناك دائما ً مساحة للتغير يقوم بها الفرد بعيدا ً عن المؤسسة التي تحكمه. لكن وفي رأيي هناك عدة أمور يجب الوقوف عندها لفهم كيفية هذا حدوث هذا التغيير وآلياته. الأمر الاول هو أن لابد للإنسان أن يكون واعيا ً بذاته وأمكاناته الذاتية ليقوم بعملية التغيير. ومعنى أن يكون واعيا ً أ الوعي بمايريد وكيف يصل لما يريد، حسب الإمكانات المتوفرة، ومعرفة العواقب لحركته. فالوعي بالذات يحول الإنسان من مفعول به، أي إيهام نفسه بأنه مجرد رقم أو أداة في يد المؤسسة، أيا ً كانت وهو لاحول له ولا قوة، إلى فاعل وذلك بتكوين قناعة ذاتية مفادها بأنه فرد عاقل له هدف وقصد من فعله، وله خصوصية ويستطيع أن يؤثر ولو بشكل محدود. أي بإختصارشديد أن يحول الكثير من السلوكيات الروتينية إلى تصرفات واعية ذات قصد. الإمر الثاني هو أن يكون الإنسان واعيا ً بمحيطة من خلال رصد حركة الزمان والمكان لجعل أفعاله أكثر واقعية وأن لايحلق بأوهام التغيير فقط في خياله من دون حساب للعواقب. فزيادة الوعي ذاتيا ً وموضوعيا ً يحمل الفرد مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون قانونية في فعله والعواقب الناتجه عنه.

والآن، أريد أن اطرح آليات التغيير، فهناك آليات كثيرة تؤدي لتغيير الواقع المحيط ولو بشكل بسيط. تنحصر هذه الآليات بالفعل الا مباشر والفعل المباشر في التغيير. فالفعل الامباشر هو من خلال تنظيم الفعل، فعلى سبيل المثال عملية الإنتخاب السياسي لتغيير الحكومات، أو في العمل من خلال منظمات المجتمع المدني في الدول المدنية ذات النظم الديمقراطية. أما في أغلب دولنا الغير ديمقراطية يتم ذالك من خلال إنشاء منظمات، حتى وأن كانت تحت غطاء الحكومة، للمساعدة في رفع الوعي في كل المجالات، أي بلورة الأفعال بشكل منظم لتجنب التشتت قي الحركة وخلق حركة موحدة لتنتج فعل قوي مؤثر.

أما في الفعل المباشر وذلك يتم من خلال تحويل الكثير من سلوكياتنا اليومية إلى تصرفات واعية يتم من خلالها التغيير، ومثل على ذلك هو الترشيد في الإستهلاك في الطاقة، أو أختيار أطعمة من ذات منشأ معين، ليس على حساب النوعية طبعا ً، لدعم إتجاه معين. ففي الكثير من الدول الغربية هناك إتجاه لشراء الأطعمة البيئية وإن كانت أغلى ثمنا ً، للمساهمة في الحفاظ على البيئة. أو في التوعية، من خلال الفعل طبعا ً وليس الكلام فقط، لخلق خطاب(Discourse) داخل شرائح معينة وذلك لجعل أشياء كثيرة وآراء كثيرة حالة طبيعية وليس عيبا ً التداول بها وطرحها.

أن الذي يساعد كثيرا ً على التغيير هو التحولات الكبيرة في وسائل الإتصال مما سمح بتداول الكثير من المواضيع خارج نطاق المؤسسة. أضافة إلى ذلك، أن التغيير السريع في التكنلوجيا سحب البساط من تحت أقدام الكثير من مؤسسات الدولة وباقي المؤسسات ليضعها بيد الفرد الذي هو بالفعل قادر على التغيير ولو بالشيئ البسيط. ففي ثقافتنا الإسلامية قول الرسول الكريم من رأى منكم منكرا ً فاليغيره، فأن لم يستطع فبلسانه، فأن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

[email protected]