تجتاح العديد من العواصم العربية مظاهرات واحتجاجات غضب عارمة، أعقبت ثورة الشعب التونسي الشجاعة التي أشعلها الشاب محمد بوعزيزي الذي ضحّى بنفسه من أجل شعبه، فكان له وللشعب ما أرادا، برحيل وهروب (زين الهاربين بن علي) بطريقة مذلّة ستنسيه وليلاه أيام العز التي قامت على قمع شعب ونهب ثروته. أفرزت هذه المظاهرات نمو ظاهرة عربية بامتياز هي وقوف قوى الأمن والشرطة والبوليس في الغالب في صفوف الطغاة والمستبدين، لأنّ هؤلاء الطغاة يحركّون هذه القوى البوليسية بالريمونت كونترول، فينزلوا للشوارع بشجاعة وكراهية متناهية، يتصدّون للمتظاهرين من أبناء شعبهم بكل وسائل العنف بما فيها إطلاق الرصاص الحي في أغلب المظاهرات، موقعين دوما قتلى وجرحى، رغم أنّ هذا الشرطي يعرف أنّه في الغالب من بين هؤلاء المتظاهرين العديد من أفراد عائلته أوقريته أومدينته، وبالتالي ربما يسقط بعضهم من جراء إطلاقه الرصاص على هؤلاء الغاضبين من المستبد وبقائه في السلطة عشرات السنين، سارقا ناهبا ثروة شعب بكامله، محّولا الوطن لمزرعة خاصة به وبعائلته.

ظاهرة تحتاج لدراسة نفسية

هذه الظاهرة المشخّصة في حالة العداء والاستنفار بين قوى الأمن العربية وشعوبهم، تحتاج فعلا لدراسة نفسية تربوية، تجيب على سؤال: كيف يجرؤ هذا الشرطي أو الجندي على إطلاق الرصاص الحي على أبناء شعبه تلبية لأوامر طاغية، يعرف هذا الشرطي مهما كان مستواه التعليمي، أنّه إما استولى على السلطة عبر انقلاب عسكري غير مشروع، أو هو باق في السلطة منذ عشرات السنين، وورثها لإبنه أو يستعد لذلك؟. هل هذا الشرطي أو الجندي فقد أية حاسة أو ضمير إنساني؟. أم أنّ طبيعة التربية التي تعرض لها في الدورات الأمنية والعسكرية، أفقدته هذا الضمير من خلال تنامي الاحساس بالخوف والهلع إن هو خالف أوامر الطاغية؟. أعتقد أساسا أن هذا الشرطي كمواطن يعيش حالة الخوف من المستبد كغيره من المواطنين، وتنامت ظاهرة الخوف هذه عنده من خلال التربية والتثقيف الذي تعرض له عند إعداده كي يكون حارسا وأمينا على المستبد وأجهزته ودوائره، بغض النظر عمّا يرتكبه بحق الشعب الذي ينتمي هذا الشرطي له. وإلا بماذا نفسّر هذا العنف الذي يرقى لمستوى الجريمة المنظّمة من غالبية رجال الأمن والبوليس العربي اتجاه مواطنيهم، ليس في مظاهرات الغضب والاحتجاج الحالية، ولكن في كافة نواحي الحياة اليومية التي يحتكّ فيها المواطن العربي بأي رجل أمن في بلاده؟.

لا سلاح بيد رجال الأمن والبوليس

هذه الحالة العربية المخزية، تقابلها حالات إنسانية حضارية بين البوليس ومواطنيه، فمن يصدّق أنه في النرويج وعموم البلدان الإسكيندينافية لا يحمل رجال الأمن والبوليس والشرطة أي نوع من السلاح، سواء في الشوارع أو المقار الحكومية. وأتذكر أنه قبل سنوات قليلة اقترح بعض النوّاب السماح لرجال البوليس النرويجي بحمل السلاح أثناء تأدية عملهم، فرفض وزير العدل هذا الاقتراح، وهدّد بالاستقالة إن تمت الموافقة عليه. لذلك لا خوف في هذه البلدان من رجل الأمن أو البوليس، حتى في حالات القبض على لص أو مخالف للقانون ، فإنها تتم بطرق قانونية تخلو في أعلب الأحوال من أي عنف مصاحب.

كيف سيكون الطاغية بدون قوى الأمن والجيش؟

أعتقد أنّ هذا السؤال أجابت عليه الحالة التونسية مع زين الهاربين بن علي وليلاه، إذ أعتقد أنه لو ضمن تنفيذ قوى الأمن والجيش التونسي لأوامره بالتصدي للمتظاهرين الغاضبين، لما هرب بهذه السرعة والطريقة التي لا يقوم بها إلا اللصوص السارقين. وقد أصبح مؤكدا موقف الحنرال رشيد عمّار قائد الجيش التونسي بأنه رفض أوامر زين الهاربين بتدخل الجيش لحمايته وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، لذلك أقاله بن علي لهذا الموقف الأخلاقي الشجاع، ويقال أنه لم يكتف بهذا الموقف ، بل انتقد الطريقة الحديدية التي يدير بها بن علي الأزمة الاجتماعية المتصاعدة في البلاد، ونصحه بالتنحي عن الحكم. وكم كانت مؤثرة صور العديد من الشباب التونسي المتظاهرين ضد الطاغية، وهم يهربون من رصاص الشرطة وهراواتها ليحتموا بدبابات الجيش التونسي وضباطه، وفي أكثر من مشهد كان الجيش التونسي يتعرض للشرطة التي تحاول إطلاق الرصاص على المتظاهرين. وكان منظرا جديدا على العالم العربي أن يطلّ قائد الجيش التونسي الجنرال رشيد عمّار ليخطب في المتظاهرين المعتصمين أمام مقر رئاسة الوزراء، مؤكدا لهم يوم الرابع والعشرين من يناير: ( أنّ ثورة الجيش هي ثورة الشعب، وأنّ الجيش يحمي العباد والبلاد، والجيش هو حامي هذه الثورة، وأنه هو الضمان لذلك. لا تضيعوا هذه الثورة المجيدة، أنا صادق وكل القوات المسلحة صادقة لكي تصلّ السفينة إلى شاطىء السلام. نحن مع دستور البلاد وحماة لدستور البلاد ولا نخرج عن دستور البلاد). هذا موقف يستحق الاحترام والتقدير من الجنرال رشيد عمّار ليته يسري بين كافة جنرالات العرب، أي أن يكونوا مع شعوبهم وفي خدمتها وليس مع الطاغية وخدمته في مزيد من الاستبداد والفساد والظلم والطغيان.

إنها ثقافة عدم إطالة اللسان

الثقافة والتربية السائدة لا تتجزأ، فهي التي تنتج السلوك والأخلاق المتداولة بين الشعوب، ويشارك في ترسيخ هذه الثقافة مناهج التعليم السائدة، ومواقف بعض رجال الدين (واطيعوا أولي الأمر منكم )، وبعض القوانين الموجودة في أغلب الأقطار العربية التي تنصّ على عدم جواز نقد الحاكم رئيسا أو ملكا، وتضع لهذا القانون اسما مضحكا وهو (إطالة اللسان ). اي أنّ المواطن يجب أن يكون قصير اللسان أو مقطوعه لا يستطيع الكلام أيا كان نوعه خاصة نقد الحاكم. هذا بينما في أمريكا وأوربا ينشر الصحفيون والكتاب حتى الفضائح الجنسية للحاكم بدون أية مساءلة أو اعتقال أو اتصال تليفوني ينذّر بالويل والثبور، ولنا مثال هذه الأيام في الحديث اليومي عن فضائح رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني الجنسية. وهو ساكت خجول لا يملك حق أو قوة الاتصال بأي صحفي لتهديده أو إرسال شرطي له ليصفعه على وجهه في الشارع أو علنا في مقر جريدته كما يحدث في بلاد العرب أكفاني.

نعم..إنه الجيش وقوى الأمن

لو ضمن الحاكم منذ اللحظة الأولى لاستلامه السلطة، أنها ستكون في صفّ الشعب وليس في صفّه ضد الشعب، أعتقد أنه لمّا فكّر في أن يتحول إلى طاغية ولص سارق للبلاد والعباد، وبالتالي سيصبح الحكم عنده مسؤولية وليس مركزا للنصب والاحتيال والثروة غير المشروعة، والنتيجة هي عدم تفكيره مطلقا في أن يبقى في السلطة من المهد إلى اللحد ثم التوريث للأبناء ومن بعدهم الأحفاد. وهذا لا ينفي مسؤولياتنا كشعوب عربية عن استمرار هؤلاء الطغاة، لأنّ خروج الملايين للشارع احتجاجا وتظاهرا، لن توقفها أية قوة في خدمة الطغاة، إذ ان طائراتهم جاهزة للهروب. وهذا الهروب لن ينفعهم إذا تمّ تنفيذ مذكرة التوقيف الدولية التي أصدرها القضاء التونسي بحق زين الهاربين وليلاه وبعض أفراد أسرتيهما، وهذا سيترتب على الموقف الدولي من هذه المذكرة ومدى التعاون لتطبيقها، وتسليم المتهمين لتونس كي تجري محاكمتهم ، واستعادة المليارات التي سرقوها من ثروة الشعب التونسي...عندئذ ربما يتعظّ الطغاة الباقون في الحكم.
[email protected]