يطرح الفيلسوف العربي المغربي الدكتور طه عبد الرحمن ضمن مشروعه النهضوي فكرة أو فلسفة (التكوثر العقلي)، وجوهر الفكرة يتضاد مع وحدة العقل، فليس هناك عقل واحد، بل ما لا يحصى من (العقول)! وكان قد وضع اللبنات الاولى لمشروعه في كتابه (التكوثر العقلي) ثم اتخذ مسارا توضيحيا وتفصيليا في كتابه (العمل الديني وتجديد العقل)، ويبدو لي أن مبعث ا لفكرة من حيث المنشأ هو قوله تعالى (ولهم قلوب لا يفقهون بها)، حيث تطرح الآية بوضوح أن أداة التفكير هو (القلب)، وفيما القلب لغةً يفيد التقلّب والانتقال من حال إلى حال، وبا لتالي، يكون العقل ليس بذاك الفعل القار، بل هو سلسلة من الافعال، وكل فعل هو بمثابة (عقل)، على أن (تكوثر العقول) ليس مشروعا داخل العقل الانساني خاصة، بل هي نظرية أشمل، فما يدرينا لعل هناك من المخلوقات ما يتمتع بالعقل وليس ذلك حصرا على الانسان، وبالتالي، هناك تعدد بالعقول خارج العقل الانساني بالذات، وهو ما يمكن التماسه بجهود الفلاسفة الاغريق الذين قالوا بتعدد الآلهة، وربما أضفوا مسحة من التقديس والقوة والمنعة وا لمكنة على هذه العقول أكثر مما أضفوا على العقل الانساني، ومن هنا يرفض الدكتور عبد الرحمن المقولة الارسطية المشهورة، تلك التي تقول (الانسان حيوان ناطق)، حيث جرت مجرى المثل، فليس هناك تطابق بين الانسانية والعقلانية، باعتبار التوحد الكامل، والتماهي الذي لا يُخترَق، لان العقلانية ليست صفة إنسانية على وجه الحصر، حيث يأتي المحمول هنا باعتباره فصلا قريبا للجنس القريب، الامر الذي يحتكر معه الانسان هذا الفصل على نحو التفرد المطلق، وبالمثل، من يقول أن الحيوانات التي هي أقل درجة في تصنيف الانواع لا تتمتع بميزة العقل، ولو بدرجات أو مراتب عمّا يتمتع به الا نسان، والعقل بحد ذاته قد يكون (على أطوار)، وهذه الاطوار قد تتقارب وقد تتباعد، فكل مُدرَك عقلي يعبر عن طور من أطوار العقل، وعليه، هناك طور أول وطور ثاني، وهكذا، تبعا لاختلاف المُدركَات وظروفها، فهناك (الادراك المشخص)، وهناك (الإدراك المجرّد)، والفارق بينهما هو شدة التجريد.
لقد نسب الفلاسفة مقولتي أو نشا طي (النظر) و (العمل) إلى العقل، وعليه، ما المانع من تحقيق أو توكيد أو شرعنة هذه النسبة بين العقل والذوق، فيكون لدينا (العقل الذوقي)، وبين العقل والوجدان، فيكون لدينا (العقل الوجداني)، وهكذا / راجع التكوثر العقلي ص 218 ــ 222 /
يرفض الدكتور عبد الرحمن أن نسمي العقل بـ (الجوهر) أو نطلق عليه هذ المصطلح المعروف، و الذي يعني (القائم في غير موضوع) كما تعرِّفه الفلسفة التقليدية، مثله مثل المادة، فإن الجوهر قائم بنفسه، فيما العقل عبارة عن فعل كما مرّ بنا، والفعل لا يقوم بنفسه، وعليه، ليس نقضا دقيقا على ما يقول الدكتور عبد الرحمن ذاك الذي يفسر النشاطات العقلية باعتبارها تجليات للعقل، لان العقل هو هذه التجليات، غاية ما في الامر هناك إساءة بالتسمية، لا نه فعل أساسا، فأن هذه النظرة للعقل تدعي أو تفيد أن العقل (واحد في جوهره متغير في أعراضه) 92/ نفسه ص 404 /، هذا فضلا عن أ ن هناك شكا يدور حول وجود ما يسمى بـ (الجوهر)، فهو (أمر غير مسلم، وكل ما نعلمه ينحصر فيما نخبره في انفسنا وفي غيرنا من الاعراض الإدراكية) 93/ نفسه ص 404 /
الاصل في العقل (الكثرة) ومما يشفع في هذا الإمضاء هو الكثرة في [ الاستلزامات المنطقية... والبنيات الرياضية... وقيم التصديق والتكذيب... والذوات الخطابية التي يتقلَّب بينها المتكلم والمستمع)، وهذا يرد على الفلسفة التي تقول بـ (وحدة العقل) ] 94/ نفسه ص 404 /
فالعقل إذن فعل، وأداة هذا الفعل هو الفؤاد، القلب، وافعال القلوب (العقول) متغيرة، متكثرة، بلا حساب، بلا حد، ذلك هو جوهر التكوثر العقلي.

هل العقل هو القلب؟
أي هل العقل الذي هو (فعل) ذاته (القلب)، فيكون حينئذ (العقل)هو عين أداته أو عين حامله ؟ أم أن (العقل) هو أحد عطاءات (القلب)، فيكون غير أداته، أو غير حامله ؟
أن القلب كما مرّ بنا يفيد التقلب من حال إلى حال، وبهذا الاعتبار تكثرت العقول، ومن هنا يمكن أن نقول أن (العقل) عين حامله (القلب)، وبهذه الصفة، أي التغير وا لتقلب من حال إلى حال، وهو ما يمكن أن نستفيده من نظرية التكوثر العقلي في بعض عبارا تها وتقريراتها، وأما إذا قلنا أن العقل كونه فعلا لم يكن سوى تجليا أو احد نشاطات القلب، وأ نه متكثر بصرف النظر عن حامله، كما هو حال المُبصرات بالنسبة للعين، فإن المُبْصرات متكثرة، حيث العين تبقى هي، فإذا كان الامر كذلك، فأين نضع مفردة القلب بلحاظ كونه متقلب الا حوال، متقلب النشاط ؟!