المقدمة

لم ينه سقوط الدولة الكلدانية في بابل عام 539 قبل الميلاد الدور الحضاري لبلاد وادي الرافدين فقد استمر هذا الدور فاعلا ومؤثرا بطريقين : أولا : بما انتقل إلى ثقافات السلالات والقوى التي هيمنت سياسيا على بلاد وادي الرافدين وثانيا : بما افرزه من تجليات ارتبطت بشكل خاص ومباشر بثقافة البلاد وسكانها الأصليين لا سيما تلك الحواضر المهمة التي قدر لها أن تديم العطاء الحضاري لبلاد الرافدين كالحضر وحدياب وميسان والحيرة .ولذلك اهتم المؤرخون كثيرا بدراسة تاريخ هذه الحواضر وبذلوا جهودا كبيرة في كشف غموض تاريخها لكنهم لم يكونوا عادلين في التعاطي مع هذه الحواضر حيث لعبت الايدولوجيا دورا أساسيا في الاهتمام بحواضر معينة وإهمال أخرى ففيما كتب الكثير عن الحضر وميسان والحيرة تم تجاهل حدياب التي اخذ ينظر لها وكأنها حاضرة غريبة لا صلة لها بحضارة وادي الرافدين مع أن المعروف أن حضارة وادي الرافدين ليست حضارة عرقية ولم يساهم في تكوينها شعب بعينه بل هي نتاج شعوب عدة جمعها المكان الجغرافي حيث شعت بنورها على عموم منطقة الشرق الأدنى القديم وأصبحت منتجاتها الحضارية جزءا من موروث الثقافات التي أعقبتها أو التي خرجت من رحمها .وبالتالي نأمل أن يكون هدف هذه الدراسة إذا كان لها من هدف محدد هو كسر القوالب الأيدلوجية المتبعة في دراسة التاريخ وإعادة الاعتبار لدور حدياب الحضاري كواحدة من المراكز الباقية للحضارة الرافدينية بكل ما يحمله هذا الدور من عمق وأصالة وعظمة .ومن اجل ذلك سنستعرض أولا الجغرافية السياسية والحضارية لمملكة حدياب أي حدودها وجذورها الحضارية وأصول سكانها واصل تسميتها ثم ننتقل لدراسة تاريخها السياسي مستعرضين الأدوار التي مر بها هذا التاريخ قبل أن ننهي بحثنا بدراسة دياناتها وإسهامها الحضاري .وختاما لابد لنا أن نشير إلى شحه المصادر التي تناولت تاريخ مملكة حدياب فقد أطبق على المنطقة ظلام دامس بدءا من سقوط الدولة الآشورية سنة 612 قبل الميلاد وكان التاريخ قد أدار وجهه بعيدا عن هذه المنطقة ولم يتسنى لهذا المنطقة أن تخرج من ذلك الظلام إلى النور إلا خلال العصور الإسلامية .إن ما نتمناه هو أن تحض هذه المنطقة بعناية مؤرخينا فهي جزء أصيل من تاريخنا حتى نكون عادلين في التعاطي مع مجمل فتراته وحواضنه الحضارية ومن الله التوفيق .

المبحث الأول ---

الجغرافية السياسية والحضارية لمملكة حدياب
نشأت مملكة حدياب ضمن الإطار الجغرافي الذي كانت تحكم فيه دولة آشور أو ضمن الإطار الحضاري الذي اشتمل على الشق الشمالي من حضارة وادي الرافدين وعلى الرغم من أن مملكة حدياب لم تقف عند حدود معينة إلا أنها إجمالا لم تخرج عن المنطقة الممتدة من المنطقة الجبلية العراقية شرقا إلى نهر الفرات غربا وضمت في الغالب معظم المدن الآشورية القديمة فهي بمثابة دولة آشورية بوجه جديد لكن حدودها السياسية لم تكن ثابتة عموما بل كانت تخضع للتطورات والأحداث السياسية فتارة تتقلص حدود الدولة حتى أسوار اربل وتارة أخرى تزداد لتشمل أجزاء من سوريا الشمالية واسيا الصغرى أما اسم المملكة حدياب فهناك رأي يرى انه اسم آرامي يقابله في المصادر الكلاسيكية اسم ( ادبابيتي ) وربما هذا الاسم مشتق من لفظة زاب لان الزاب بالآرامية يلفظ بهيئة (دب ) فيكون معنى حدياب واديا بين إقليم الزابين وإقليم آشور وقد اسماه الجغرافيون العرب باسم ( حدة ) التي لعلها مجمعة مع اختزال عن حدياب فيما يرى رأي آخر أن اسم حدياب مأخوذ من لفظة ( اديابين ) التي كانت تطلق على المنطقة في فترة من الفترات لكن هناك من يرى أن معنى حدياب بلاد الأكراد ويقابلها بالسريانية ( بيت قراتواي ) وتشمل المنطقة الممتدة من الزاب الكبير إلى الزاب الصغير وسلسلة بال زاجروس الموازية لنهر دجلة لكن مما يجدر ذكره أن اسم حدياب تلاشى بعد ذلك ولم يعد يطلق على هذه المنطقة الأمر الذي يشير إلى أن هذا الاسم ذو دلالة سياسية وربما له علاقة بالسلالة الحاكمة أكثر من علاقته بالإطار الجغرافي أو الحضاري أو السكاني أما عاصمة المملكة فقد اتفقت المصادر المختلفة على أنها مدينة اربل التي تعد من المدن القليلة التي يمتد عمرها إلى عدة آلاف سنة وهي لفظة أكدية مكونة من مقطعين ( أربا ائيلو ) أي قلعة الآلهة التي حورت فيما بعد إلى لفظة ( هولير ) فيما يرى البعض أن هذه اللفظة لا علاقة لها بتسمية اربيل وقد سكنت اربل مجموعات سكانية مختلفة من الأشوريين الكوتيين واللولبيين والحوريين والميتانيين وغيرهم لكن المدينة بقيت تحمل بصمات الحضارة الرافدينية بشطرها الآشوري .إن نشوء مملكة حدياب جاء نتيجة للسياسة العامة للإمبراطورية الفرثية ( 140 قبل الميلاد إلى 226 م ) التي تعطي للأقاليم حريات واسعة في إدارة شؤونها الداخلية وتسمح لها بممارسة نوع من الاستقلال ضمن محيطها الجغرافي بما لا يتناقض مع السياسة العامة للإمبراطورية فهي بالتالي نتاج الطبيعة العامة للنظام السياسي الفرثي لكن مملكة حدياب رغم انتمائها للإمبراطورية الفرثية مثلت وبحق وريثا أصيلا لحضارة المنطقة وبالذات حضارة الآشوريين التي شكلت وعلى مدى ألفي سنة الشق الثاني في تركيبة حضارة وادي الرافدين إلا أن سقوط الإمبراطورية الآشورية سنة 612 قبل الميلاد قد خلق فراغا سياسيا لم يستطع البابليون ملئه خلال حكم سلالتهم الأخيرة لأنهم تواروا بعد ذلك بفترة قليلة إلا أن ذلك ينطبق على الجانب السياسي فقد بقيت حضارة وادي الرافدين بشقها الآشوري قائمة لقرون عديدة لاحقة بل أن نظم الدولة الاخمينية التي ألفها العنصر الفارسي هي نظم موروثة من الدولتين الأشورية والبابلية وقد تولى أفراد آشوريون مناصب رفيعة في الدولة الاخمينية وبلغ احدهم منصب أمين سر قمبيز عندما كان وليا للعهد خلال حكم أبيه كورش وبالتالي نستطيع أن نؤكد غلبة العنصر الرافديني أو الآشوري ضمن نسيج العناصر السكانية للمنطقة التي تتألف أيضا من عناصر سكانية تمثل مزيجا من أجناس بعضها جاء إلى المنطقة بفعل الغزوات الآشورية وبعضها الآخر جاء بعد سقوط الإمبراطورية الأشورية عندما تلاشت السلطة السياسية الحامية الأمر الذي قد يجعل من المنطقة الآشورية إحدى المناطق التي تمتاز بتنوع عرقي كثيف لكن بهيمنة واضحة لثقافة البلاد الأصلية أما الواقع الاقتصادي للمنطقة فلكونها وفيرة المياه وذات تربة خصبة فقد أصبحت ملائمة للإنتاج الزراعي الذي مثل الحرفة الرئيسية للسكان إلى جانب الحرف الأخرى التي تنطلق من ارثهم الحضاري وعقليتهم المدنية العريقة .

المبحث الثاني ----------- نبذة عن التاريخ السياسييكتنف التاريخ السياسي لمملكة حدياب الكثير من الغموض بسبب ندرة الكتابات التي تتناول عصر المملكة بل وينصرف ذلك على العصر الفرثي بشكل عام الذي لا تتعدى مصادرنا عنه بعض الكتابات المسمارية التي بقي استخدامها قائما إلى القرن الأول الميلادي هذا علاوة على المعلومات التي توردها المصادر اليونانية والرومانية والمعلومات المستقاة من علم الآثار وبشكل خاص المسكوكات بالإضافة إلى المصادر العربية والفارسية التي تتسم غالبا بالسمة الأسطورية .
لذلك لا نعرف الكثير عن كيفية نشوء مملكة حدياب ولا عن الكثير من فترات تاريخها وكل ما نعرفه أن فترة بروزها واكب استقرار الأمور لصالح الدولة الفرثية بعد انتصارهم الكاسح على السلوقيين خلال الفترة من 140 إلى 126 قبل الميلاد لكن يبدو أن نفوذ ملوك حدياب لم يكن قويا أو انه لم يبلغ مرتبة الاستقرار إلا في بداية العهد المسيحي عندما حكم ثلاث ملوك يحملون اسم حدياب قام أولهم بمساعدة ملك الفرثيين اردوان ( 12 ndash; 38 م ) على استعادة عرشه بعد أن نازعه عليه بعض الأمراء المناوئين الأمر الذي دعا الملك الفرثي إلى السماح له بلبس التاج ومنحه حكم أرمينيا ونصيبين إضافة إلى حدياب أي أن نفوذ هذه مملكة حدياب قد شمل مساحات واسعة من ثلاث دول معاصرة ( العراق وسوريا واسيا الصغرى ) ثم تبع ذلك مرحلة توسع أخرى قادها احد الملوك الثلاث وقد حكم حسب بعض الآراء بين عامي ( 36 ndash; 60 م ) إذ استهدف توسيع حكمه في شمال العراق بعد أن نافسته زعامة الحضر وقد نجح هذا الملك من الانتصار على الحضر في مدينة اراسميس التي يعتقد أنها إحدى المدن التابعة لدولة الحضر مما اضطر ملكها أبيا (ابياس) إلى الانتحار برمي نفسه من حصن المدينة حتى لا يقع في الأسر ونظرا لقوة هذا الملك أو الملوك الذين حملوا اسم أيزاد و ما حققوه من انجازات كانت غائبة في العهود السابقة فقد أصبحت لهم منزلة عالية في نفوس الناس وربما دعاهم إلى تقديسهم وهو ما سنتناوله في موضوع الديانة في المبحث الثالث ورغم قوة المملكة إلا أنها لم تخرج عن كونها إقليما تابعا لمملكة الفرثيين في بلاد الرافدين وإيران الأمر الذي دعا بعض ملوكها إلى محاولة مقاومة هذه السيطرة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا وخير دليل على ذلك تبنيهم لديانة غير ديانة السلطة الفرثية مع أن هذا الأمر لا يتنافى مع السياسة العامة للإمبراطورية لان الإمبراطورية كانت من النمط العلماني الذي يفصل الدين عن السياسة فبحسب روايات المؤرخ اليهودي يوسفوس فلافيوس أن اليهودية قد تغلغلت في منطقة آشور القديمة وان بعض ملوك حدياب قد دخلوا في اليهودية ويبدوا أن انتشار اليهودية قد جاء نتيجة الاحتكاك بين مملكتي ميسان وحدياب ما يدل على وجود علاقات ثقافية واجتماعية واقتصادية بين المملكتين وقد وقف ملوك حدياب إلى جانب اليهود في ثوراتهم المستمرة ضد الرومان في فلسطين وقدموا لهم مساعدات مادية مختلفة كما هو الحال عندما أرسلت هيلانة والدة الأمير ايزاط كمية كبيرة من القمح إلى أورشليم لإنقاذ أهلها من المجاعة وقد عرفت هذه الأميرة الحديابية بتدينها وتعصبها لملتها إذ يرجح أنها دفنت في فلسطين ولا يعرف كيف تم ذلك بسبب العداء بين حدياب ورعاتها الفرثيين من جانب والرومان من الجانب الآخر لكن يحتمل أن الأمر حصل خلال فترة من فترات السلام القليلة بين الدولتين إذ بقي ملوك حدياب يشكلون خصما في نظر الرومان وتدخلهم في شؤون الجالية اليهودية داخل حدود الإمبراطورية الرومانية يغيض الرومان كثيرا ويلقى بلاشك استحسان الأوساط الفرثية الحاكمة وربما حصل الحيديابيون على فوائد سياسية من ذلك إلا أن اليهودية لم تستقر كديانة رئيسية في حدياب على الرغم من اعتناقها من قبل الأسرة الحاكمة وحاشيتها المقربة لان الصراع الفرثي الروماني جلب معه ديانة أخرى هي الديانة المسيحية ويبدوا أن للعامل السياسي دور في تغلغل هذه الديانة في مملكة حدياب إضافة إلى القرب الجغرافي من سوريا موطن الديانة المسيحية ويبدوا أن بعض أمراء حدياب قد دانوا بالمسيحية وهو ما لم ينكره الفرثيون لان المسيحية ما زالت ديانة مضطهدة عند الرومان وقد نظر الفرثيون إلى الطائفة المسيحية على أنها طائفة صديقة بحكم العداء الذي يجمعهم ضد روما ما يعني أن المسيحية قد حازت الارجحية خلال تلك الفترة مع أن اليهودية لم تتلاشى من الوسط الحديابي بدليل بقائها ديانة بارزة من جملة الديانات الكثيرة التي يدين بها سكان المنطقة ويبدوا أن مملكة حدياب حفظت على ولائها للحكم الفرثي عندما شن تراجان حملته الشهيرة على بلاد الرافدين سنة 117 م والتي كادت تذهب بحكم الفرثيين في العراق لولا وفاة تراجان واضطرار خلفه هادريان إلى الانسحاب تحت وطأة الضغط الفرثي لقد عانت حدياب من هذا الغزو معانات كبيرة وتعرضت للتخريب حالها حال المناطق العراقية الأخرى إلا أنها وبعد انتهاء الغزو استعادت حيويتها بسرعة لذا بقي نفوذ مملكة حدياب قائما لسنوات أخرى لاحقة ولم تبقى العلاقات على حالها بين ملوك حدياب وملوك الفرثيين إذ أن كل طرف كان ينظر إلى الأمر من منظار مصالحه السياسية وقد رأى الحديابيون في ضعف الدولة الفرثية الذي بدأت علائمه تلوح بالأفق منذ بداية القرن الثاني فرصة للخلاص من وطأة الحكم الأجنبي ونيل الاستقلال المنشود حيث استغل احد أمرائهم المتأخرين واسمه نرساي ( 170 ndash; 200 م ) تصميم الإمبراطور ستمبيوس سفيروس على ضرب الحكم الفرثي ليضع نفسه في خدمته لكن الأمر لم يسر كما خطط له نرساي لان سفيروس الذي حقق الانتصار على الفرثيين واقتحم العاصمة طيسفون سنة 195 م هزم في النهاية مما اضطر الرومان إلى الانسحاب من بلاد الرافدين بعد أن تعرضت قواتهم لخسائر كبيرة الأمر الذي أخلى سبيل الفرثيين ليبدءوا بتصفية الحساب مع أتباعهم الذين ظاهروا الغازي الروماني وكان نرساي من جملتهم حيث هاجمه الفرثيون وأطاحوا بعرشه واستباحوا الكثير من مدنه ويبدوا أن هذه الغزوة كانت ذات نتائج سلبية على مملكة حدياب التي تعرضت للإذلال وتقلص كثير نفوذها السياسي حتى تلاشت في النهاية ويبدو أن العلاقات الفرثية الحديابية تحسنت بعض الشيء في بداية القرن الثالث حتى أنهم قاوموا الحملات الروماني التالية مستفيدين من درس الغزوة السابقة فتعرضت بلادهم للتخريب ولكن الفرثيين طردوا الرومان وعاد الحكم الحديابي مرة أخرى إلا أن قوة جديدة برزت على السطح آنذاك تمثلت ب قوة الفرس الساسانيين الذين أطاحوا بحكم الفرثيين سنة 226 م وحلوا محلهم ويبدوا أن مملكة حدياب بقيت على ولائها للفرثيين ما جعلها هدفا لانتقام الساسانيين الذين أطاحوا باستقلالها النسبي وعينوا أميرا من الأسرة الحاكمة الساسانية وهو اردشير حاكما على حدياب ما يعني بقاء أهميتها السياسية الكبيرة لدى الحكام الجدد .

قائمة ترجيحية لملوك حدياب
(1)Izates I (c. 15 AD)
(2) Bazeus Monobazus I (20?ndash;30?)
(3) Heleni (c. 30ndash;58)
(4)Izates II bar Monobazus (c. 34ndash;58)
(5) Vologases (a Parthian rebel opposing Izates II) (c. 50)
(6) Monobazus II bar Monobazus (58 ndash; middle of the 70s)
(7) Meharaspes (?ndash;116) To the Roman Empire (116ndash;117)
(8) Narsai of Adiabene (c. 170ndash;200)
(9) unknown (200 ndash; c. 310)
(10) Aphraates (c. 310) To the Sassanid Empire (226ndash;649)


المبحث الثالث ---------
ديانات حدياب وحضارتها

لم تختفي الحضارة الرافدينية ( الفرع الأشوري ) بسقوط الدولة الآشورية على يد البابليين عام 612 قبل الميلاد بل استمرت هذه الحضارة تقاوم عوامل الفناء لقرون أخرى لاحقة وخير دليل على ذلك بقاء عبادة الآلهة الرافدينية آشور وشيرو وعشتار ونانيا وبيل ونابو ونركال إلى القرن الثالث الميلادي إلا أن بقاء هذه الديانة لا يعني أنها مازالت ديانة سائدة إذ نافستها ديانات أخرى أبرزها الديانة الزرادشتية ديانة الإمبراطوريات الحاكمة في بلاد الرافدين والديانة اليهودية التي يدين بها أفراد الجالية اليهودية في شمال العراق والذين تم سبيهم من موطنهم في فلسطين خلال العهد الأشوري إلا أن أيا من هاتين الديانتين لم يشكل منافسا حقيقيا للديانة الرافدينية لان سكان المنطقة عزفوا عن الدخول في الديانة الزرادشتية كونها ديانة السلطة الأجنبية الحاكمة فيما لم تنتشر الديانة اليهودية بسبب طابعها غير التبشيري إلا أن تطورا مهما حصل خلال العقود الأولى من العهد المسيحي حينما اعتنق أمير حدياب الديانة اليهودية وقد أبان المؤرخ الروماني اليهودي الأصل فلافوس جوزيفوس عن أن هذا الأمر تم بعد التقاء ولي العهد الحديابي أيزاد بأحد تجار ميشان ومن ثم وبعد تولي هذا الأمير السلطة في حدياب جعل اليهودية دينا رسميا للإمارة ويبدوا أن هذه الديانة لم تقتصر على السلالة الحاكمة بل تعدتها إلى جزء كبيرا من شعب حدياب فقد أشير إلى أن مجموعات كبيرة من الأمراء والأهالي الأصليين لمملكة حدياب ومدينة اربل اعتنقوا الديانة اليهودية لكن سيادة الديانة اليهودية على حدياب لم تستمر إلا وقتا قصيرا مابين 50 إلى 100 سنة حيث بدأت ديانة جديدة بالانزياح إلى المجتمع الحديابي وهي الديانة المسيحية التي اختلفت الروايات حول زمن وطريقة انتشارها وبحسب المؤرخ يوسابيوس القيصري فان ( مار أدي ) هو المبادر إلى ذلك إلا أن هناك نظرية أخرى ترى أن تلميذي أدي أجاب وماري هما الذان تكلفا بذلك بعد أن بشرا بها في مدينة اربيل وفي كتاب يسمى ( تاريخ اربيل ) يعود إلى القرن السادس الميلادي يرد ذكر أن اداي نفسه قد رسم الأسقف الأول في حدياب وهو رجل اسمه ( بقيذا ) سنة 104 م بعد أن كان زرادشتيا حيث اهتدى بعد

أن رأى مار أدي القادم من الرها وهو يعمل المعجزات بإحياء الأموات وتمضي إحدى الروايات بعيدا عندما تعد انتشار المسيحية نتيجة لإيمان احد الأمراء الحديابيين وهو أيزاد الحديابي سنة 59 م ويبدوا إذا ما صحت هذه الرواية أن هذا الأمير غير الأمير الحديابي الذي اعتنق اليهودية على الرغم من تشابه الاسم إذ أن هناك أكثر من أمير حمل اسم أيزاد وقد بالغت إحدى الروايات بوصف الطريقة التي اعتنق بها الأمير المسيحية حيث نسبت ذلك إلى معجزات مار أدي الذي شفى الملك من داء الجرب ومن خلع يده اليسرى وبعد أن رأى زرادش قائد الجيش ذلك اعترته الدهشة والانذهال وطلب من مار أدي شفاء ابنه الوحيد المدعو دادي الممسوح بروح نجسة فبراه منها وبهذه المعجزات وغيرها كما تصف الرواية امن الملك وقائد جيشه والأشراف وكثير من أبناء اربيل . وعلى ما يرجح فان مصدر هذه الروايات هي الأروقة الشعبية الأمر الذي يفسر احتوائها على عنصر المبالغة وكما اشرنا في السطور الماضية فان المسيحية حققت نجاحات كثيرة في حدياب حتى بلغت مرتبة الأسقفية حيث حاز بقيذا على كرسيها من سنة 104 إلى سنة 114 م وبعد فراغ كرسي الأسقفية لستة سنوات بسبب الحرب ودخول الرومان إلى حدياب في عهد تراجان سنة 117 م عين شيشرون أسقفا سنة 120 وبقي في الأسقفية إلى سنة 123 م حيث قتل على يد طائفة المجوس فعد أول شهداء المسيحية في حدياب ثم تولى إسحاق وظيفة الأسقف فكان أهم عمل ينسب له تدريسه ل ( رقبخت ) حاكم حدياب وكذلك عمده خفية خوفا من ملك الفرثيين ولغش الثاني الأمر الذي اغضب المجوس وجعلهم يهمون بقتل الأسقف لولا أن سارع حاكم حدياب إلى إنقاذه ومن أعماله أيضا بناء كنيسة في حدياب عرفت باسمه توفي سنة 148 م بعده جاء إبراهيم وهو من مواليد بلدة حردا القريبة من الموصل حيث اخذ يجول في الجبال مبشرا بالنصرانية وذهب إلى المدائن لكسب تعاطف الفرثيين لإخوانه في العقيدة إلا أن جهوده باءت بالفشل بعد قدوم الرومان ومحاصرتهم للمدائن سنة 165 م بقيادة لوقيوس واروس ثم مات قي نفس السنة من اثر وباء داهم بلدته حيث خلفه نوح وهو من أهالي بلدة الانبار وهو من الذين حجوا إلى أورشليم حيث قام بذلك مع أبويه قبل توليه منصب الأسقفية قاس السجن خمس مرات وجلد 12 مرة من اجل عقيدته الأمر الذي جعل ذكراه حية في نفوس الناس الذين نقلوا عنه الكثير من المعجزات توفي سنة 181 م وبعد وفاته بنى الأهالي فوق ضريحه كنيسة سميت باسمه فرغ كرسي الأسقفية مرة أخرى وفي عام 185 م انتخب هابيل أسقفا على حدياب اشتهر بالوداعة ولين العريكة وفي وقته هاجم ولجش الرابع مدينة حدياب للانتقام من ملكها


نرساي الذي مالئ الروم ما أدى إلى تعرض حدياب إلى التخريب على يد ذلك الملك بعد هابيل جاء عبد المسيح الذي تنصر بعد رحلة إلى إنطاكية ودمشق وهو من أطول من تولى الأبرشية في حدياب حيث بقي في كرسيها 35 سنة وقيل 25 ومن أعماله بناءه العديد من الأديرة والكنائس جاء بعده حيران الذي سقطت في عهده دولة الفرثيين حيث عاصر بدايات العهد الساساني الذي أطاح باستقلال حدياب بعد وفاته سنة 258 م تولى شحلوفا وهو من مواليد بلدة تقع بين العمادية والموصل كرسي الأسقفية في حدياب عرف بمواقفه لنصرة أخوانه المسيحيين في تل تباحا والمدائن أما دابوري فهو ابن احد كهنة اربيل زار المدائن لنصرة مسيحييها وعين عليهم (فافا ) الذي يعد أول جاثليق مسيحي يتولى كرسي المدائن ما يعطي لحدياب أهمية كبيرة في مسار تاريخ المسيحية في العراق ويضع أساقفتها في مقدمة الأساقفة المثابرين والمضحين من اجل العقيدة ثم جاء شريعا الذي حاول الوقوف بوجه ادعاءات فافا بالزعامة على كل أساقفة المشرق وقد أيده في ذلك الاكليروس والشعب والكثير من أساقفة المشرق إلا أن فافا راسل سعد أسقف الرها ( 313 ndash; 324 ) وأساقفة المغرب فحبذوا طلبه وساندوه الأمر الذي أحبط مساعي شريعا ثم استمر توسع الديانة المسيحية حتى عدت ابرز ديانة في شمال العراق خلال العهد الساساني كذلك ظهر دين آخر في هذه المنطقة هو الدين الايزيدي حمل عناصر من جملة الديانات التي تتواجد في منطقة حدياب ربما يمثل محاولة لإنتاج دين يجمع جميع الخلفيات الدينية للدولة ومن المحتمل أن هذا الدين قد ارتبط باسم الملك أيزاد ربما ايزاد اليهودي أو ملك أخر سبقه إذ لا نمتلك تسلسلا واضحا لملوك حدياب وفي عهد هذا الملك بلغت مملكة حدياب أقصى اتساعها الأمر الذي دفع الناس إلى تقديسه وربما عد بسب ذلك من الأولياء . أما حضارة المنطقة الآشورية في عهد مملكة حدياب فقد كانت بارزة ومؤثرة ومن ابرز ما يحسب لهذه الحضارة تأثيرها الكبير في الحضارتين اليونانية والرومانية فمن بين الكتاب الذين نقلوا التراث الرافديني ( لوقيانس السمسياطي ) الذي يعرف نفسه كأشوري غير فصيح اللسان مرتديا سترة منسوجة تقريبا على الطراز الأشوري و ( بامبليخوس ) السرياني من أهل القرن الثاني الميلادي الذي كتب رواية مدونة عن بابل أما ( طيطيانوس ) فيشير صراحة إلى أصله الآشوري عندما قال عن نفسه انه quot; يتفلسف بأسلوب البرابرة مولود في ارض الآشوريين حيث تثقف أولا على مبادئهم ( أي مبادئ الإغريق ) ثم اصرخ أنا الآن ارفض الحضارة الإغريقية لأنها شيء غير جدير بالاقتناء ) ومن التأثيرات التي يشار أن للاشوريون يد فيها تسلل عقيدة الثالوث المقدس إلى الديانة المسيحية حيث يشار إلى أن هذه العقيدة لم تدخل اللاهوت المسيحي قبل القرن الثالث الميلادي حيث كان البابا ديونيسيوس بابا روما مندهشا بفكرة الاقانيم الثلاثة المقترحة من قبل

اورجينس وهنا يبرز السؤال : من أين أتى اورجينس بهذه الفكرة ؟ أن معلمه كما هو معروف هو كليمنسن الاسكندري الذي بدوره تتلمذ على يد طيطيانوس انف الذكر والذي قلنا انه من أصل آشوري على أننا لا نعلم على وجه اليقين من أي بلدة من بلاد آشور جاء طيطيانوس ؟ وهل هو من أبناء منطقة آشور ؟ أم من قاطني سوريا إلا أننا نعلم انه آشوري وانه ينتمي إلى التقليد الديني الذي كانت فيه أفكار الثالوث متداولة ومعروفة لعدة قرون .


قائمة بأسماء أساقفة حدياب

bull;Pkidha (104-114)
bull;Semsoun (120-123)
bull;Isaac (135-148)
bull;Abraham (148-163)
bull;Noh (163-179)
bull;Habel (183-190)
bull;Abedhmiha (190-225)
bull;Hiran (225-258)
bull;Saloupha (258-273)
bull;Ahadabuhi (273-291)
bull;Sri'a (291-317)
bull;Iohannon (317-346)
bull;Abraham (346-347)
bull;Maran-zkha (347-376)
bull;Soubhaliso (376-407)
bull;Daniel (407-431)
bull;Rhima (431-450)
bull;Abbousta (450-499)
bull;Joseph (499-511)
bull;Huana (511-???)


الخاتمة ---

والآن وبعد أن اكتمل بحثنا عن حدياب لابد أن نعرف أهم النتائج التي خرجنا بها عن هذه المملكة ودورها الحضاري خلال فترة بروزها السياسي خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين .
إن أهم النتائج التي خرج بها البحث هي ما يلي :
(1)أن المنطقة الآشورية استعادت شيئا من بريقها السياسي السابق من خلال دولة حدياب التي كانت تتمتع باستقلال ذاتي ضمن حدود الإمبراطورية الفرثية .
(2)مثلت حدياب أول دولة عراقية تعتنق اليهودية وتجعلها دينها الرسمي في وقت كانت فيه اليهودية تتعرض للضغط الروماني .
(3)كانت حدياب من أولى المناطق العراقية التي تستقبل التبشير المسيحي وكان لها دور في نشر الديانة المسيحية في العراق قبل العهد الإسلامي .

(4)بقيت الحضارة الرافيدينية بشقها الآشوري مصدر إشعاع حضاري كبير للغرب والشرق معا .
(5)لم ينتهي دور المنطقة الآشورية بسقوط حدياب على يد الساسانيون مثلما لم يحصل ذلك في العهد الآشوري الذي شهد سقوط الدولة الآشورية عام 612 قبل الميلاد .


المصادر

(1) احمد قوشجو اوغلو ، جولة في ديار التركمان ، مقالة منشورة في موسوعة تركمان العراق على الموقع الالكتروني :
www.alturkmani.com
(2) ريبر جعفر ، تاريخ كردستان القديم ، ص 30 ، مقالة منشورة على الموقع الالكتروني :
http//ar.wikipedid.org/wiki
(3) عبد العزيز عبد الأحد نباتي ، تاريخ عنكاوة ، ( اربيل : مطبعة صلاح الدين ، 2000 )
(4) آرثر كريستنسن ، إيران في عهد الساسانيين ، ترجمة يحيى الخشاب و عبد الوهاب عزام ، ( بيروت ، 1982 )
(5) سيمون بار بولا ، الآشوريون بعد سقوط آشور ، ترجمة : زكريا نينونيا ، بحث مقدم إلى المؤتمر القومي الآشوري في لوس أنجلس 4 أيلول 1999 م
(6) جواد مطر الموسوي ، الأحوال العسكرية في الحضر قبل الإسلام ، مجلة الآداب الصادرة عن كلية الآداب /جامعة بغداد ، العدد (71 ) ، 2005 .
(7) جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ج 3
(8) يوسف رزق غنيمة ، نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق ( مع ملحق ) ، ( لندن : دار الوراق ، 1997 )
(9) نقلا عن مقالة منشورة في مجلة كلمة الراعي الصادرة عن أبرشية جبيل والبترون للروم الارذوكس ، الأحد 18 أيار 2003 ، العدد (20 )
(10) نقلا عن المصدر الالكتروني :
http://en.wikipedia.org/wiki/Adiabene
(11) الموقع الالكتروني :
http://www.jerusalempedia.com/Tombs_of_the_Kings.html

(12) فؤاد يوسف قزانجي ، المسيحيون في العراق ، مقالة منشورة على الموقع الالكتروني التالي : www.zenit.org
(13) الأب فيليس الشابي ، تاريخ كنيسة المشرق الكلدانية القرون من 1 إلى 4 ، جزء 2 ، نقلا عن موقع مجتمعنا الكلداني الالكتروني :
www.keldaya.net
(14) نقلا عن موقع مطرانية السريان في حلب على الموقع الالكتروني : syrcata.org / insex.php
(15) نقلا عن مقالة منشورة على الموقع الالكتروني التالي :
www.betnahrain.net/arabic/history/fall
(16) أخذت المعلومات من الموقع الالكتروني :
http://www.nestorian.org/bishops_of_adiabene.html